كانت تداعيات جريمة الإسكندرية كاشفة لوحدة المصريين التي لا تعرف القسمة, رغم انفلات ردود الفعل المتجاوزة لحدود الغضب المشروع, من جانب, ورغم استمرار دعاوي التحريض غير المسئول والمولد للإرهاب, من جانب آخر. وفي مواجهة الجريمة الإرهابية, برهن المصريون علي صلابة وحدتهم وحيوية وطنيتهم, وأخفق أعداء المواطنة من دعاة الفرقة والتمييز بين المصريين بمزاعم تتستر بالدين, وتسعي الي اختطاف السلطة وتقسيم الأمة وتفكيك الوطن. وقد كتبت من قبل أزعم أن جريمة نجع حمادي وتداعياتها تفرض ليس مجرد الاعتذار الواجب من جانب المسلمين عما قام به سفهاء منهم, أو الاعتذار الواجب من جانب الأقباط عن رد فعل جهلاء منهم, سواء في الأحداث الأخيرة أو ما سبقها من أحداث. فالأهم من وجهة نظري أن ينهض أصحاب الفكر من مسلمي وأقباط مصر بواجبهم الأهم وهو نشر الوعي بأصول الوحدة الوطنية للمصريين. وبغير وقوع في شراك نظرية المؤامرة, أقول إن إعادة قراءة تاريخنا الحديث منذ الحملة الفرنسية تكشف تواصل المخططات الخارجية التي استهدفت تفكيك وحدة نسيج الأمة, والتي تصدي الوعي الوطني الشعبي والسياسي لإفشالها بفضل المواقف المسئولة والبناءة لمسلمي وأقباط مصر. وتبقي عودة وعي المصريين بذاتهم, وكشف حقيقة تاريخ مصرهم, سلاحا مهما في المعركة الفكرية ضد دعاة دولة الخلافة وزمرة أعداء المواطنة, ومن أجل إعلاء الولاء والانتماء الوطني, وضد نزعة الدولة الكنسية وزمرة الاستقواء بالخارج علي حساب الانتماء والولاء الوطني, كما كتبت في مقالي السابق عن مجزرة الإسكندرية والعودة لأصول دولة المواطنة. ولنقرأ, أولا, ما خلص اليه جمال حمدان, في مؤلفه الموسوعي شخصية مصر, من أن مصر تملك من وحدة الدم والأصل أقصي درجة يمكن أن تحوزها أو تحرزها دولة في مثل مساحتها وعددها. ومن الوحدة الإثنية, الي الوحدة الدينية, إلي الوحدة اللغوية, إلي الوحدة الثقافية, الي الوحدة السيكولوجية, جاء تطور وحدة مصر الوطنية. ولعل مصر من البلاد المعدودة التي تمثل خير تمثيل تلك المقولة الأساسية بأن المواطنين في التحليل الأخير هم كل أولئك الذين يظلهم الوطن واندمجوا فيه وأقاموا به بصفة دائمة. ووحدة الأصل بين المسلمين والأقباط ليست علميا إلا تحصيل حاصل ومجرد بديهية, ببساطة لأن تكوين مصر العرقي سابق علي تكوينها الديني بنحو ثلاثة الي أربعة آلاف سنة علي الأقل. فالأساس القاعدي لسكان مصر أسبق من المسيحية بأكثر من3200 سنة, ومن الإسلام بأكثر من4000 سنة, علي أقل تقدير! ولنقرأ, ثانيا, ما خلص اليه العالم المصري العظيم سليمان حزين في مؤلفه حضارة مصر من أن الطابع الجنسي العام للمصريين قد وجد واتخذ صورته المميزة قبل أن يكون هناك أقباط ومسلمون! وأن المسلمين ليسوا دخلاء علي مصر في أي معني ولا هم أقل مصرية في الأصل عن الأقباط, ولا يقل المسلمون قربا من المصريين القدماء عن الأقباط, وإذا كان بعض المسلمين قد داخلتهم دماء عربية أو غير عربية, فإن الأقباط قد داخلهم بعض مؤثرات خارجية من خلال الزواج المختلط مع بعض العناصر والجاليات المسيحية الشامية والأوروبية. وليس جديدا كما يقول جمال حمدان إن معظم المسلمين المصريين إنما هم معظم القبط المصريين الذين أسلموا بالأمس, وأن أقباط اليوم هم بقية قبط الأمس الذين استمروا علي عقيدتهم المسيحية. ومصر كما يلخص جمال حمدان- ليست بها مشكلة طائفية ولا عانت مشكلة أقليات, إلا أن تكون من صنع أو وهم المتآمرين من الخارج أو من إفرازات الانحطاط الثقافي في الداخل. وتظل مصر رمزا للوحدة الدينية مثلما تخرج علما علي الوحدة الوطنية. وبالأصل العرقي, كما بالوضع الاجتماعي, كما بالتوزيع السكني, يعد الأقباط من صميم الكيان الوطني المصري, وكتلة رصينة رصيفة من جسم الأمة المصرية شديدة التماسك فيه والالتحام به. والواقع, أن مصر لم تنقسم قط داخليا ولا عرفت التقسيم ولا هي قابلة للقسمة تحت أية ظروف أو ضغوط, مهما انفلتت الانفعالات واختلطت الأمور وتاهت الحقائق في ظل إحتقان طائفي عابر. وحتي مثل هذا الاحتقان الطائفي علي علاته له بعض الفضل في نزح وتصريف المستنقعات الفكرية الضحلة الآسنة والمفاهيم الخاطئة المنحرفة, الموروثة أو المكتسبة, التي عششت بعض الوقت في عقول البعض من الجانبين. ولكن أجيال المسلمين والاقباط التي كافحت معا من أجل حرية الوطن ومساواة المواطنين بروح من الاحترام المتبادل, وحققت تفاهما عميقا وراسخا, كما سجل شارل عيسوي, حلت محلها أجيال نشأت تحت حراب التعصب والتطرف الديني وفتور الولاء والانتماء وأحداث الفتنة الطائفية ونزعات الاستقواء بالخارج والانتساب الي غير الوطنية المصرية..إلخ. ومن ثم صار أمرا جد عظيم أن يسهم الفكر في إعادة الوعي بالوطنية المصرية. وقد كتبت من قبل أقول إن شعار المصريين العظيم الدين لله والوطن للجميع لم يكن وليد ثورة1919, بل كان أساس تكوين مصر قبل أكثر من خمسة آلاف سنة, حين أقام المصريون- رغم تنوع معتقداتهم- أول دولة مركزية وأمة موحدة في التاريخ الإنساني. وقلت إن قبول وإحترام الآخر المختلف دينيا كان ركيزة الوحدة بين الصعيد والدلتا, أو ما أسماه الآباء المؤسسون لمصر الموحدة القطرين أو الأرضين, حيث تجسد قبول وإحترام الآخر في عبادة وبناء معابد آلهة كل من سكان الصعيد وسكان الدلتا علي أرض الآخر. ورغم تعدد المعتقدات المصرية القديمة فقد استمرت وحدة تاجي قسمي مصر لا تنفصم, وكان تعايش أصحاب تلك المعتقدات هو الأساس المتين لرسوخ وحدة مصر الفريدة, سياسيا ووطنيا وثقافيا. ونقرأ في كتاب ديانة مصر القديمة لعالم المصريات الألماني الرائد أدولف إرمان, أنه في البدء كان سكان كل دويلة أو مقاطعة في مصر ما قبل التوحيد يرون معبودهم في مستوي يعلو كثيرا عن معبودات المقاطعات الأخري. وتوقيرا لمعتقدات بعضهم البعض, كانوا يضيفون صفات ومناقب تلك الآلهة الي الإله المحلي, حتي صارت الآلهة محلية النشأة في مصر القديمة تحمل صفات بعضها البعض. وكان توحيد القطرين بمثابة بدء عصر جديد للديانة المصرية اختلطت فيه المعتقدات الدينية. وبالرغم من إيمانهم الأساسي بمبدأ التنوع, ولأن الشمس أهم ما استرعي نظر المصري حين يتطلع الي السماء, فقد عرف أهل مصر في الشمال والجنوب إله الشمس رع, الذي أعتبر ممثلا للعدالة, وأضاف المصريون في كل مكان اسم رع علي أسماء الآلهة القديمة. وفي معتقداتهم كانت ماعت, أي الصدق أو العدل, ابنة رع, الذي يخاطب المصري القديم: قل الصدق وأفعل ما يقتضيه, فهو العظيم القوي! وحين دعا اخناتون الي التوحيد, والي أن الله واحد لا شريك له للعالم بأسره, واقتحمت المجموعات المتعصبة لثورة آتون كل المعابد والمقابر, لأنه ما دام آتون قد أصبح في اعتقادهم الإله الواحد خالق كل شئ, ومن الكفر الاعتقاد بوجود غيره, فقد صار مستحيلا أن تقوم إلي جانبه آلهة أخري. لكن المعتقدات القديمة التي استعادت مكانتها وتعززت لم تعد كما كانت, وكما يوجز سيمسون نايوفتس في كتابه مصر أصل الشجرة فقد آمن المصريون أكثر من أي شعب آخر, بالتنوع في إطار التوافق, وهكذا, اخترعوا آمون رع الإله أو الرب الواحد, الذي صارت مختلف الآلهة والقوي التي تمثلها صورا له! ليواصلوا وحدتهم الوطنية رغم تنوع معتقداتهم. وللحديث بقية.