يشعر المصريون بمصريتهم عبر القرون وفي العصر الحديث وقد تنوعت طوائفهم وأصبحت هناك كثرة مسلمة بعد القرن السادس الهجري وإلي اليوم. فإن من أصدق ما قيل في وصف الحالة المصرية ما قاله العلامة جمال حمدان رحمه الله تعالي في كتابه الماتع شخصية مصر: قد لا توجد بل قطعا لا توجد أقلية دينية في العالم كالأقباط في مصر فليس في العالم أقلية دينية عاشت في أعمق أحضان الإسلام وعايشته حتي النخاع في حنايا وظلال مجتمع إسلامي وحضارة إسلامية بالكامل وطوال تاريخه كالأقباط فهي أقلية مشبعة تماما بالجو والبيئة. 1 ويذكرنا هذا بالمادة الخامسة من برنامج الحزب الوطني المصري الذي أسهم في صياغته الشيخ محمد عبده في أوائل يناير سنة1883 م ونصها الحزب الوطني حزب سياسي وليس دينيا فإنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب وجميع النصاري وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها منضم إليه لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات ويعلم أن الجميع إخوان وأن حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية. 2 ومع نشوء أول مجلس نيابي في مصر علي عهد الخديو إسماعيل في1866 م نص قانون إنشاء المجلس علي أن( كل شخص بلغ من العمر الخامسة والعشرين يمكن ترشيحه علي شرط أن يكون أمينا ومخلصا وأن تتأكد الحكومة من أنه ولد في البلاد) ولقد وجد في تشكيل المجلس سنة1866 م أن من أعضائه جرجس برسوم, عمدة بني سلامة, من نواب بني سويف, وميخائيل إثناسيوس, عن أشروبه من المنيا, وفي تشكيل1870 م المعلم فرج إبراهيم, عمدة دير مواس, عن أسيوط, وحنا يوسف, عمدة نزلة الفلاحين عن المنيا. 3 ويذكر قليني فهمي باشا في الجزء الأول من مذكراته أن أول قبطي عين قاضيا كان عبدالملاك بك كتكوت بمحكمة قنا, وأن جد قليني باشا فهمي وهو يوسف بك عبدالشهيد, عين مديرا لديوان القضايا في المنيا, وسار قضاءمصر من حينئذ قضاء مصريا يشترك فيه المصريون إلي يومنا هذا. 4 و كان هناك في دمياط الأستاذ ألفونس نيقولا الذي كان يفوز بمنصب نقيب المحامين بالتزكية ولمدة طويلة خلال أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته, وكان مشهورا بالكرم وخدمة الناس حتي أحبه الجميع, ويروي عنه أنه كان يحضر في المساجد وينتظر حتي نهاية الصلاة أو نهاية الخطبة مع صلاة الجمعة ليكلم الناس في شأنهم العام, وسمعت أنه خال الأنبا بيشوي, ومثله المقدس عوض الذي كان ينصبه الناس حكما عدلا وخبيرا ناصحا يرجعون إليه لحل مشكلاتهم في حلوان فكان هو الكبير والمرجع حتي بعدما انتقل إلي منطقة شبرا وهو والد الأنبا بسنت. 5 وحين زار النحاس باشا المنصورة, حيث هبت الجماهير لتحيته واستقباله, وكان إلي جواره رئيس لجنة الوفد في المنصورة سينوت بك حنا, وبين ضربات الجند للجماهير, تقدم جندي من فرقة الهجانة السودانية حيث انقض بسونكي بندقيته المسموم إلي صدر النحاس, فارتمي سينوت بك حنا علي صدر النحاس باشا وتلقي الطعنة عنه ولقي مصرعه ومات فداء له. 6 وهؤلاء الأبطال الأربعة الذين نقلت الجرائد الأسبوع الماضي خبر محاولتهم إنقاذ رجل كبير في السن فماتوا وعاش, فاستحقوا البطولة والثناء, هي قصة مصرية دائمة الحدوث. 7 فإذا كان الأمر كذلك فما هذا الهتر والحمق الذي يحدث حولنا؟ ما أسبابه؟ وكيف نعالجه؟ ومن سيجلس لوضع الأمر في نصابه؟ إننا أمام كم هائل من البحوث والدراسات ومجهود كبير قامت به عدة مؤسسات وعلماء ومفكرون, لكنه دائما كان علي مستوي النخبة, فهل قرأ كتاب المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية للمستشار طارق البشري, أو قرأ الناس مؤلفات الدكتور وليم سليمان قلادة الذي كان يمثل الدعوة إلي المصرية الخالصة والوطنية المستقرة حتي رحيله, هل استطاع أحد أن ينزل بمجهودات وإنتاج المركز القبطي للدراسات الاجتماعية لعموم الناس, هل قرأ أحد عن المواطنة والعولمة لهاني لبيب, هل التفت أحد إلي مسلسل أوان الورد لوحيد حامد, هل قرأ طلاب الثانوية رواية البشموري لسلوي بكر, هل يعرف أحد شيئا عن فيلم حب علي شاطئ ميامي, هل هناك من التفت بجدية إلي كتاب أقباط ومسلمون لجاك تاجر, هل قرأ أحد ما أصدره الشيخ حسنين مخلوف من تقرير عن هذا الكتاب في سنة1952 م بقرار من مشيخة الأزهر حينئذ, أو قرأ كتاب الشيخ الغزالي التسامح والتعصب أو كتاب الأقباط في السياسة المصرية للدكتور مصطفي الفقي, أو الإسلام السياسي والمواطنة والأقليات مستقبل المسيحيين العرب في الشرق الأوسط للدكتور أندريه زكي, أو عشرات من أمثال هذه الكتب والمجهودات التي لا يعرفها أحد إلا الطبقة العليا من المثقفين ومن عندهم نهم التتبع والقراءة وقليل من هم, إذا أجابني واحد أنه يعلم ذلك جميعه فليعرف أنه من هؤلاء القلة, أعني أننا في أزمة حقيقية ولسنا نستفيد من كل هذا العلم والبحث والتتبع الذي يجب أن ننزل به إلي عموم الناس عن طريق الإعلام بكل وسائله وعناصره وبكل منتجاته وفنونه.