لايمكن أن ينزل الإنسان في نفس النهر مرتين، فلا الإنسان يبقي علي حاله أبدا، ولا النهر يستمر كما كان، وفي كل لحظة من لحظات الزمن فإن الدنيا لاتصير كما كانت، ولا الاقدار تبقي علي حالها، تلك هي الحكمة التاريخية التي تنطبق علي العالم كله في جميع الاوقات، الا في مصر حيث يمكن ان يبقي كل شئ علي حاله، ومن الممكن أن تجري الأمور في تكرارية مخيفة لاتتغير ولاتتبدل فلا أحد يدقق في حقيقة ماجري، ولاأحد يقول لماذا كان علينا ان نعيش ما عشناه عدة مرات. وبعد، فهذه ليست ألغازاً واحجية، وانما هي وقائع الحياة السياسية المصرية حيث عجب البقاء والاستقرار وفوزه الذي لاينقطع علي التغيير والتبديل ومن ذلك الذي يجري حاليا ان النية قد انعقدت داخل الحكومة والحزب الوطني الديمقراطي علي برنامج التغيير، وهو أمل لا بأس فيه بل طال انتظاره، ولكن المعضلة هي ان لا أحد تعلم من تجربة سابقة متعلقة بتعديل المادة 76 في الدستور والتي عادت بأمور الانتخابات الرئاسية الي ما كانت عليه مع فارق وحيد هو ان مرشح الحزب الوطني الديمقراطي سوف يفوز بالتزكية هذه المرة وليس بالاستفتاء.. فهؤلاء الذين قاموا علي التعديل لهم القدرة علي الايحاء بانقلابات عظمي وتطورات تاريخية، ولكنهم في الحقيقة ماهرون في ادخال المجتمع الي ابواب دوارة يظن فيه انه سوف يدخل اخيرا الي حيث يوجد التقدم والديمقراطية الحقة فإذا بالباب في دورانه يأخذه الي الخارج مرة أخري حيث الاحوال كما كانت او حتي تدهورت اثناء عملية الدوران، بل انه من الجائز ان يتوقف الباب عن الحركة فإذا بالمجتمع كله يختنق وهو ينظر من خلف زجاج الي امام لايعرف كيف يصل اليه والي خلف لايعرف الرجوع له. هذه الحالة لاينبغي لها ان تتكرر مرة أخري، ليس فقط لان الزمن لم يعد قابلا للانتظار طويلا داخل الابواب الدوارة، وانما لان المجتمع لايتحمل خيبة امل جديدة وبصراحة فان الواجب يقتضي استبعاد كل من كانت لهم يد في العملية السياسية التي جرت في العام الماضي خاصة ما تعلق منها بتعديل المادة 76 من عملية التغيير والتبديل هذه المرة خاصة عند فرز المقترحات القادمة من المجالس التشريعية ومن جلسات الاستماع ومن الرأي العام علي اتساعه، وبصراحة اكثر فربما نحتاج الي جماعة مستقلة ومشهود لها بالحياد وموضوعية الرأي لكي تقوم بهذه العملية ومثل هذا سوف يوفر قدرا كبيرا من اللغط المقبل وسوف يعطي العملية كلها مصداقية تحتاجها بشدة، واذا عز ذلك كله وبات نوعا من المستحيلات التي لايعرفها الزمن المصري، واصبح امرا من الخيال مثل طائر العنقاء والخل الوفي، فإن المهمة تكون من نصيب المجلس القومي لحقوق الانسان الذي يضم نوعا من الجبهة الوطنية، واظهر قدرا كبيرا من المسئولية والحياد خلال المرحلة الماضية ويوجد فيه من التقارير الرصينة عن الحالية السياسية المصرية يتوفر فيها الاعتدال والبعد عن انشطته ورغم ذلك كلها فان تطبيقها ينقل مصر نقلة حقيقية نحو الديمقراطية. ولكن، وللحق فان الحكومة والحزب الوطني ليسا وحدهما في رغبة الابواب الدوارة فالمعارضة هي الاخري لديها هذه الآفة التي تأخذ المجتمع كله الي الخلف خطوات كثيرة وكما هو الحال مع الطرف الاول فإن واحدا من القضايا العادلة للمعارضة التأكيد علي ضرورة استقلال القضاء، ولكن العارفين بالاستقلال الحقيقي للقضاء يعرفون ان هذا الاستقلال لايكون فقط عن السلطة التنفيذية وإنما أيضا عن المجتمع. ولكن المتظاهرين حول دار القضاء العالي لايكفون بدورهم عن التدخل في القضاء، فهم يحاكمون الاحكام القضائية، وهم يحددون نوعية القضايا الجنائية وغير الجنائية، وهم يقدرون الاتهامات ويصدرون الاحكام حتي وصل الامر الي صعوبة شديدة في حصول المواطن علي محاكمة عادلة نتيجة الضغوط الهائلة التي تضعها الجماعة الصحفية علي الرأي العام وعلي القضاة في المحاكم، وفي المرحلة الاخيرة اخترعت جماعات المعارضة المصرية والصحافة في مقدمتها قاعدة جديدة في القانون قوامها ليس أن الإنسان في الأصل برئ حتي تثبت إدانته في ساحة القضاء، وإنما الإنسان مدان يتم التشهير به ليل نهار حتي يثبت بغير شك أنه برئ مما يوجه له، وعلي عكس القاعدة المعروفة ان البينة علي منادعي فان المطلوب هو ان البينة اصبحت من واجب المدعي عليه، ومن يرجع حالات الدكتور سعد الدين ابراهيم والدكتور محيي الدين الغريب وقضية ما عرف بنواب القروض وغيرها من القضايا التي ثبت بعد فترة ان التقديرات الصحفية والسياسية فيها قد جانبها الصواب، ومن نافل القول ان محاربة الفساد من الواجبات الوطنية ولكن لايوجد ما يفسد الحرب ضد الفساد قدر التدخل الاعلامي والسياسي في القضاء لمن لايعرف بأحكام القانون، ولمن لايعرف بقواعد احترام الحريات العامة. ولايوجد ما يفسد عملية الإصلاح كلها قدر تداخل الاوراق، وافتقاد الهدف في تغيير دستوري حقيقي يعطي السلطة القضائية وغيرها استقلالا وتوازنا حقيقيا ولكن هل هناك في مصر من يريد التغيير حقا؟!