تملك مصر من الوحدة الإثنية أقصي درجة يمكن أن تحوزها أو تحرزها دولة في مثل مساحتها وعددها, ورغم أنها كانت دائما مجتمعا مفتوحا متفتحا, لم يعرف كراهية الأجانب, ولا عرف التعصب العرقي أو الحاجز اللوني. وقد عرفت تخوم مصر عبر العصور وبلا انقطاع التسرب أو التسلل السلمي, وبالتالي اختلاط الدماء بقدر أو آخر. وقد قدرت البحوث الرصينة أن المؤثرات الخارجية الأجنبية الوافدة والداخلة علي مصر منذ تشكلت الأمة المصرية في عصر الأسرات الفرعونية وحتي الآن لم تتعد نحو10% من مجموع سكان مصر, في أي وقت منذ وضع الأساس الجنسي للمصريين فيما قبل التاريخ. وباختصار, كما يضعها جمال حمدان في شخصية مصر, فقد عرفت مصر الاختلاط قطعا, ولكن المصريين ليسوا شعبا مخلطا قط, كما خلص جمال حمدان في مؤلفه الموسوعي شخصية مصر. والواقع أن العناصر الوافدة الي مصر كانت الأقلية القليلة دوما, وكان المصريون هم السواد الأعظم والأغلبية الساحقة دائما. وكان الاستعمار الاستيطاني في مصر شذوذا, ولا يكاد يستثني من ذلك إلا اتجاه محدود أيام الإغريق. ولكن, كما يقدر البعض, فان عدد الإغريق البالغين الذين أقاموا بمصر في عصر البطالمة كان أقل من2% من مجموع سكان مصر. واما الهجرات الكبري الثلاث الي مصر فقد كانت هجرات الهكسوس واليهود والعرب, وثلاثتها من الرعاة الساميين, ودخلت كلها عن طريق سيناء! وقد طردت الهجرتان الأوليان تماما بعد حين. ورغم الأعداد الكبيرة التي انصبت من العرب في مصر, ورغم الاختلاط البعيد المدي الذي تم مع المصريين, فإن هذا لم يغير من التركيب الأساسي لجسم السكان أو دمهم لا لسبب سوي أن العنصر العربي من أصل قاعدي واحد مشترك مع العنصر المصري. ومن المستحيل أن نقدر العدد المطلق أو النسبي للعنصر العربي الوافد عبر عدة قرون, ويقدر فليندرز بيتري حجم الموجة العربية في مصر في مجملها طوال تاريخها من ذكور وإناث بنحو150 ألفا, ولعل الأقرب إلي الصواب تقدير مري بنصف المليون. وعموما فقد قدرت البحوث الرصينة أن المؤثرات الخارجية الأجنبية الوافدة والداخلة علي مصر منذ تشكلت الأمة المصرية في عصر الأسرات الفرعونية وحتي التاريخ الحديث شاملة العرب والإغريق والمماليك والمغاربة والأتراك والشوام والأوروبيين وغيرهم- لم تتعد نحو10% من مجموع سكان مصر, في أي وقت منذ وضع الأساس الجنسي للمصريين فيما قبل التاريخ! ويقول جوستاف لي بون في كتابه الحضارات الأولي: شعوب مختلفة غزت مصر, لكن البلاد استطاعت مع ذلك أن تهضم هؤلاء الفاتحين جميعا.. فلم يتح لاولئك الغزاة أن يؤثروا فيها, فيما عدا العرب. وحتي مع ذلك فقد ظلت مصر رغم هذا فرعونية الدم. ويعلن شانتر في كتابه بحوث أنثروبولوجية في إفريقيا الشرقية: لقد استطاعت تربة وادي النيل أن تمتص كل الأنواع أو العناصر الأجنبية تقريبا. ويقول بيتري عن الأمة المصرية في كتابه عن الحياة الاجتماعية في مصر القديمة: شعب مجد قوي, يعتريه الضعف كل بضع مئات من السنين طبيعة الأشياء فتتعرض بلاده للغزاة.. لكنه ظل يحتفظ بطابعه وصفاته القومية وبشخصيته المتميزة البارزة المعالم. ويضيف جمال حمدان وبحق أن مصر الحديثة لم تعرف التعصب الديني أو التفرقة الطائفية, ولا كان وضع الأقباط في يوم غير مريح قط. والثابت المسجل أنه لم تقع لا أثناء الحملة الفرنسية ولا أثناء الثورة العرابية بشهادة النديم أية صدامات أو انفعالات, دعك من ثورة1919 التي كانت نموذج الوحدة الوطنية. أما كل ما قيل بعكس ذلك فهو عادة من ترويج المغرضين من أعداء مصر. ويمكن لأي عابر سبيل في مصر أن يطلع هذا كله مختزلا ببلاغة ومنعكسا عمليا في اللاندسكيب المدني, حيث تبرز أبراج الكنائس العديدة بكثافة أعلي بكثير من كثافة السكان الأقباط نفسها. ورغم كل محاولات الاستعمار في ايجاد مشكلة الطائفية أو مشكلة الأقليات ليضرب بها الوحدة الوطنية, ابتداء من الحملة الفرنسية إلي الاحتلال البريطاني وحتي الصهيونية الإسرائيلية, فانه من الثابت المحقق, بل والمعترف به الآن رسميا, أن الاستراتيجية التقليدية فرق تسد بضرب كل من الطائفتين بالأخري وتأليب كلتيهما سرا ضد الأخري, وإيهام كلتيهما بأخطار ومخططات خيالية تبيتها نحوها قد فشلت. وكان موقف الأقباط في وجه الاستراتيجية الاستعمارية بناء للغاية, فقد رفضوا كل مناورات وإغراءات ودسائس الاحتلال البريطاني لاحتضانهم وفرض حمايته المزعومة عليهم. وإذا كان بعض المسلمين قد والي الأتراك في تلك اللعبة, وكان بعض الأقباط قد والي الإنجليز, فلم يكن ذلك عن خيانة بل عن جهالة, ولا عن نقص في الوطنية ولكن عن نقص في التفكير, وما منع الإسلام تركيا, ولا المسيحية إنجلترا, أن تظلم مصر كلها باستعمارها, ثم باستغلالها, وتعويقها, وقهرها, كما كتبت نعمات فؤاد في أعيدوا كتابة التاريخ. وقد انعكس رد مصر علي اللعبة السياسية الاستعمارية المزدوجة بصورة رائعة في ثورة1919 وفيما بعد في الفترة الأخيرة ساهموا مساهمة مشرفة في حروب التحرير وفي صنع أكتوبر. وإذا كان قد وقع خلال تلك المراحل النضالية كلها بعض أحداث مؤسفة, فهي حالات فردية بحتة وثانوية للغاية لا تنفي القاعدة العامة بقدر ما تؤكدها, كما أن أغلبها ينبع لا من سوء النية ولكن من سوء المعرفة, إن لم يكن الجهل المخجل حقا. من ذلك مثلا صيحة البعض العصبية المفلوتة بعد هزيمة يونيو فليعودوا إلي صحراء العرب التي أتوا منها! يقصدون المسلمين, كما ذكر جمال حمدان, وأضيف إدعاء البعض الجاهل الغشيم من دعاة الدولة الدينية بأن أقباط مصر مجرد أهل ذمة في ضيافة المسلمين لا مواطنين لهم كل حقوق المواطنة!. وقد تباهي قسم من المصريين في مصر الملكية العلوية بأصولهم التركية, ويتباهي قسم من المصريين بأنسابهم العربية, ويتنابذ الجاهلون مع بعضهم البعض بأنهم وافدون أو ضيوف, ويحاول دعاة الفرقة الوطنية تكريس إدعاءات التمايز العرقي. وتبقي حقيقة وحدة الأمة المصرية منذ تشكلت في أحضان مصر, بحدودها الراسخة من عصر الدولة الفرعونية القديمة, من رفح الي حلفا! وتبقي الحقيقة التي صنعت الأمة المصرية: إن المصريين هم كل أولئك الذين استقروا بمصر وذابوا فيها وأقاموا عليها بصفة دائمة.