الرئيس السيسى يصدّق على إطلاق مبادرة "مصر معاكم" للأبناء القصر للشهداء    سعر الحديد اليوم الأحد 15-6-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    الرقابة المالية تقرر مد مهلة توفيق أوضاع شركات التأمين لمدة عام    رئيس الوزراء: رؤيتنا للمستقبل ترتكز على الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص    الرئيس السيسى يؤكد لنظيره القبرصى رفض مصر التام توسيع دائرة الصراع بالمنطقة    العراق: نرفض بشدة اختراق أجوائنا فى الحرب الإيرانية الاسرائيلية ونبذل أقصى درجات ضبط النفس    في نفس اليوم.. الشناوي يرسخ عقدته لسواريز بكأس العالم مع الأهلي والمنتخب    وزير التربية والتعليم يطمئن على الحالة الصحية لعدد من الملاحظين بعد تعرضهم لحادث سير بسوهاج.. ويوجه بالتنسيق مع المحافظة لتوفير سبل الرعاية لهم    وكيل الأزهر يشكل لجنة عاجلة لفحص شكاوى طلاب العلمي من امتحان الفيزياء    إحباط تهريب بضائع عبر المنافذ الجمركية    محمد فضل شاكر يشارك شيرين عبد الوهاب حفل ختام مهرجان موازين    وزير الأوقاف: الإمام الليث بن سعد قامة علمية ووطنية ملهمة    في عيد ميلاده ال33.. محمد صلاح يخلد اسمه في سجلات المجد    هذه القافلة خنجر فى قلب القضية الفلسطينية    حزب العدل والمساواة يعقد اجتماعًا لاستطلاع الآراء بشأن الترشح الفردي لمجلس الشيوخ    وزير التموين يتابع مخزون السلع الأساسية ويوجه بضمان التوريد والانضباط في التوزيع    تنفيذ 25 قرار إزالة لتعديات على أراض بمنشأة القناطر وكرداسة    "لا للملوك": شعار الاحتجاجات الرافضة لترامب بالتزامن مع احتفال ذكرى تأسيس الجيش الأمريكي    محافظ بورسعيد يتفقد غرفة عمليات الثانوية العامة لمتابعة انتظام الامتحانات في يومها الأول    وزيرة التنمية المحلية تتفقد أعمال تنفيذ المرحلة الأولى من تطوير سوق العتبة بتكلفة 38 مليون جنيه    رئيس قبرص: إيران طلبت منا نقل رسالة إلى نتنياهو بإنهاء الحرب    سعادة بين طلاب الثانوية العامة في أول أيام مارثون الامتحانات بالقليوبية    وصول جثمان نجل الموسيقار صلاح الشرنوبي لمسجد عمر مكرم    عضو حزب المحافظين البريطاني: إسرائيل تقترب من تحقيق أهدافها    100 ألف جنيه مكافأة.. إطلاق موعد جوائز "للمبدعين الشباب" بمكتبة الإسكندرية    نظام غذائي متكامل لطلبة الثانوية العامة لتحسين التركيز.. فطار وغدا وعشاء    الداخلية تضبط 6 ملايين جنيه من تجار العملة    حسين لبيب يعود إلى نادي الزمالك لأول مرة بعد الوعكة الصحية    رئيس مجلس النواب يحيل قرارات جمهورية ومشروعات قوانين للجان النوعية    فوز طلاب فنون جميلة حلوان بالمركز الأول في مسابقة دولية مع جامعة ممفيس الأمريكية    جامعة القاهرة تنظم أول ورشة عمل لمنسقي الذكاء الاصطناعي بكلياتها أكتوبر المقبل    رئيس النواب يفتتح الجلسة العامة لمناقشة مشروع الموازنة العامة للدولة    يسري جبر يوضح تفسير الرؤيا في تعذيب العصاة    "برغوث بلا أنياب".. ميسي يفشل في فك عقدة الأهلي.. ما القصة؟    المؤتمر السنوي لمعهد البحوث الطبية يناقش الحد من تزايد الولادة القيصرية    لأول مرة عالميًا.. استخدام تقنية جديدة للكشف عن فقر الدم المنجلي بطب القاهرة    الداخلية تواصل استخراج المستندات لكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة    وائل كفوري يشعل أجواء الصيف بحفل غنائي في عمّان 15 أغسطس    تحرير 146 مخالفة للمحلات لعدم الالتزام بقرار ترشيد استهلاك الكهرباء    الأنبا إيلاريون أسقفا لإيبارشية البحيرة وتوابعها    البابا تواضروس يترأس قداس الأحد في العلمين    الأردن يعلن إعادة فتح مجاله الجوي بعد إجراء تقييم للمخاطر    9.5 مليار جنيه ل«مُربى البتلو»    «فين بن شرقي؟».. شوبير يثير الجدل بشأن غياب نجم الأهلي أمام إنتر ميامي    تداول امتحان التربية الدينية بجروبات الغش بعد توزيعه في لجان الثانوية العامة    فيلم سيكو سيكو يحقق أكثر من ربع مليون جنيه إيرادات ليلة أمس    محافظ أسيوط يفتتح وحدتي فصل مشتقات الدم والأشعة المقطعية بمستشفى الإيمان العام    توافد طلاب الدقهلية لدخول اللجان وانطلاق ماراثون الثانوية العامة.. فيديو    حظك اليوم الأحد 15 يونيو وتوقعات الأبراج    متى تبدأ السنة الهجرية؟ هذا موعد أول أيام شهر محرم 1447 هجريًا    مقتل ثلاثة على الأقل في هجمات إيرانية على إسرائيل    الغارات الإسرائيلية على طهران تستهدف مستودعا للنفط    اليوم.. الأزهر الشريف يفتح باب التقديم "لمسابقة السنة النبوية"    أصل التقويم الهجري.. لماذا بدأ من الهجرة النبوية؟    لافتة أبو تريكة تظهر في مدرجات ملعب مباراة الأهلي وإنتر ميامي (صورة)    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 15-6-2025 في محافظة قنا    هاني رمزي: خبرات لاعبي الأهلي كلمة السر أمام إنتر ميامي    موعد مباراة الأهلي وإنتر ميامي والقنوات الناقلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجنة والجحيم بقلم د. مصطفي محمود
نشر في صباح الخير يوم 10 - 08 - 2010


بقلم : مصطفى محمود
كان أحد أسباب انصرافى عن القرآن فى شبابى ما قرأته عن أنهار العسل وأنهار الخمر فى الجنة.. وأنا لا أحب العسل ولا أحب الخمر.. فاعتبرت هذه سذاجات وانسحب حكمى على القرآن ثم على الدين كله.
والساذج فى واقع الأمر.. لم يكن إلا أنا. فأنا لم أحاول أن أتفهم النص القرآنى ولا أن أعكف حتى على ظاهر عباراته فما بال باطنها.. وكنت فى عجلة من أمرى.. وكان الانصراف غايتى وشهوتى.. وغطت هذه الشهوة على كل شىء فضاعت معالم الحقيقة من أمامى.. وفاتتنى أمور كانت شديدة الوضوح. فماذا يقول القرآن فى الجنة.
«مثل الجنة التى وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن.. وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى».
والآية تبدأ بأنها ضرب مثل.. «مثل الجنة التى وعد المتقون».. وليس إيرادا لأوصاف حرفية.. فهذا أمر مستحيل لأن الجنة والجحيم أمور غيبية بالنسبة لنا لا يمكن تصويرها فى كلمات من قاموسنا.
تماما كما يسألك الطفل عن اللذة الجنسية.. فتحار كيف تصفها له فهى بالنسبة له غيب خارج عن حدود خبراته تماما.. وبعد أن تعجز عن توصيل المعنى إليه تقول على سبيل ضرب المثل وعلى سبيل التقريب.. إنها شىء مثل السكر. لقد اخترت له شيئا من خبراته اليومية. ومع ذلك فما أبعد المعنى.
وما أبعد الفارق بين اللذة الجنسية وبين طعم السكر العادى المبتذل. وبالمثل كان موقف القرآن فى مخاطبة البدوى البسيط. وكل أمنية البدوى الذى يعيش فى هجير الصحراء أن يعثر على نبع ماء عذب.. فكل ما يجد من مياه هى ينابيع مالحة آسنة.
وكذلك اللبن.. فما أسرع ما يختمر ويتغير طمعه فى حر الصحارى فيضرب له القرآن المثل من أعز ما يتمنى.
«إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها». فكل الغاية هى تقريب تلك المعانى المستحيلة بقدر الإمكان. وكل ما جاء فى الجنة والجحيم ألوان من ضرب المثال.. وألوان من التقريب وألوان من الرمز. وفى العهد القديم يصف أشعيا يوم الرضوان قائلا: «يضع رب الجنود لجميع الشعوب فى هذا الجبل وليمة سمائن ووليمة خمر ويمسح السيد الرب الدموع من كل الوجوه».
وفى تراتيل القديس أفرايم:
«ورأيت مساكن الصالحين.. رأيتهم تقطر منهم العطور وتزينهم ضفائر الفاكهة والريحان.. وكل من عف عن خمر الدنيا تعطشت إليه خمور الفردوس.. وكل من عف عن الشهوات تلقته الحسان فى صدر طهور».
إنها صور مشتركة فى جميع الأديان.
ولكن القرآن لا يتركنا فى ضباب الأمثلة فما يلبث أن يقطع بالقول الفصل. «فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون». إنه يحيل القضية كلها إلى غيب لا يمكن التعبير عنه بلغة الأرض.. هنا كل منى العين والقلب مما لا يمكن تصويره بألفاظ.
أما جهنم فهى شىء فظيع.. لا هو بالحياة ولا هو بالموت. «ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ» «فاتقوا النار التى وقودها الناس والحجارة».
ثم يشرح لنا أكثر:
«لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون» ها هو ذا يبين لنا حقيقة جديدة.. فيقول إنه يورد الألفاظ للتخويف. ولكنه ليس تخويفا على غير أساس.
إنه مثل تخويفك لابنك حينما تحذره من إهمال نظافة أسنانه وتقول له.. إذا لم تنظف أسنانك بالفرشاة فإن الفئران سوف تأكل أسنانك. تقول ذلك محبة منك ورحمة لطفلك.
وبالطبع.. الفئران لن تأكل أسنانه.. ولكن التخويف على أساس.. لأن ما سوف يحدث له إذا أهمل سيكون ألعن من جميع الفئران.. إذ سوف تتسوس أضراسه.
ومن جرب الآلام الرهيبة لضرس مسوس.. يعرف أنها أسوأ من الفئران كلها مجتمعة. إنه تخويف العزيز الرحيم من شىء سوف يحدث بالفعل وسيكون أسوأ من جميع ما قيل وكتب.. مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر... إن العذاب حق.. والثواب حق.
وهنا يعترض معترض.
ألا يتنافى مع رحمة الله ومع عظمته أن يعذب.. ويعذب من؟.. إنسانا مسكينا لا يساوى ذرة أو هباءة فى مملكة الله اللانهائية. وهو اعتراض كان يشغلنى دائما وكان يصرفنى دائما عن قبول فكرة العذاب وبالتالى عن القرآن وعن الدين كله.
والسؤال يحتاج منا أن نتعمق معنى كلمة عذاب. والله بالفعل لا يعذب. إنما هو فقط يعدل.
ولو أنه ساوى فى آخرته بين ظالم ومظلوم.. بين قتيل والقاتل الذى قتله.. لو أنه فعل ذلك بحجة الرحمة كان أبعد ما يمكن عن الرحمة.. عن العدل.. فالمساواة بين غير المتساوين ظلم فادح.. تعالى الله عن أن يقع فيه. ثم هى الفوضى أن يكون الأبيض فى دين الله كالأسود، والأعمى كالبصير، الميت كالحى، والذى يسمع كمن لا يسمع.
والكون ينفى الفوضى.
وتأمل كل جزئية فى الكون تكشف لك عن النظام المحكم والقانون الذى لا يفوته واحد من ألف عن المللى جرام. وحركة الكترون من مدار إلى مدار فى داخل الذرة لا تتم إلا بحساب، فهو لابد أن له أن يعطى حزمة من الطاقة ليقفز إلى الخارج قفزة مساوية، ولابد له أن يمتص حزمة أخرى ليقفز إلى الداخل قفزة مساوية.. إنه محاسب فى حركاته.. وهو إلكترون.. فما بال الإنسان العاقل وهو بالنسبة للإلكترون كالمجرة والفلك بالنسبة للإنسان.. وقد نفخ الله فيه روحه فهو شىء عظيم.. وليس فى هوان الذرة ولا الإلكترون.
ثم ما معنى أن يموت مظلوما وظالما فيصبح ترابا بلا بعث.. ويذهب ما حصله من خير وشر وعلم وحكمة سدى.. إنها تكون مجرد سخافة. «وقالوا ما هى إلاحياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون».
وهو ظن خاطئ.. لأن الحياة تكون به مجرد لعبة عبثية وباطل فى باطل. والعقل المتأمل لا يقول هذا أبدا. إنه ليتفكر فى خلق الكون ونواميس الفلك المحكمة ويهتف من أعماقه. «ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك»
مستحيل أن ينتهى كل هذا إلى باطل.. لابد أن هناك استمرارا بطريقة ما.. ولابد أن تتضح لنا الحكمة من كل هذا فى ميقاتها. إنها قضية عدالة وقضية منطق وليست قضية تعذيب، والواقع أن الله بالفعل لا يعذب. والذى سوف يحدث لنا بعد البعث هو أن كل واحد ستلازمه رتبته ودرجته التى حصلها فى الدنيا لا أكثر.
«فقد كذبتم فسوف يكون لزاما»
فمن عاش لايسمع ولا يعقل ولا يبصر الحق سوف يحشره الله أعمى. «ونحشره يوم القيامة أعمى.. قال رب لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا.. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى». إنها مجرد صفتك تلازمك:
«سوف يكون لزاما».
إن الله لا يعذبك.. ولكنك تعذب نفسك بجهلك. «وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون». من عاش فى الدنيا حيوانا لا هم له إلا أن يأكل ويضاجع فهو فى الحياة الثانية له رتبة الحيوان أو الرتبة السفلى بالنسبة لغيره ممن عاشوا يتأملون ويعقلون. وفى الآخرة تتزايد الفروق وتتضاعف.. فما بين اثنين سوف يكون أكثر بمراحل من فارق الدرجة بين حيوان وإنسان.
«انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا» «سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله»
إن هذا الصغار هو الذى سيعذب ويحرق.. لأنه سيكون حسرة على صاحبه حينما يرى مكانته ومكانة الآخرين ومقدار ما خسر ومقدار ما كسبوا.
وكما يصف الإنجيل هذا العالم الآخر «عالم البكاء وصرير الأسنان». المجرم فيه يصر على أسنانه ندما على ما يرى من شأنه ومن هوانه أمام الدرجات العالية التى أصابها الآخرون.. ويصف القرآن أهل الجنة فى تلك الدرجات بأنهم المقربون. المقربون من الله.. من الحق.
«فى مقعد صدق عند مليك مقتدر». ويروى لنا أن الله يكلمهم وينظر إليهم وأنهم على أسرة الملك متقابلين، قد نزع الله ما فى قلوبهم من غل فأصبحوا أخوانا متحابين.
ويصف الجنة بأنها دار السلام.. وأنه لا حرب فيها ولا كذب ولا لغو ولا سباب. ثم يتأكد المعنى من هذه الآية فى سورة الإسراء التى توصى بالتهجد فى الليل: «ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا» إنها إذن مسألة مقامات. كل واحد يبعث على رتبته ومقامه. الله لا يعذب للعذاب.
وإنما يأتى العذاب واحتراق الصدور من إحساس من هم فى أسافل الدرجات بالغيرة والحسد والهوان والخسران الأبدى الذى لا مخرج منه.. وسوف يحرق هذا الإحساس الصدور كما تحرقها النار وأكثر.. وسوف يكون هو النكال والتنكيل.. ينكل الواحد منا بنفسه بالدرجة التى وضع نفسه فيها والتى انحدر إليها بأعماله فى الدنيا.
ومما يدل على أن النار فى الآخرة هى غير ما نعرف من نارنا هذه الآيات من سورة الأعراف. «وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين.. قال ادخلوا فى أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس فى النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا ادركوا فيها جميعا «حتى إذا أدرك بعضهم بعضا» قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار.. قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون».
إنه حوار ومكالمة فى النار يجرى بين المعذبين.. وفى مثل نارنا لا يمكن أن يجرى حوار بين اثنين يحترقان.
والمعنى الثانى العميق فى الآية «لكل ضعف ولكن لاتعلمون» إن أمامنا اثنين يتعذب الواحد منهما ضعف الآخر مع أنهما فى نفس المكان ومعنى هذا أن العذاب فى القلب وليس فى المكان ذاته.
كل هذه آيات كواشف ذات دلالة تدلنا على أن النار ليست هى النار ولا الجنة هى الجنة.. ولا الله هو الباطش المعذب.
وإنما الله سوف يبعث كل واحد على رتبته ومقامه.. لأن هذا عين العدل وهو العادل. وإنما سوف يتأتى العذاب من تفاوت الرتب تفاوتا عظيما.. ثم بالسقوط فى تقييم أبدى لا مخرج منه يلزم صاحبه كما تلزم الأصبع بصمتها.
ولأن الله يعلم أن هذا العذاب سوف يكون رهيبا.. فقد حذرنا وخوفنا بالألفاظ المجلجلة وأرسل لنا الأنبياء مبشرين منذرين مؤيدين بالمعجزات والخوارق والآيات والكتب.. فعل ذلك رحمة منه وحنانا وعطفا.. وهو القائل فى حديثه القدسى:
«سبقت رحمتى غضبى»
وفى سورة الفاتحة يصف نفسه أولا بأنه الرحمن الرحيم قبل أن يقول مالك يوم الدين.. وهو يوم الحساب.. يوم الغضب.. يوم يحق القول على العالمين بلا رجعة. ولأنه رحيم فقد فتح باب التوبة وإصلاح الخطأ على مصراعيه.
«قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله.. إن الله يغفر الذنوب جميعا».
ثم أقام شروط المغفرة:
و«إنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى» وأمر بالصلاة.. ثم قال: ولذكر الله أكبر. مجرد أن نتذكر أن هناك قوة إلهية وأن يشخص هذا المعنى فى ذاكرتك وفى أفعالك على الدوام.. ينجيك ويحقق لك شرط المؤمن.. ويكون أفضل من صلاة المصلى الذى ليس فى قلبه ذكر. وكلمة «الذكر» فى القرآن كلمة عميقة المعنى والدلالة. فالقرآن نفسه اسمه ذكر.
والتدين والإيمان هو مجرد تذكر:
«إنما يتذكر أولو الألباب» «وإذا ذكروا لايذكرون» «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» «ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر» «فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر» «وليتذكر أولو الألباب»
«إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون». وهنا ينبغى أن نقف وقفة تأمل طويلة.
فما هو هذا التذكر المطلوب. إن أحدث النظريات النفسية تقول لنا.. إن المعارف كلها تكون مخبوءة مكنوزة داخل نفس الإنسان ولكن تحجبها عنه غرائزه وشهواته، ولهذا فالتعلم هو فى حقيقته تذكر، بارتفاع حجب النفس وشفوفها.. ولا يكون تعلما من عدم. فالطفل لا يتعلم أن 2+2=4 وإنما هو فقط يتذكر حقيقة باطنة فى روحه.. ولد بها. وبالمثل الإحساس بالجمال والطرب هو نوع من التذكر المبهم لعالم القدس وما فيه.. عالم الملكوت الذى كنا فيه قبل النزول إلى الأرحام.
ولهذا السبب فأن جمال المرأة مثلا هو جمال زائر وليس جمالا مقيما لأنه ليس جمالها هى.. وإنما هو ظل ينعكس عليها من الملكوت.. ثم ما يلبث أن يفارقها حينما يتغلب قانون المادة والشيخوخة والتراب.
قبل ميلادنا.. كانت لنا ثمة حياة كأرواح. وفى ذلك تقول الآية القرآنية البديعة: «وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا».
والآية تروى ما كان فى الغيب قبل الخلق الدنيوى. وكل الخلائق مما خلق الله ويخلق وسيخلق مثل الذر فى كفه ينظر إليهم ويشهدهم على أنفسهم.. ألست بربكم.. فيقولون بلى شهدنا. وهو بهذا يأخذ عليهم ميثاقا غليظا لأنه يعلم أنه بعد الهبوط فى الأرحام وانسدال حجاب اللحم الكثيف ونزول غشاوة الحواس والشهوات والغرائز والأهواء إنهم سوف ينسون تماما، وسوف يتخبطون فى نكران وكفر وجهالة. وهو.. رحمة منه يرسل لهم الأنبياء يذكرونهم.
ويقول لمحمد: «فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر» ويقول عن الإيمان أنه حياة: «ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم».
لأن اتصال الوجود الدنيوى بالتذكر بالوجود الملكوتى الأول ثم بالوجود الأخروى.. هو فطنة الإنسان إلى حياته بكاملهاوهى الحياة كل الحياة، والله ليس بحاجة إلى صلاتنا ولا إلى صيامنا. ولكن نحن المحتاجون.. لعلنا فى صلاتنا العميقة نتذكر ولعلنا بالعبادة والتوجه نتصل بنبع وجودنا.. ونستمد منه حياتنا.
إن الصلاة والعبادة استمداد نحن الذين نحتاجها لتكون لنا حياة ليس الله.. لأن الله هو الحى بذاته المستغنى بوجوده.. عن كل شىء.
أما نحن فلا يمكن أن تكون لنا حياة إلا بمدد منه.. من الله.. الحى الذى به الحياة. ونفهم من هذا أن الله فرض الفروض ووضع شرائع العبادات.. من أجلنا وليس من أجل أن يشعر بألوهيته، فهو فى غنى عنا.. وفى غنى عن أن يعذبنا، وفى غنى عن أن يطلب منا طلبا أو يفرض علينا فرضا.
وهو بالفعل لا يفرض علينا فرضا ولا يطالبنا بطلب ولا يقيم علينا عذابا كل هذا يبدو من ظاهر العبارات فقط، أما باطن القرآن الذى يكشف نفسه لكل من جاهد فى الفهم.. إن الله هو الرحيم مطلق الرحمة العادل مطلق العدل الذى يعطى مطلق العطاء ولا يأخذ شيئا ولا يحتاج لشىء.
وإذا كان فى الدنيا ألوان من العذاب فهى من عيون رحمته «ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون». إنها محاولات لإيقاظ العقل الغافل لعله يتذكر ويرجع وينجو بنفسه من عذاب أكبر فى الطريق، عذاب لن يكون منه مخرج ولا مهرب.. حينما تحق على كل واحد رتبته ودرجته.
ونفهم من القرآن أن سنة الله أن يوقظ الغافلين فى الأرض فيبتليهم بكل صنوف البؤس والمرض والعذاب لعلهم يفطنون إلى ما فى الدنيا من زوال وما وراءها من حقيقة باقية.. يفعل هذا رحمة بهم ولأنه يعلم ما ينتظرهم من ناموس عادل لن يلطف بهم.. حتى إذا نفذت فيهم كل هذه الآلام الدنيوية ولم يتيقظوا.. فتح الله عليهم أبواب كنوزه ليتمتعوا يأسا منهم.. «ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبآساء والضراء لعلهم يتضرعون، فلولا «فلو أنهم» إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون، فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شىء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون «يائسون تماما».
فما يبدو لنا أنه نعمة قد يكون فى الحقيقة نقمة: «فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم فى الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون».
«أيحسبون إنما نمدهم به من مال وبنين.. نسارع لهم فى الخيرات.. بل لا يشعرون». «إنما نملى لهم ليزدادوا إثما» فليس الخير الظاهر فى الدنيا والنعمة الغامرة بعلامة رضا الله فى جميع الأحوال.. ولا عذاب الدنيا وبلاؤها بعلامة غضب الله فى كل حال فقد يكون الخير غضبا وقد يكون البلاء لطفا.. ولا يكشف لك عن الحقيقة إلا صوت ضميرك.. إذا رأيت البلاء يطهرك فهو نعمة.. وإذا رأيت النعمة تطغيك فهى غضب.
ثم يتكلم القرآن عن أهل النعيم: «إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم».
وأنهم إذ ينزل بهم عذاب الجحيم ليصرخون متوسلين. «ياليتنا نرد ولا نكذب»، «ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون». إن الله يعلم أنهم لو ردوا للدنيا لعادوا إلى كبريائهم.
إنه جهل وإصرار على الجهل لا وسيلة لعلاجه.. لا الأنبياء.. ولا المعجزات والخوارق والآيات.. ولا حتى مرور على الجحيم، بكاف لردهم إلى معرفة.
ومن هنا يبدو البقاء فى الجحيم رحمة فهو بالنسبة لبعض الجبارين الوسيلة الوحيدة إلى المعرفة والتقويم.
إن الله رحيم دائما حتى فى جحيمه.. ولهذا سمى نفسه «الرحمن».. أى الرحيم مطلق الرحمة فى جميع الأحوال لمن يستحق ومن لا يستحق يرحم من يستحق بالجنة ويرحم من لا يستحق بالجحيم.. فالجحيم كما رأينا هو نوع من الرحمة.
ولهذا يقول فى أجمل آياته.. «عذابى أصيب به من أشاء ورحمتى وسعت كل شىء». فأدخل عذابه ضمن رحمته التى وسعت كل شىء.. ويفسر لنا الحساب فيقول: «اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا».
حتى الحساب هنا يبدو أنه حساب النفس للنفس. تعالى ذو الجلال أن يحاسب أمثالنا وأن يعذب أمثالنا، إنما قد لزم كل واحد عمله كظله ولا خلاص.. وحق القول.. ونفذ العدل الأزلى.
ولكن هذه المعانى تضيع فى النظرة المتعجلة والقراءة السطحية والوقوف عند الحروف وعند جلجلة الألفاظ.
والألفاظ التى وصف الله بها القيامة كلها ألفاظ رهيبة ذات جلجلة وصلصلة.. تقرع الأذن كالأجراس فهى الساعة.. والواقعة.. والقارعة والزلزلة والدمدمة.. والغاشية والراجفة.. والرادفة.. والزجرة.. والسكرة.. والطامة.. والحاقة.. والصاخة.
هل سمعت لفظا اسمه «الصاخة» إنه لفظ يكاد يخرق طبلة الأذن لأن الله علم أن الواحد منا فى هذه الدنيا تتخطفه الشهوات وتبرق فى عينيه المطامع فهو لا يعقل.. وهو أصم لا يسمع.. فهتف فى أذنه بهذه الكلمة.. التى تكاد تخرق السمع من فرط ارتفاع ذبذبتها.. ليوقظه. «فإذا جاءت الصاخة.. يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه».
فعلى هذا رحمة ولطفا وحنانا.. تعالى الله عن أن يعذبنا شهوة فى عذاب». وما العذاب إلا لزوم ما يلزم وحلول الصفة بموصوفها وانتظام الأرواح فى سلم درجاتها الحق و انسدال الستار على هذا العالم الذى يتبارى فيه الناس على نوال ما لا يستحقون.
ونعطى مثلا لهذا التفاوت فى الرتب فيما يشعر به كل منا فى حياته الخاصة.. من تفاوت المستويات التى يمكن أن يعيش فيها.. لا نقصد مستويات الدخل.. وإنما نقصد شيئاً أعمق.. نقصد المستويات الوجودية ذاتها.
فالواحد منا يمكن أن يعيش على مستوى متطلبات جسده.. كل همه أن يأكل ويشرب ويضاجع كالبهيمة.
ويمكن أن يسكت ذلك السعار الجسدى ليستسلم لسعار آخر هو سعار النفس بين غيرة وحسد وغضب وشماتة ورغبة فى السيطرة وجوع للظهور وتعطش للشهوة واستئثار لأسباب القوة بتكديس الأموال والممتلكات وتربص لاصطياد المناصب.
وأكثر الناس لا يرتفعون عن هذه الدرجة ويموتون عليها.. ولا يكون العقل عندهم إلا وسيلة احتيال لبلوغ هذه الأسباب.
والحياة بالنسبة لهذه الكثرة من الناس غابة والشعور الطبيعى هو العدوان وتنازع البقاء والصراع.. والهدف هو التهام كل ما يمكن التهامه وانتهاز ما يمكن انتهازه.. والواحد منهم تجده يتأرجح كالبندول من لهيب رغبة إلى لهيب رغبة أخرى.. يسلمه مطمع إلى مطمع وهو فى ضرام من هذه الرغبات لا ينتهى.
وهناك قلة قليلة تكتشف زيف هذه الحياة وتصحو على إدراك واضح بأن هذا اللون من الحياة عبودية لا حرية وأنها كانت حياة أشبه بالسخرة والأشغال الشاقة خضوعا لغرائز همجية لا تشبع وأطماع لا مضمون لها ولا معنى ولا قيمة.. كلها إلى زوال.
فتبدأ هذه القلة القليلة فى إسكات هذا الصوت وفى تكبيل هذه النفس الهائجة وقد اكتشفت أنها حجاب على الرؤية وتشويش على الفهم.
وهكذا ترتفع هذه القلة القليلة فى الرتبة لتعيش بمنطق آخر.. هو أن تعطى لا أن تأخذ.. وتحب لا أن تكره.. وتصبح هموم هذه القلة هى إدراك الحقيقة.
وعلى هذه القلة تنزل سكينة القلب فيتذكر الواحد منهم ماضيه حينما كان عبدا لسعار نفسه.. وكأنه خارج من جحيم.
ومثل هؤلاء يموتون وقد انعتقوا من وهم النفس والجسد وبلغوا خلاصهم الروحى وأيقنوا حقيقة ذواتهم كأرواح كانت تبتلى فى تجربة.
وما أشبه الجسد - فى الرتبة - بالتراب، والنفس بالنار، والروح بالنور، وهى مجرد ألفاظ للتقريب ولكنها تكشف لنا أن حكاية الرتب هى حكاية حقيقية.. وأن كل من يموت على رتبة يبعث عليها وأن هذا هو عين العدل وليس تجبرا.. وقد يكون العذاب فوق الوصف إذا تجردت النفوس من أجسادهم ولم يبق منها إلا سعار خالص وجوع بحت واضطرام مطلق برغبات لا ترتوى ثم عدوان بين نفوس شرسة لا هدنة بينها ولا سلام ولا مصالحة إلى الأبد.. على عكس أرواح تتعايش فى محبة وتتأمل الحق فى عالم ملكوتى.
أكاد أجزم بأن ألفاظ القرآن بما فيها من جلجلة وصلصلة حينما تصف الجحيم إنما هى نذير حقيقى بعذاب فوق التصور.. سوف نعذبه لأنفسنا بأنفسنا عدلا وصدقا على رتبة استحقها كل منا بعمله.. وأكاد أضع يدى على الحقيقة.. لا ريب فيها.
تعالى الله عن أن يعذبنا شهوة فى عذاب.. وهو الحق العدل الحكم. وفى أخبار داود أن الله قال له: ياداود أبلغ أهل أرضى أنى حبيب لمن أحبنى وجليس لمن جالسنى وصاحب لمن صاحبنى ومختار لمن اختارنى.. ومطيع لمن أطاعنى.. من طلبنى بالحق وجدنى ومن طلب غيرى لم يجدنى.
أنعم به من رب رحيم.. وتقدس وتعالى عن الظلم والعدوان؟
«البقية الأسبوع القادم»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.