* لم يخطر علي بالي يوما أن أولي زياراتي للقارة الأفريقية ستكون من بوابة بلد صغير كائن في منطقة القرن الافريقي اسمه اريتريا. وان سألتك كمصري: ماذا تعرف عن اريتريا التي لا تبعد عن القاهرة سوي ساعتين بالطائرة؟ بالتأكيد ستصمت كثيرا قبل أن تجيب بسرد معلومات عامة لا تقدم ولا تؤخر. وشخصيا اعترف بان صلتي باريتريا أو بالأحري معرفتي بها عن قرب ابتدأت بذهابي إلي عاصمتها أسمرة, لإجراء حوار مع رئيسها أسياسي أفورقي, وكان علي قبل مغادرتي تنشيط ذاكرتي ومعلوماتي عن ارتيريا التي يعود فضل تسميتها به لليونانيين في القرن الثالث, وهو مشتق من الكلمة اليونانية' سينوس ارتويوم' وتعني البحر الأحمر باليونانية, وذلك تخليدا لجزيرة يونانية اسمها اريتريا. وخلال عملية التنشيط تلك اكتشفت أن هذا البلد الصغير مساحة وتعدادا قرابة4 ملايين نسمة كان نقطة دخول الإسلام لأفريقيا وانتشاره فيها, فضلا عن تحكمه في مدخل باب المندب بالبحر الأحمر, ووقوعه وسط إقليم مضطرب بحكم قربه من الصومال واليمن وأثيوبيا, وتلك بؤر مثيرة للقلق بأوجه متنوعة. وقبل وصولي لأسمرة رسمت في مخيلتي صورة غائمة لها, وكنت مهموما ومشغولا بما سأواجهه فيها, لا سيما وانك تحذر وبإلحاح قبل التوجه للقارة السمراء من الأمراض المتوطنة. وحتي لا أطيل هبطت مطار أسمرة ورأسي تزدحم بما ينتظرني فيها من مفآجات, غير أن مفاجأة كبري كانت في انتظاري, واقر من البداية بأنها ادهشتني تماما. فقد فؤجئت أنني أقف أمام نموذج مصغر لمدينة روما الايطالية, فأسمرة علي ارتفاع2500 متر عن سطح البحر, وبنيت مطلع القرن العشرين, وحينئذ كانت مستعمرة ايطالية, ولذلك فقد شيدها الايطاليون علي ذوقهم وبما يعفيهم من إحساس الغربة عن الوطن البعيد. والطريف أن أسمرة نجت خلال ال60 عاما المنصرمة من كل الحروب والمآسي التي خاضتها اريتريا, وما يثيرك بقوة أن الاريتريين حافظوا علي الطابع الايطالي ولم تمتد إليه يدهم بسوء أو معاملته بوصفه من بقايا ومخلفات العصر البائد وعليه يجب تصفيته والقضاء عليه قضاء مبرما, حتي بعد أن اقتنصت استقلالها عام1993 من الاحتلال الاثيوبي. ونمط الحياة في المدينة ذات ال400 ألف نسمة هادئ وآمن. وبمقدورك التجول في العاصمة وقتما شئت ومشاهدة كل معالمها خلال فترة زمنية وجيزة, ولن تشعر بحاجتك لسيارة نظرا لأنها محدودة وصغيرة, وما علي الزائر سوي الاستمتاع بالتمشية في شارع الاستقلال الذي يشكل القلب النابض لأسمرة, حيث تقع معظم معالم المدينة بالقرب منه, ويزينه أشجار النخيل الاستوائية, وينتشر علي جانبيه المقاهي الحديثة والكلاسيكية, بخلاف انه يمثل مركز التسوق الرئيسي بالمدينة. ويستوقفك في هذا الجزء الكثير من الكنائس المشيد غالبيتها علي الطراز الايطالي, خصوصا التابعة منها للكاثوليك, ومساجد يعود تاريخ تشييدها لمائة عام, وعين الزائر المتفحصة لا يغيب عنها أن النظافة ركن أصيل, فطوال اقامتي لم تقع عيني علي تلال قمامة في الشوارع ولا الضواحي. والمتعة الحقيقية لزائر اريتريا تتجسد في زيارة المحميات الطبيعية والواقع اغلبها علي طرق جبلية متعرجة في المسافة ما بين أسمرة ومدينة مصوع الميناء الرئيسي للبلاد والمطل علي البحر الأحمر نحو142 كم ويعد هذا الطريق من المعجزات التي يفتخر بها الاريتريون لأنهم شيدوه بجهودهم الذاتية. وتعطيك هذه الرحلة فرصة التعرف علي الحياة الطبيعية الخلابة الممنوحة لاريتريا بكل ما فيها من غابات تضم بين جنباتها أسراب الطيور بأنواعها المختلفة والقرود والنسناس والزهور والنباتات. وكان من حسن حظي قيامي بنزهة استدعت ترك أسمرة لزيارة منتجع' شمال بحري' ويعني شمال البحر باللغة التيجرينية, انطلقنا من الفندق ومنه لضاحية قادت سيارة الدفع الرباعي التي كنا نستقلها لمنطقة ريفية علي التلال المحيطة بالعاصمة, وكان يعترض طريقنا من وقت لآخر قطعان الماشية التي تراعي بحرية علي جانبي الطريق. وبالمناسبة فان أسعار لحوم الماشية والماعز والخراف زهيدة, لأنها تعيش وسط الطبيعة الغناء ولا تكلف تربيتها الكثير, واقترح أن نتدارس استيراد بعضها, وليت رجال الأعمال في مصر يفكرون في هذا الخيار, وان يضعوا في اعتبارهم انه يمكن شحنها بسهولة من ميناء مصوع. وفجأة بدأنا رحلة رعب حقيقة, عندما هبطنا من قمة عالية باتجاه البحر, فالطريق كان ضيقا, فالجبل علي جنب والهاوية علي الجنب الأخر, وفي المنحنيات نجونا من الاصطدام بسيارة قادمة في الاتجاه العكسي, بسبب السرعة الزائدة عن الحد. واخبرني مرافقي إن القرود تنتقم من أصحاب السيارات إذا صدمت احدهم بقذفها بالحجارة والصخور الصغيرة, وخلال الرحلة ما بين أسمرة ومصوع تعايش الأحوال المناخية الثلاثة في اريتريا ما بين المعتدل والبارد والجاف. وعماد الحياة في المناطق الجبلية هو البساطة المتناهية, فالبيوت عبارة عن أكواخ مبنية علي الشكل الأفريقي دائرة يعلوها سقف هرمي من القش, والرعي والزراعة يمثلان قوام اكتساب الرزق فيها. وأيضا تري بعينك ما لحق بالمدن الاريترية من دمار فظيع أبان سنوات الكفاح المسلح, وتلك حقبة يعتز بها الشعب الاريتري ويكاد لا يخلو حديث منها, فحتي يومنا هذا تؤمن الغالبية العظمي من مواطني اريتريا بأنهم لا زالوا يعيشون في مرحلة الكفاح, ولكن هذه المرة لبناء الاقتصاد ومرافق البلاد, ويرسخ النظام السياسي هذا الاتجاه, فالشعب كله وعن بكرة أبيه يخدم تحت سلاح المقاومة. وتقريبا كان كل الاريتريين يشاركون في أعمال المقاومة المسلحة وكثيرون تعرفوا علي زوجاتهم بالجبال والأحراش, حيث كانوا يتحصنون ويحتمون, وأحاديثهم تتركز علي ما كانوا ينفذونه من هجمات وخداع قوات الاحتلال, ولو أن الأجيال الشابة المولودة بعد الاستقلال يرغبون في حياة أكثر انطلاقا وتخلو من قيود ومحاذير المرحلة الثورية, ولذا يحاول بعضهم البحث عن فرصهم خارج الوطن.