ليس سهلا أن يترك الكاتب مصر في هذه المرحلة التي تلت الانتخابات العامة الأخيرة وما تلاها من نتائج تحتاج إلي معالجة حكيمة وحصيفة لكي يعتدل الميزان وتسود الحكمة ويقوم النظام السياسي المدني والحديث علي قاعدة من التوافق والاتفاق. مثل ذلك ليس ألغازا, ولا أحجية, أو تعاويذ, ولكنها السياسة ومناطها اتخاذ القرار بالسرعة الكافية التي تسبق هؤلاء الذين يجمعون صفوفهم مرة أخري لكي يسلموا أعلامهم وبيارقهم لجماعة لا يوجد لديها إلا إحالة بلدان إلي ظلام دامس من الفرقة والتخلف والصدام مع العالم. وهي السياسة التي نجحت في إقامة تحالف مدني سياسي اكتسح الانتخابات العامة وأخرج منها ما هو محظور وأبقي فيها ما هو مشروع, وأصبح السؤال هو كيف يستعيد التحالف المدني حيويته مرة أخري ليس فقط في مواجهة جماعات الفوضي واليأس, وجماعة الإخوان المحظورة; وإنما أيضا لأن عملية بناء مصر المستقبل تحتاج لأكثر من قوة سياسية, وبالتأكيد لأكثر من الحزب الوطني الديمقراطي مهما كانت الأغلبية التي حصل عليها. كان المفروض أن يكون ذلك موضوعنا, ورأب الصدع في التحالف المدني مطلوب وملح; ولكن الأحداث حولنا تتحرك بسرعة هائلة, وهي هذه المرة في السودان لا تصبح بعيدة في دولة أخري ولكنها في قلب مصر ذاتها. ولا بأس أيضا, فيما له صلة بواقعنا, أن الدولة الشقيقة مرت بتجربة حكم جماعة الإخوان التي لم تكن محظورة, وها هي تترك السودان وهو مقبل علي مستقبل لا يخصه فقط, ولكنه يخص المنطقة بأسرها, وفي المقدمة منها مصر. ولا يحتاج الإنسان لكثير من المعرفة لكي يعرف أن تاريخ مصر والسودان كان مرتبطا لآجال طويلة ارتباطا عضويا. وربما ينبغي أن يترك للمؤرخين الحديث عن هذا الارتباط منذ مملكة كوش القديمة التي حكمت مصر وطليعة السودان في النوبة معا بين القرنين الثامن والسادس قبل الميلاد; حتي الوحدة المصرية السودانية بين عامي1821 و1885, ثم1899 و1956, غير الاندماج معا في إطار إمبراطوريات عدة أهمها الخلافة العربية الإسلامية. ولكن التاريخ ليس موضوعنا الآن إلا بقدر تأثيره علي مجموعة الخيارات الكبري التي سوف تطرح علي مصر والسودان معا مع مولد تاريخ جديد. فليس غائبا عن أحد أن السودان الشقيق مقبل علي تطور بارز خلال الأسابيع المقبلة, وتحديدا في9 يناير2011, حيث سيتم إجراء الاستفتاء علي حق تقرير المصير لمواطني جنوب السودان, وهو أحد البنود الأساسية في اتفاقية السلام الشامل التي تم توقيعها بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان في نيفاشا في كينيا عام2005, فقد توافق الطرفان علي منح الجنوبيين الحق في تقرير المصير بالتصويت: إما لبقاء جنوب السودان ضمن السودان الموحد, أو لانفصاله عن السودان في إطار حق تقرير المصير, بحيث يفضي الاستقلال إلي دولة جنوبية ذات سيادة, وسيكون لها اسمها ونشيدها الوطني وعلمها الخاص وجيشها الخاص وعملتها وسفاراتها في الخارج وعضويتها في الأممالمتحدة وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية. الشواهد والعلامات كلها تقول إن ما فعله الجنوبيون حتي الآن لا يفضي إلا إلي الانفصال; وهي كلها تقول إن الشماليين بدورهم لم يفعلوا ما كان واجبا عليهم من أجل الوحدة. وبشكل ما فإن الحركة الشعبية لتحرير السودان قد مضت بعيدا من أجل خلق دولة في الجنوب بكل ما يعنيه ذلك من مصالح وعلاقات دولية وترتيبات نفوذ في الداخل والخارج بحيث يكون صعبا, أو في الحقيقة مستحيلا, أن يتم التخلي عنه. ومنذ البداية كان هناك اتجاه في الشمال خاصة من جانب حركة الإخوان المسلمين للتخلص من الجنوب الذي بدا متسببا في عرقلة الأسلمة الأصولية المتشددة للدولة; وهو حلم طالما راود الجماعات الفاشية التي تريد وحدات سياسية نقية صافية لعرق أو دين أو أيديولوجية, ولا يوجد لديها ما تكرهه أكثر من فكرة التنوع والتعددية من أول الرأي حتي الصفات الاثنية ليس فقط بين المسلمين وغيرهم بل حتي داخل المسلمين أنفسهم. ولمن لا يعرف تتسم السودان بتنوع نادر في مجالات كثيرة, فإلي جانب أنها تعتبر الدولة الأكبر في القارة الأفريقية بمساحة تقدر بأكثر من2.5 مليون كيلو متر مربع, وتحتل المرتبة العاشرة بين بلدان العالم الأكبر مساحة, فيوجد بها نحو100 لغة, و57 إثنية عرقية, و570 قبيلة, وتتكون التركيبة الإثنية السودانية من عنصرين أساسيين هما العنصر المحلي الإفريقي(52%) والعنصر العربي(39%), فضلا عن البجا6% والأجانب2% والعرقيات الأخري1%, وأصبحت التركيبة الاثنية السودانية توصف بأنها ذات طابع هجين إفريقي عربي. وتعد اللغة العربية هي اللغة الرسمية في البلاد, مع انتشار لغات أخري هي البجا والنيلية وبعض اللهجات المحلية إضافة إلي اللغة الإنجليزية وهي المنتشرة في جنوب البلاد. أما بالنسبة للديانة, فإن70% من السكان هم مسلمون سنة( في الشمال) فيما تصل نسبة المسيحيين إلي5%( معظمهم في الجنوبوالخرطوم) ويدين25% بمعتقدات وثنية. وهكذا لم يكن لدي الشمال صبر علي التنوع الشديد, ولا كان لدي الجنوب استعداد للاندماج فيما ليس فيه نصيب. ومع انعقاد النية بالسياسة أو الأيديولوجية فإن الواقع الإستراتيجي علي الجنوب المصري المباشر أصبح علي شفا تغير هائل ربما غمت علي رياحه وعواصفه ما كان يجري علي الأرض المصرية من انتخابات أدهشتنا بتجاهل شديد لما يجري وسوف يجري في السودان. وحتي تكون الصورة قريبة فإن أشقاءنا في الجنوب يواجهون لحظة ميلاد فراغ استراتيجي هائل يولد دوامات من العواصف الطبيعية التي تقلب الأمور في نطاق استراتيجي كامل رأسا علي عقب. والفراغ الاستراتيجي هو حالة من غياب القوة والجاذبية السياسية أي السلطة التي تحقق التوازن وتدير العلاقات وتنظم حالات التحالف والعداء. وعندما اختفت الصومال كدولة من القرن الأفريقي لم ينته الأمر بتقسيمها بين قبائل وحتي دول فقط, ولكنها انتهت إلي محطة للإرهاب والتشدد والقرصنة والجريمة المنظمة وإثارة الحروب الإقليمية والتدخل الدولي بأشكال مختلفة. وعندما سقطت الدولة في العراق كان الفراغ هائلا إلي الدرجة التي لم يكن فيها احتلال أمريكي فقط, ولكن كان معه علي سبيل الرمز أو الواقع عشرات من الدول الأخري جاءت, بينما لعبت إيران دورها بين الشيعة والسنة, وجماعة الاستقرار والإرهاب معا, لكي لا تقوم للعراق قائمة, ومعها تدخلت تركيا علي طريقتها الخاصة, ولم يبق بعد ذلك إلا منطقة تقف في مهب ريح عاتية ولا يعرف أهلها كيف يختارون بين الرمضاء والنار. ما سوف يجري في السودان لن تكون آثاره أقل من كل ما سبق, وفي إقليم مختلف هذه المرة. وربما لن نعرف تحديدا ما الذي سوف يحدث في شمال السودان بعد الاستفتاء والانفصال, فلابد لطرف سياسي ما أن يدفع الثمن حيث لا توجد وظيفة لسلطة سياسية أكثر أهمية من الحفاظ علي التكامل الإقليمي للدولة الذي هو جوهر الأمن القوي لأي دولة. وهي حقيقة للأسف لا توجد في الجوهر السياسي لجماعة الإخوان المسلمين داخل وخارج السودان سواء من ترك منهم الحكم أو من بقي فيه. وفي المقابل فإن أحدا لا يعرف ما الذي سوف يجري في الجنوب بين قبائل متنوعة تعرف السلطة والدولة لأول مرة وتسيطر عليها حركة سياسية لم يكن التسامح واحدا من فضائلها, ولا يوجد لديها سوي مورد وحيد للثروة هو النفط الذي يمثل98% من دخل الدولة الجديدة, ومن بعده تفتقد إلي كل شيء آخر. وبالطبع فإننا لن نعرف أبدا الآن ما الذي سوف يجري تحديدا بين دولتي الشمال والجنوب حيث توجد عشرات الأمور المعلقة, ويبدو كلاهما جاهزا للوم الآخر علي ما سوف يحققه الانفصال. فالشمال الذي سيئن من العملية الجراحية للانفصال سياسيا واقتصاديا سوف يواجه ضغوطا من نقاط التماس خاصة في منطقي آبيي المتنازع عليها سكانيا ورعويا ونفطيا, ولن يجد في كل الأحوال سببا لآلامه إلا ما قام به الجنوبيون من تحالفات أجنبية جعلتهم يحصلون علي ما لا يجب الحصول عليه. والجنوب لن يجد معضلة في لوم الشمال علي كل شيء وهو الذي سوف يئن من مشاكل دولة لم توجد لها مقومات حديثة, وغابت عنها مقومات قديمة, وجاء إليها لاجئوها من كل حدب وصوب, وهؤلاء سوف يتساءلون دوما هل تكفي أفراح الاستقلال لكي تسد رمق واقع أليم يعيش في معسكرات الغوث واللجوء ؟!. وما يجعل المسألة كلها شمالا وجنوبا أكثر تعقيدا مما تبدو عليه من تعقيد أن السودان بلد فقير للغاية, حيث يحتل السودان الترتيب رقم154 في دليل التنمية البشرية لعام2010 الذي يصدره البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة بالتطبيق علي169 دولة, وهي بذلك تنتمي إلي فئة الدول ذات التنمية البشرية المنخفضة, لتسبق أربع عشرة دولة فقط, هي أفغانستان وغينيا وأثيوبيا وسيراليون ومالي وبوركينافاسو وليبريا وتشاد وغينيا بيساو وموزمبيق وبورندي والنيجر وجمهورية الكونغو الديمقراطية وزيمبابوي. وبالنسبة للاقتصاد السوداني, يبلغ الناتج المحلي الإجمالي في السودان55.9 مليار دولار عام2009, ونصيب الفرد السوداني من الناتج ألفا و293 دولارا, ويشكل البترول45% من الناتج القومي في السودان. مثل هذه الدولة الفقيرة المثقلة بآلام الانقسام والانفصال عليها أن تواجه نتائج مذهلة, فقد بلغ عدد السكان النازحين داخليا4 ملايين و900 ألف نسمة( يشمل2.7 مليون من النازحين داخليا في دارفور و1.7 مليون في منطقة الخرطوم الكبري و390 ألفا في جنوب السودان و60 ألفا في جنوب كردوفان) وتبلغ نسبة انتشار النقص في التغذية20% بالنسبة لإجمالي عدد السكان, وتبلغ نسبة شدة الحرمان من الغذاء( متوسط نسبة النقص في الحد الأدني لعناصر الطاقة الغذائية)14%. وبالنسبة لمؤشر الصحة, يبلغ متوسط العمر المتوقع عند الميلاد58.9 عام. ويبلغ عدد الأطباء3 لكل10 آلاف نسمة, وتبلغ نسبة وفيات الرضع(70 لكل ألف من المواليد الأحياء) و109 من دون سن الخامسة و304 من الإناث الكبار و335 من الذكور الكبار لكل ألف أيضا, وبلغ معدل الوفيات حسب العمر بفعل الأمراض غير السارية(986 لكل100 ألف نسمة). كما تبلغ نسبة وفيات الأمهات450 حالة وفاة لكل100 ألف ولادة حية. وقد وجهت منظمة الصحة العالمية تحذيرا من أن معدل الإصابة بالإيدز يتجه إلي الارتفاع في جنوب السودان, وأشارت إلي أن جنوب السودان وجيبوتي سجلا ارتفاعا ملحوظا في معدلات الإصابة بين السكان, ففي خلال السنوات السبع الأخيرة دخلت كلتا الدولتين المنطقة الحمراء, وهو ما يعني أن المصابين يمثلون3% من تعداد السكان. الانفصال والميلاد الجديد لدولتين يحدث في ظل مناخ من الفقر والفاقة والعنف وانتشار السلاح نتيجة الحروب الأهلية المختلفة في الجنوب والغرب والشرق فضلا عن حروب صغيرة مع تشاد وتوترات إقليمية شتي سوف يصعدها الزلزال السوداني, حيث تبدو الأرض لدي كل الجيران قلقة بما لا يحتمل زلازلا أو أعاصير جديدة سواء كان الأمر في تشاد أو أوغندا أو إريتريا, ولا يمكن تفسير العصبية الأثيوبية غير المفهومة مؤخرا رغم تحسن العلاقات مع مصر إلا من خلال منظومة الخوف القادمة من رحم انهيار دولة كانت أحد الأعمدة الرئيسية للمنظومة الإستراتيجية لإقليم وادي النيل. نحن إذا أمام معضلة كبري نجد بعضا من صداها في مصر, ولكن الصدي ليس أصواتا مفهومة وإنما هو رجع أصوات مختلطة لا تتمايز فيها الأصوات ولا الكلمات. ومن الجائز بالطبع أن تترك الأمور تجري في أعنتها بحيث تأخذ الطبيعة مجراها علي أمل أن ينتصر العقل والحكمة في النهاية بحيث ينجح الطرفان في جنوب وشمال السودان في تحقيق الانتقال السلمي للسلطة وتقوم دولتان متجاورتان متعاونتان من أجل مصالحهما المشتركة. ومن الجائز أن يستفيد كلاهما مما جري من قبل في دول انقسمت بعد وحدة لفترة طويلة حتي بات الانقسام مخمليا كما جري في تشيكوسلوفاكيا; وربما لم يكن مخمليا في الاتحاد السوفيتي, ولكن فك الارتباط بالدولة العظمي الثانية في العالم حدث في النهاية بطريقة مقبولة. كل ذلك جائز, ولكن المراهنة علي هذا السيناريو في ظل مناخ من الفقر والضغوط الداخلية والخارجية وتصفية حسابات سياسية جاء أوان سداد فواتيرها يجعل هذا الاحتمال نوعا من التمنيات الطيبة أكثر منه واقعا ملموسا. والسيناريو الآخر أن يكون التدخل الدولي ثقيلا إلي الدرجة التي تفصل حدود التماس, وتحرس الحدود المتنازع عليها حتي يأتي أوان حلها, وتقوم بتقسيم المصالح وتسوية مشاكل اللاجئين. وباختصار أن يتولد وضع من الوصاية الدولية حتي لو لم يسمها أحد كذلك يقوم بإجراء عملية الولادة المتعسرة حتي تصبح ظروف الحياة للمولود ولوالديه مقبولة. والسيناريو وارد, ولكن تري من الذي عليه في العالم دفع تكاليف باهظة والاقتصاد العالمي علي ما هو عليه, والولايات المتحدة لا تزال تئن من وطأة الانكماش, والصين واليابان وروسيا قد تتحدث عن الدور العالمي ولكن أيا منها ليس علي استعداد لدفع دولار أو التضحية بجندي, وأوروبا وأمريكا بعد تجربة العراق وأفغانستان ليست علي استعداد لدخول أدغال وأحراش سياسية وطبيعية جديدة. هل نضع الأمر كله علي كاهل الجامعة العربية لكي تدير عملية التحول رغم أن الموارد شحيحة للغاية لدي السيد عمرو موسي الأمين العام لجامعة الدول العربية, كما أن الوقت شحيح لأن الجامعة يدها ممتلئة تماما منذ نشأتها بالقضية الفلسطينية, وإذا ما فاض منها وقت فإنه يكفي بالكاد للمصالحة اللبنانية أو المصالحة الفلسطينية ونوعيات أخري من المصالحات المشرقية. وفي النهاية ربما لا تكون القضية هي وقت الأمين العام للجامعة, وإنما رابضة لدي الدول الأعضاء التي لا نعرف عما إذا كانت علي استعداد لإضافة الهم السوداني إلي همومها الخاصة أم أن السلامة تقضي انتظار نتائج أقدار محتومة وقضاء نافذ؟! مصر وحدها في الظن هي التي عليها أن تقود الطريق لحل المسألة السودانية, وليس في السر أن في الأمر حساسيات, ولكن الخيارات صعبة ومصيرية بالمعني الحرفي للكلمة. ومصر هنا ليست الدولة المصرية وحدها, ولكنها كل القوي المسئولة التي عليها أن تقدم الفكر والسياسة الملائمة للتعامل مع واقع معقد. وربما كان علي الإخوان المسلمين مراجعة التجربة السودانية التي تجلت فيها أسباب فشل نظرية الإسلام هو الحل في إدارة الدول ومن بعدها تقديم النصيحة لمن خلطوا الدين بالسياسة. وعلي أي الأحوال فقد كان لكل القوي السياسية المصرية روافد سودانية فاقت في فائضها ما كان يفيض من النيل. لقد جاءت لحظة الحقيقة ولا مفر من مواجهتها لأن الهروب والانتظار له ثمن فادح. [email protected] المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد