شعب الأربعة ملايين في إريتريا ، أصبح شوكة في حلق الولاياتالمتحدةالأمريكية ..ولا أحد يعادي إريتريا الآن إلا الولاياتالمتحدة ... سألت الرئيس الإريتري بعد أن ذكر أمامي هذه الجمل وغيرها بحدة مفهومة ! لماذا كل هذا العداء بينما يتصورك معظم العرب علي غير هذه الصورة ؟ من هنا كانت بداية المناقشة الودية التي ذهبت من أجلها إلي إريتريا بناء علي دعوة من الرئاسة هناك لإجراء مثل هذا الحوار الودي مع رجل ما زال يعيش روح الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا ، حتي وإن أصبحت تحمل اسم الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة عقب التحرير الكامل للأراضي الإريترية . كان إتفاقي مع وزير الإعلام الشاب " علي عبده عمر " انني لست صحفيا ولاأجري حديثا صحفيا للنشر، ولذا أريده حوارا حرا لاتسجيل ولا تصوير فيه ، هكذا تعودنا - وعدد من الأساتذة من أصدقاء الثورة الإريترية - أن نلقاه بناء علي دعوته لنا أكثر من مرة حتي وهو في زيارة رئاسية للقاهرة ، وتربطنا بالجبهة علاقات تاريخية معروفة . كان علي لساني بالضرورة عندما تحدث الرئيس "أسياس أفورقي " بهذه اللهجة سؤال تقليدي في هذا الصدد هو: لماذا يكرهونكم ؟. اتجه الرئيس "أسياس أفورقي " مباشرة إلي جوهر السياسة الامريكية أشار إلي استمرار أخطاء الولاياتالمتحدة رغم انفرادها بالقوة بعد انتهاء الحرب الباردة ، فلم تعرف كيف تنفرد بالقوة أو تديرها لتحقيق الاستقرار في العالم والذي كان متصورا مع نهاية الحرب الباردة ، ولكن سرعان ما بدأت سياسة جديدة خاطئة أيضا باسم محاربة الإرهاب بزعم تحقيق الاستقرار ، وهذا غير صحيح في رأي الرئيس الإريتري ، لأن محاربة الإرهاب الحالية لاتخلق إلا الفوضي. شرطي إقليمي يعمل الأمريكيون علي خلق دول" كشرطي إقليمي" مما يفاقم الجغرافيا السياسية في اقليم مثل القرن الافريقي...وأدركت هنا أن "أفورقي " يلمح لدور إثيوبيا العدواني في المنطقة ، لكن ذلك أبقي السؤال مفتوحا ، لماذا تؤدي صداقة الولاياتالمتحدة لاثيوبيا إلي كل هذا العداء لاريتريا ؟ وراح الرئيس الإريتري يعمق إجابته حول السياسة الأمريكية ، فمنذ فترة حكم "كلينتون " نفسه ، كانت السياسة الأمريكية تعمل علي خلق مجموعة ممن أسموهم القيادات الأفريقية الشابة ، أو "جيل جديد" من القيادات ، وأرادوا ضم إريتريا لهذه الحلقة ، لكنهم فشلوا في محاولات ترويض إريتريا ( بالطبع يقصد قيادته) وأثارهم ما أسموها "بالعجرفة " الإريترية ، ولزمت المعاقبة علي ذلك بالاتهامات المعروفة . وقد يكون الرئيس الإريتري قد لاحظ دهشتي من إمكان "عجرفة" هذه الدولة الصغيرة -كما أشار هو نفسه لها أكثر من مرة - أمام النفوذ الأمريكي الطاغي. لاشك أن الموقف الإريتري يبدو مثيرا لأي قوة تعمل علي تنسيق سياستها في القرن الأفريقي ، خاصة أن إريتريا تعلن في أكثر من حديث للرئيس "أسياس" أنها تريد مشروعا لتكامل بلدان القرن ، والانتباه للبحر الأحمر بمثل ما يجري نحو الخليج وأكثر .وأن هذه الدعوة من قبل إريتريا تقلل من حجم إثيوبيا التي تقوم في رأي الرئيس الإريتري بدور الشرطي ، بحربها مع إريتريا 1998-2000، أو بغزوها للصومال ، بل وبموقفها من قضية مياه النيل . وهنا اختلطت أوراق كثيرة انتهت بلوم كثيف من الرئيس الإريتري لحدود الفهم العربي للدور الإثيوبي ، ومشاركتهم دوائر غربية -سياسية وثقافية - في المبالغة في قيمة تاريخها الخاص ومشروعها الإقليمي ، وهي لاتملك ذلك ولاتستحقه ، وقد فشلت في حربها علي إريتريا ، وفشلت في غزوها للصومال دون أن تتحدث الدول العربية إلا عن قوة إثيوبيا للأسف الشديد ، وهذا ينبه لفشل مشروعها ضد إريتريا أو غيرها ، ويؤكد فلسفة إريتريا حول التجمع الإقليمي وتكامله وخاصة لبلدان البحر الاحمر ، التي تضم الصومال وجيبوتي واليمن والسعودية ومصر..هذه الصورة التي لاتتوفرعند الدوائر العربية ، تثير الرئيس "أسياس أفورقي " بشدة ، وتحدث بحدة عن بعض الأساتذة يتحدثون في الفضائيات العربية عن الإمبراطورية الإثيوبية - وبدا أنه متابع جيد للمصادر الإعلامية المختلفة - إلا أنه استفاض في التعليق علي ذلك الأستاذ الجليل الذي بدا سعيدا بإثيوبيا الإمبراطورية وحتي قوتها الحالية . أكد الرئيس الإريتري أننا لانفهم أن ما يسمي القوة الإثيوبية لاتعتمد علي قوة شعبها أوثروتها ، فالشعب الإثيوبي غير مستسلم لحكم فئة طاغية من التيجراي - يسميها "الوياني" بينما هناك الأمهرة والأورمو، والصوماليين وغيرهم وهذا مايفعله الحكم في إريتريا مع القوي - حتي العرقية - المختلفة أكبرها (التجرينية-التجري)ثم الساهو-الهيدارب-العفر-البلين-الكوناما-النارا) .وقد لفت نظري فعلا محاولة إريتريا إبرازالتوازن في هذا التنوع ، فالصحيفة الرسمية تصدر بالعربية والإنجليزية ، والإذاعة تعبر عن القوميات المختلفة ومنها العربية بشكل أو بآخر ، ولم أسمع تعليقات حادة حول مدي توازن اسلامي ومسيحي أو وجود ذوي الأصول العربية من قبائل غرب إريتريا ، ويحرص الرئيس الإريتري علي الحديث في المواقع العربية بلغة عربية فصيحة . وربما يوحي هذا الجوالإريتري أو البيئة السياسية الهادئة للرئيس "أسياس" بالحديث عن الصورة الإثيوبية المضطربة بالحضور العرقي العالي . ورغم ذلك تقدر الولاياتالمتحدة وأصدقاؤها، إثيوبيا وحدها ، ويكيل الكثيرون لها بمكيالين ، عند رفضها تطبيق قرار محكمة دولية بشأن تسوية الحدود ، أوعند غزوها-والتهديد الدائم بالغزو - في الصومال ، بينما تتهم إريتريا بالعدوانية في الصومال وفي دارفور وبالعلاقة الخاصة بإيران ، وكأن إريتريا دولة كبري ذات أطماع إقليمية ، بينما تطرح القيادة الإريترية دائما مشروعات الوحدة في الصومال والسودان، بل وتطالب دائما بحكم معبر عن وحدة وتكتل للقوي المختلفة بما فيها الشعب الإثيوبي نفسه ، وليس الإنفراد بالحكم لعصبة "وياني" التي لاتتحرج من التظاهر بالديمقراطية ، والانتخابات الأخيرة تفضح موقفها تماما. ولاء لأمريكا سألت الرئيس عما يبدو من عزوف إريتريا عن المشاركة في معظم المنظمات الاقليمية والقارية بوجه خاص ، بل وحدته الأخيرة مع الأممالمتحدة نفسها وهذا ما يجعل البعض يتحدث عن "عزلة إريتريا" ، بل ربما أثر ذلك في مضمون "الفهم العربي " الذي بدا "أفورقي " مستثارا منه بسبب إعتماده الأكاذيب الغربية أو شائعات لا أساس لها. انفعل الرئيس ضد صورة "العزلة" ، أو"الدولة المارقة" كما تردد بعض وسائل الإعلام وعرفت بعد ذلك أنه أدلي بأكثر من ثلاثين حديثا لفضائيات عربية ودولية في السنة الأخيرة ) كما أن هناك عددا كبيرا من السفارات العربية ، وأن السفارة الإسرائيلية تكاد تغلق أبوابها ..." قال الرئيس الإريتري معقبا أن العرب قد استسلموا لما تم تسويقه لهم من الخارج بشأن إريتريا ، ولأن إريتريا نفسها ليست للبيع ، فالهجوم عليها وعلي استقلاليتها يبدو شديدا . وأشار هنا للحديث عن المنظمات الاقليمية مثل «الإيجاد» في شرق افريقيا ، أو مبادرة حوض النيل ، أومنظمة الوحدة الافريقية بل والاتحاد الافريقي ومثل هؤلاء في الجنوب والغرب الافريقي ، فرأي فيهم الرئيس الإريتري أداة للسياسة الأمريكية كما بدا في إرسال قوات أوغندا وبوروندي لحفظ السلام في الصومال وهم الأكثر حاجة للسلام في بلادهم ثم تتهم إريتريا ، كذلك وقف الجميع إيجابيا مع إثيوبيا ، وحتي الحالة السودانية بالنسبة للجنوب أودارفورونزاع إريتريا مع جيبوتي ( يسارعون مع السياسة الأمريكية بتدويل المسائل ثم يتدخلون لوضع الحلول بالقوة ، وإريتريا لاتستطيع أن تساهم في خدمة هذه السياسات التي وصلت إلي مجلس الأمن والبنك الدولي ، فالأول يصدر القرارات ضد إريتريا لأهون الأسباب ، والثاني يضع الشروط علي المنح مخالفا أبسط قواعد المساعدات الخارجية ، ولذا تتشدد إريتريا مع المانحين ، لأنهم إما أن يحترموا سيادتها واعتمادها علي ذاتها ، أويذهب كل لحاله . وفي هذا الصدد جاء ذكر الموقف العربي ، فقال إن بعضها يأتي وحده ووفق المصالح المتبادلة ، وهنا بدت الاشارة إلي قطر والسعودية ..وعندما سألت بعد الجلسة عن حكاية دور قطر المقدر هنا بعناية ، ذكر لي آخرون أنها أعدت خطة استثمار لمشروعات سياحية كبيرة في جزر "دهلك" ( التي قيل الكثير عن استخدام اسرائيل لها !) بما يجعل هذه الجزيرة منتجعاً عربيا راقيا قد يرد أيضا علي حكاية استخدام اسرائيل ل"دهلك" لكنه أيضا جعل قطر ذات شأن في إريتريا أدي إلي تدخلها بالتوفيق بين إريتريا وجيبوتي في مسألة حدودية بسيطة ،فقدمت قطر بضع مئات من جنودها لحفظ السلام فيها ،رغم أن الرئيس الإريتري في حدة لايقبل "الوساطات "بالمعني الدولي لرغبته في تحقيق انسحاب إثيوبيا من بعض المناطق الحدودية بدون شروط او وساطة. وحدة الصوماليين لاحظت حرص الرئيس علي عدم ترك السياسة الخارجية لدول هذه المنطقة ساحة للتدخل الاجنبي وإثارة المشاكل بين شعوبها ، والتحالفات عند "أسياس" لابد أن تكون داخلية أيضا كما هي اقليمية ، لان انفراد عناصر معينة بالسلطة وتكون خاضعة للخارج في نفس الوقت ، لايؤدي إلا لمانراه في الصومال وإثيوبيا ، ولذا- ينصح الرئيس - بأنه لايمكن تصديق مواقف مثل هؤلاء لا بالنسبة لمياه النيل ولابادعاء طلب الاستقرار في الصومال اوالسودان..الخ وإثيوبيا لاتستطيع أن تنفذ مشروعا كبيرا للمياه لان الدوائر الدولية لن تصدق هذا الحكم في النهاية قبل ان يمثل الحكم كل قوي المجتمع والاستقرار الحقيقي في إثيوبيا . وعلي هذا الاساس نفسه نطلب من الصوماليين ، التوحد قبل طلب الحكم ، وقد رأس شريف أحمد تحالف أسمرا من قبل علي هذا الاساس ثم باع الجميع ليرأس حكومة أودولة من صنع إثيوبيا وحلفائها ! تساءل الرئيس بشدة عن وجود مصر -أو قل غيابها - في كثير من المواقع والمشاكل الافريقية، وعاد ليؤكد أن إريتريا واثقة من نفسها، يعاونها أبناؤها بالخارج ،ماديا وتقنيا بما يغني إريتريا عن تدخلات لاتقبلها ، والغريب أن هذه هي الصياغة التي وجدتها عند أكثر من قابلت ، رغم الحديث عن البطاقات التموينية ، والخدمة العسكرية الطويلة ،التي تدفع الشباب للهجرة أو الفرار من البلاد. تعلمت الكثير عن إريتريا الحديثة، من مقابلات كثيرة وأنا الذي زرتها وعايشت مقاتليها في الأراضي المحررة 1978، أي منذ أكثر من ثلاثين عاما، وعدت وقابلت بعضهم. وكانت فرصة للاطمئنان بدرجة أو أخري إلي وعود الاستعداد لفترة قادمة تشرق فيها الشمس علي إريتريا صاعدة بالعدالة والديمقراطية التي ينشدها الجميع هناك.