وزير التعليم العالي يؤكد أهمية تنوع الأنشطة الطلابية لذوي الإعاقة بالجامعات    محافظة الدقهلية تواصل فعاليات دمج أطفال دور الرعاية بالمجتمع (صور)    أسعار البيض اليوم الجمعة بالأسواق (موقع رسمي)    قمة مصرية روسية اليوم بموسكو لتعزيز العلاقات في مختلف المجالات    لأول مرة.. بابا الفاتيكان أمريكيا| وترامب يعلق    خلافات عميقة وتهميش متبادل.. العلاقة بين ترامب ونتنياهو إلى أين؟    ريال مدريد يستعد لإعلان تنصيب ألونسو خلفًا ل أنشيلوتي    إحباط محاولة غسل 50 مليون جنيه من تهريب المخدرات وضبط عنصرين أجنبيين بمدينة نصر    5 حالات اختناق بمنزل وحادث اعتداء على سوداني بالجيزة    ضبط عناصر إجرامية بحوزتهم مخدرات بقيمة 3.5 مليون جنيه    عرض فيلم "Only the River Flows " بمكتبة مصر الجديدة العامة    بوتين: روسيا ستبقى قوة عالمية غير قابلة للهزيمة    وفد «محلية النواب» يتفقد الخدمات الصحية لمستشفى الناس بشبرا الخيمة (صور)    احتفالات روسيا بالذكرى ال 80 للنصر العظيم..حقائق وأرقام    مصلحة الضرائب: 1.5 مليار وثيقة إلكترونية على منظومة الفاتورة الإلكترونية حتى الآن    فاركو يواجه بتروجت لتحسين الوضع في الدوري    ماركا: تشابي ألونسو سيكون المدرب الجديد لريال مدريد    إنفانتينو يستعد لزيارة السعودية خلال جولة ترامب    وزير الري: سرعة اتخاذ قرارات طلبات تراخيص الشواطئ تيسيرا ودعما للمستثمرين    وزير الإسكان: بدء تنفيذ مشروع «ديارنا» السكني بمدينة القاهرة الجديدة    جدول امتحانات خامسة ابتدائي الترم الثاني 2025 بالقليوبية «المواد المضافة للمجموع»    بسبب الأقراص المنشطة.. أولى جلسات محاكمة عاطلين أمام محكمة القاهرة| غدا    انطلاق امتحانات الفصل الدراسي الثاني للطلبة المصريين في الخارج غدا    الموافقة على الإعلان عن التعاقد لشغل عدة وظائف بجامعة أسيوط الأهلية (تفاصيل)    وزير المالية: الاقتصاد المصري يتحرك بخطى جيدة ويوفر فرصًا استثمارية كبيرة    مروان موسى ل«أجمد 7» ألبومى الجديد 23 أغنية..ويعبر عن حياتي بعد فقدان والدتي    حفيدة الشيخ محمد رفعت: جدى كان شخص زاهد يميل للبسطاء ومحب للقرآن الكريم    الجيش الأوكراني: تصدينا خلال ال24 ساعة الماضية لهجمات روسية بمسيرات وصواريخ    اقتحام مستشفى حُميّات أسوان بسلاح أبيض يكشف انهيار المنظومة الصحية في زمن السيسي    الهيئة العامة للرعاية الصحية تُقرر فتح باب التقدم للقيد بسجل الموردين والمقاولين والاستشاريين    «دمياط للصحة النفسية» تطلق مرحلة تطوير استثنائية    افتتاح وحدة عناية مركزة متطورة بمستشفى دمياط العام    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 9- 5- 2025 والقنوات الناقلة    أسعار الدولار أمام الجنيه المصري.. اليوم الجمعة 9 مايو 2025    أحمد داش: الجيل الجديد بياخد فرص حقيقية.. وده تطور طبيعي في الفن    التنمر والتحرش والازدراء لغة العصر الحديث    زعيم كوريا الشمالية يشرف على تجارب لأنظمة صواريخ باليستية قصيرة المدى    أسرة «بوابة أخبار اليوم» تقدم العزاء في وفاة زوج الزميلة شيرين الكردي    في أجواء من الفرح والسعادة.. مستقبل وطن يحتفي بالأيتام في نجع حمادي    الهباش ينفي ما نشرته «صفحات صفراء» عن خلافات فلسطينية مع الأزهر الشريف    طريقة عمل الآيس كوفي، الاحترافي وبأقل التكاليف    رئيس الطائفة الإنجيلية مهنئا بابا الفاتيكان: نشكر الله على استمرار الكنيسة في أداء دورها العظيم    سالم: تأجيل قرار لجنة الاستئناف بالفصل في أزمة القمة غير مُبرر    تفاصيل لقاء الفنان العالمي مينا مسعود ورئيس مدينة الإنتاج الإعلامي    «ملحقش يتفرج عليه».. ريهام عبدالغفور تكشف عن آخر أعمال والدها الراحل    غزو القاهرة بالشعر.. الوثائقية تعرض رحلة أحمد عبد المعطي حجازي من الريف إلى العاصمة    الأهلي يتفق مع جوميز مقابل 150 ألف دولار.. صحيفة سعودية تكشف    الجثمان مفقود.. غرق شاب في ترعة بالإسكندرية    في المقابر وصوروها.. ضبط 3 طلاب بالإعدادية هتكوا عرض زميلتهم بالقليوبية    طلب مدرب ساوثهامبتون قبل نهاية الموسم الإنجليزي    وسائل إعلام إسرائيلية: ترامب يقترب من إعلان "صفقة شاملة" لإنهاء الحرب في غزة    «إسكان النواب»: المستأجر سيتعرض لزيادة كبيرة في الإيجار حال اللجوء للمحاكم    حكم إخفاء الذهب عن الزوج والكذب؟ أمين الفتوى يوضح    عيسى إسكندر يمثل مصر في مؤتمر عالمي بروما لتعزيز التقارب بين الثقافات    محافظة الجيزة: غلق جزئى بكوبري 26 يوليو    ب3 مواقف من القرآن.. خالد الجندي يكشف كيف يتحول البلاء إلى نعمة عظيمة تدخل الجنة    علي جمعة: السيرة النبوية تطبيق عملي معصوم للقرآن    "10 دقائق من الصمت الواعي".. نصائح عمرو الورداني لاستعادة الاتزان الروحي والتخلص من العصبية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وجوه إريتريا الأربعة

قبل أن أشد الرحال إلي اريتريا لإجراء حوار مع رئيسها أسياسي افورقي‏,‏ تزاحمت في رأسي أسئلة عديدة عن هذا البلد القابع في القرن الأفريقي‏,‏ والذي لانسمع عنه سوي اقل القليل وفي حدود ضيقة لاتعطينا صورة جلية واضحة عما يدور ويحدث فيه‏.‏
فغالبية الأنباء المتواترة عن أفريقيا متصلة بثلاثة أشياء هي‏,‏ خوض فريقنا القومي مباريات كرة القدم مع احدي دوله في اطار تصفيات بطولات دولية أو إقليمية‏,‏ واندلاع صراعات ونزاعات مسلحة‏,‏ مثل الحادث في الصومال‏,‏ وتفشي الأوبئة والأمراض والمجاعات‏,‏ نتيجة الكوارث الطبيعية والحروب وفشل أنظمتها في إدارة شئون البلاد والعباد‏.‏ وخلافا لذلك لن تعثر علي أخبار تبعث علي التفاؤل والأمل في القارة السمراء الزاخرة والغنية بثروات أكثر من أن تحصي‏,‏ لكنها غير مستغلة الاستغلال الجيد من قبل دولها أو تحتكرها شركات أمريكية وبريطانية وصينية وهندية وتمتص رحيق خيرها لدفع عجلة التنمية الاقتصادية فيها‏.‏
‏,‏ بينما لاتعود بالنفع والفائدة علي الأفارقة‏,‏ لهذا سيطرت علي الشكوك والمخاوف طوال الرحلة التي لاتزيد مدتها علي ساعتين ونصف الساعة إلي أن هبطت طائرة مصر للطيران‏,‏ التي تسير خمس رحلات أسبوعيا للعاصمة الاريترية أسمرة‏,‏ حيث وجدت نفسي وسط مطار متناهي الصغر‏,‏ وكان في انتظاري عند سلم الطائرة عم ادم محمد‏,‏ الموظف في وزارة الإعلام الاريترية المسئول عن مرافقتي طوال سبعة أيام أمضيتها في أسمرة وخارجها‏.‏
عم ادم هذا كان في غاية اللطف والأدب‏,‏ وكشف لي عن الوجوه الأربعة لاريتريا‏,‏ وبطاقة تعارف ادم تقول‏:‏ انه تجاوز الخمسين من العمر‏,‏ وأب لأربعة أبناء‏,‏ ويتحدث العربية بطلاقة‏,‏ لأنها مع اللغة التيجرية تمثلان اللغتين الرسميتين للبلاد المقسم شعبها مابين‏50%‏ مسلمين و‏50%‏ مسيحيين يعيشان جنبا إلي جنب بدون مشكلات فالحديث عن المعتقدات الدينية مكانها الجامع والكنيسة وخارجهما لاتجد سوي الوئام والتألف بين الاريتريين البالغ تعدادهم قرابة‏4‏ ملايين نسمة‏,‏ ويتوزع نحو مليون منهم في بقاع الأرض المختلفة‏,‏ ويحرصون علي الحفاظ علي روابط مع وطنهم ليس عبر إرسال تحولاتهم المالية فقط‏,‏ وإنما أيضا قضاء اجازاتهم السنوية فيها‏,‏ وبناء فيلات أنيقة تجمعهم بأفراد أسرهم‏,‏ خاصة وأن الاريتريين يفضلون العيش تحت سقف واحد‏,‏ كما تعود أهالينا في ريف مصر فيما مضي‏.‏
ومنذ بداية الرحلة حرصت علي سبر أغوار الوجه الانساني لأهل اريتريا‏,‏ ومن خلال المعايشة توصلت إلي أنهم يتصفون بسجايا وخصال مألوفة لنا‏,‏ مثل الطيبة ومساعدة الغير وعدم التدخل في شئون الآخرين فقد لاحظت لدي سيري في شوارع وطرقات أسمرة أن أحدا من المارة لا ينظر إلي‏,‏ فالكل مشغول بحاله‏,‏ ويبدو أن حقبة الاستعمار الايطالي عودتهم علي وجود الأجانب وسطهم‏.‏ كذلك فان البساطة سمة غالبة في التعاملات‏,‏ حتي مع كبار المسئولين‏,‏ فحينما زرت مبني وزارة الإعلام الكائن فوق ربوة تطل علي العاصمة‏,‏ أشار مرافقي عقب انتهاء الجولة إلي كافتيريا متواضعة مخصصة للعاملين في الوزارة‏,‏ وسألني هل تري الشخص الجالس هناك يحتسي الشاي؟ رددت عليه نعم أراه ماذا عنه؟ اجابني انه وزير الإعلام‏,‏ وعندما أبديت دهشتي‏,‏ قال‏:‏ إنهم اعتادوا في تعاملاتهم اليومية عدم التكلف والتصنع‏,‏ وان الجميع يقفون علي خط واحد مع عدم الانتقاص من قدر وشأن الشخص أيا كان موقعه ومنصبه‏.‏
الأغرب أن الاريتريين احرص مايكونون علي الجانب الجمالي‏,‏ فالشوارع نظيفة ولاتوجد بها قمامة‏,‏ ولاتقع عينك علي شخص يلقي ورقة في الشارع‏,‏ وعندما سألت ادم عن السر وراء النظافة ضحك وقال‏:‏ إن معظم عمال النظافة من النساء وأنهن يتصفن بالأمانة أكثر في أداء أعمالهن‏,‏ ولذا فانهن ينظفن الشوارع بضمير وذمة‏.‏ واسترعي انتباهي أنه لا توجد فيلا بدون حديقة‏,‏ واللون الأخضر شائع وسط المدينة وفي أطرافها‏,‏ فقد تجولت في حي سكني في ضواحي العاصمة يقيم فيه أبناء الطبقة المتوسطة وهو عبارة عن عمارات تعاونية مثل المشيدة بواسطة الروس في مصر في ستينيات القرن الماضي‏,‏ لكن الفارق الجوهري أنها موضع اهتمام ورعاية‏,‏ حيث تدهن الواجهات باستمرار وحيثما نظرت لا تري سوي الخضرة الجميلة المنسقة‏.‏
وما زاد من استغرابي أن الدولة تراقب عن كثب عمليات البناء للتأكد من مطابقتها للمواصفات المحددة بمعرفتها وإلا يحدث غش يقود لتهدم المبني علي رؤوس من فيه بعد فترة قصيرة‏,‏ وبما أن الطراز المعماري الايطالي البديع هو الغالب فقد حافظت السلطات المحلية عليه واشترطت إلا يمس وعند احتياجها لترميم وإصلاح يتعين أولا الحصول علي موافقة رسمية لضمان ألا يتغير شيء فيه‏.‏ وبالنسبة للعشوائيات فان مصيرها الإزالة لتطويرها للخروج من قبو العشوائية‏,‏ ومن ثم لا داعي للاندهاش لدي سيرك في شارع الاستقلال وهو الشارع الرئيسي في أسمرة‏,‏ وبدت دور سينما ومقاه شيدت في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين وكأنها بنيت بالأمس القريب من فرط المحافظة عليها وصيانتها بدون انقطاع‏.‏
وفي هذا الشارع الذي تتوزع علي جانبيه المحلات والمطاعم تستمتع برؤية أشجار النخيل الاستوائية‏,‏ والكاتدرائية الكاثوليكية‏,‏ والكنيسة الأرثوذكسية‏,‏ وبالقرب منهما يقع المسجد الرئيسي في المدينة وهو مسجد الخلفاء الراشدين وهو مثال رائع للعمارة الإسلامية المطعمة بطراز محلي وايطالي وبني قبل‏100‏ عام‏.‏ هذا التجاور يكشف لنا رغبة أكيدة في التعايش بين كل الفئات والطوائف‏,‏ فالدين لله والوطن للجميع‏,‏ ولا يوجد ما يستلزم إقامة محاكم التفتيش الديني والتنقيب في ضمائر الناس‏,‏ فعلاقة الإنسان بربه مسألة خاصة جدا ليس من حقي ولا حقك الحكم عليها‏.‏
الوجه الإنساني لاريتريا يتناغم معه بشكل كبير الوجه الثاني لها ممثلا في بهاء وسحر الطبيعة فيها‏,‏ فأسمرة علي ارتفاع‏2500‏ متر من سطح البحر‏,‏ وجوها منعش وصحي‏,‏ خصوصا وان التلوث يكاد يكون معدوما‏,‏ نظرا لعدم وجود عوادم سيارات النقل والأتوبيسات العامة والمصانع والزبالة وخلافه‏,‏ ومما يشجع ويساعد علي المحافظة علي نقاء الطبيعة صغر عدد سكان العاصمة‏400‏ ألف نسمة والعيب الوحيد لمن يقيم لمدة طويلة فيها قلة الأوكسجين‏,‏ ويتم التغلب علي هذه المشكلة بالذهاب إلي مدينة مصوع المطلة علي البحر الأحمر وتشكل المنفذ البحري الوحيد لاريتريا‏,‏ والمنطقة المقابلة لها غنية بالأسماك‏,‏ لا سيما الجمبري ونستورد جزءا منه لرخص سعره مقارنة بالمستورد من الدول الأوروبية والآسيوية‏.‏
وكان من حسن حظي قيامي بنزهة استدعت ترك أسمرة لزيارة منتجع شمال بحري ويعني شمال البحر باللغة التيجرية‏,‏ نقطة البداية كانت من الفندق ومنه لضاحية قادت سيارة الدفع الرباعي التي كنا نستقلها لمنطقة ريفية علي التلال المحيطة بالعاصمة‏,‏ وكان يعترض طريقنا من وقت لآخر قطعان الماشية التي ترعي بحرية علي جانبي الطريق‏.‏ وبالمناسبة فإن أسعار لحوم الماشية والماعز والخراف زهيدة‏,‏ لأنها تعيش وسط الطبيعة الغناء ولا تكلف تربيتها الكثير‏,‏ واقترح أن نتدارس استيراد بعضها‏,‏ وليت رجال الأعمال في مصر يفكرون في هذا الخيار‏,‏ وأن يضعوا في اعتبارهم أنه يمكن شحنها بسهولة من ميناء مصوع‏.‏
وفجأة بدأنا رحلة رعب حقيقية‏,‏ عندما هبطنا من قمة عالية باتجاه البحر‏,‏ فالطريق كان ضيقا‏,‏ فالجبل علي جنب والهاوية علي الجنب الآخر‏,‏ وفي المنحنيات نجونا من الاصطدام بسيارة قادمة في الاتجاه العكسي‏,‏ بسبب السرعة الزائدة عن الحد‏.‏ وتعطي الرحلة فرصة للتعرف علي الحياة الطبيعية‏,‏ حيث تكثر في الغابات أسراب الطيور بأنواعها المختلفة والقرود التي كانت تعبر الطريق بسرعة مما تطلب توقفنا خشية قتل بعضها‏.‏ وأخبرني مرافقي إن القرود تنتقم من أصحاب السيارات اذا صدمت أحدها بقذفها بالحجارة والصخور الصغيرة‏,‏ وخلال الرحلة ما بين أسمرة ومصوع والممتدة لمسافة‏142‏ كم تعايش الأحوال المناخية الثلاثة في ارتيريا ما بين المعتدل والبارد والجاف‏,‏ وأبلغني ادم بأن الطريق شيد بالجهود الذاتية‏.‏
بعدها بيوم اتجهت لمدينة كرن الواقعة علي بعد‏80‏ كم من أسمرة‏,‏ ونحو‏5‏ ساعات بالسيارة من الحدود مع السودان‏,‏ وطريقها وعر لأنه يتحتم عليك الهبوط من أعلي لأسفل في طرق جبلية صعبة‏.‏ وطوال الطريق رأيت العديد من القري المتناثرة‏,‏ وأغلب بيوتها أكواخ صممت علي شكل دائرة يعلوها سقف من القش‏,‏ وعماد حياة أهلها الزراعة‏,‏ لا سيما الفاكهة‏,‏ بالاضافة لرعي الأغنام والماشية التي تصول وتجول وسط الطرق‏.‏ في كرن شعرت بأنني في السودان أو وسط الجالية السودانية المتركزة في شارع القصر العيني وسط القاهرة‏.‏
فاللبس للرجل والمرأة في كرن يماثل الجلباب السوداني‏,‏ والشريحة العظمي من سكان المدينة 400‏ ألف شخص ينتمون للطرق الصوفية الممتدة جذورها داخل السودان‏,‏ ويشي المشهد العام للمدينة بأن سكانها بسطاء لأبعد حد يمكنك تخيله‏.‏ وفي السوق رأيت كثيرا من البهارات والطعام ومشغولات الفضة والذهب وقليلا من المنتجات الصناعية‏,‏ وبدا لي أن الحياة هنا تعتمد علي المقايضة في جزء كبير منها‏.‏ ومررنا علي مقبرة الجنود الايطاليين الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية‏,‏ عندما تحصنوا في كرن للتصدي لهجوم القوات البريطانية القادمة من الاراضي السودانية‏,‏ والمكان معتني به وتحيط به الزهور والأشجار الباسقة من كل الجوانب‏.‏
مرت لحظات قبل دخولنا مدق وعر ووجدت أدم يسألني وإمارات التعجب علي وجهه ألا تريد معرفة إلي أين نذهب؟ ثم أجاب سريعا أننا ذاهبون لمريم العذراء‏,‏ شحذت كل حواسي مريم العذراء‏,‏ وتوقفنا أمام بوابة يوجد خلفها ممر طويل علي طرفيه أشجار آية في الجمال توفر ظلا كثيفا أسفلها يجلس فيه أناس من سكان المدينة يرغبون في استنشاق الهواء العليل‏,‏ وتناول الطعام والشراب‏.‏ وفي نهاية الممر شجرة سبحان الخالق بها تجويف داخله تمثال للعذراء مريم أحضره رهبان ايطاليون للتبرك به‏,‏ وبمرور الوقت تحول المكان لمزار للراغبات في الانجاب أو التي تواجه مشكلة ما‏,‏ ورأيت ثلاث سيدات في الداخل واحدة تمسك بقدم التمثال والأخري تقرأ الإنجيل والثالثة مستغرقة في نوم عميق‏,‏ بينما وقفت أخري خلف الشجرة وانهمكت في الدعاء‏.‏ وعرفت أن الشجرة أقيمت حولها كنيسة صغيرة يفد اليها المئات للصلاة يوم الأحد‏.‏
لدي خروجنا هرعت سيدة إلينا وقدمت لنا البسكويت أخذه مرافقي والسائق‏,‏ بينما اعتذرت‏,‏ وفي السيارة قال آدم إن الجالسين في المكان يقدمون طعامهم للمارة كنوع من مباركته وأن رفضه فيه إساءة لهم طبقا للعادات والتقاليد المتوارثة في كرن‏.‏ ثم قمنا بجولة سريعة في سوق المدينة قبل التوجه صوب أسمرة‏,‏ وفي طريق العودة تابعت عشرات الشباب والأطفال والشيوخ وهم يسيرون في طوابير طويلة‏,‏ وعرفت أنهم عائدون من دير مريم سيناء‏,‏ وهو دير شيد وسط الجبال ويتردد عليه المئات للصلاة يوم الأحد والمبيت فيه ومغادرته الاثنين‏.‏
ومرت دقائق قبل هطول الأمطار بغزارة لدرجة أنه كان من الصعب علينا رؤية الطريق أمامنا‏,‏ وظهرت السعادة الغامرة علي وجوه المرافقين‏,‏ فالمطر بالنسبة لهم بشارة خير ونماء لأن الأراضي الزراعية سترتوي ومعها الماشية‏,‏ والباقي سيتم تخزينه لاستغلاله للشرب وقتما تضن عليهم السماء بمطرها‏.‏
ونصل للوجه الثالث لارتيريا والخاص بالكفاح المسلح‏,‏ فاريتريا حديثة الاستقلال ولم يمر علي نيله سوي‏20‏ عاما‏,‏ بعد صراع مرير ومؤلم بين المقاومة الشعبية بقيادة اسياسي أفورقي وقوات الاحتلال الاثيوبي الذي جعل منه مقاطعة من المقاطعات الأثيوبية‏,‏ مثلما فعل الرئيس العراقي الراحل صدام حسين لدي غزوه الكويت وإعلانها المحافظة العراقية ال‏19.‏ وشبه مستحيل أن تجلس مع مسئول أو مواطن اريتري بدون إخبارك عن ذكرياته ومعاناته في القتال والاختباء في أعالي الجبال والعيش حياة بدائية بأقل إمكانات متاحة في المأكل والمشرب ووسائل الترفيه والعلاقة مع الجنس اللطيف‏.‏ ويتحدثون أيضا بمرارة وأسي عن أن افريقيا وقارات العالم الأخري عانت من احتلال الرجل الأبيض‏,‏ بينما كابدت ارتيريا ويلات احتلال الرجل الأسود بعدما تخلصت من الاحتلال الايطالي والبريطاني‏,‏ وبهذا تكون الوحيدة التي جربت الاحتلال الأسود علي يد الجارة أثيوبيا‏.‏
تجربة المقاومة تركت تأثيراتها وبصماتها الواضحة علي فكر القيادات والمواطنين‏,‏ فحتي لحظتنا تلك تعتبر اريتريا نفسها مازالت تعيش وسط متطلبات مرحلة الكفاح لإعادة بناء الوطن اعتمادا علي الذات بدون اللهث وراء المنظمات الدولية والاقليمية‏,‏ طلبا للعون والمساعدة‏,‏ وحجتها أن ذلك سيتبعها سلسلة لا تنتهي من الاملاءات والشروط المؤثرة علي حرية اتخاذ القرارات والمواقف عن نشوب الأزمات‏.‏ والمبدأ لا غبار عليه فالاعتماد علي الذات محمود ويستحق الثناء والإطراء‏,‏ لكن لحدود‏,‏ فاريتريا ليس باستطاعتها الانعزال عن المحيط الاقليمي والدولي وغلق أبوابها بالضبة والمفتاح أمام الآخرين‏,‏ فهي تحتاج إلي استثمارات أجنبية لإنعاش اقتصادها وتحسين المستوي المعيشي للاريتريين‏.‏
فقطاع السياحة علي سبيل المثال من القطاعات الواعدة لغني البلاد بمقومات يمكن أن تدر عليها ملايين الدولارات سنويا لو أحسن تنظيمها واستغلالها مع تحديث البنية التحتية لمواكبة التطورات التكنولوجية الحديثة‏,‏ خصوصا خدمات الانترنت‏,‏ ويبدو أن المسئولين في اريتريا مترددون في فتح هذا القطاع لأسباب غير مفهومة‏.‏ وعندما ناقشت الرئيس اسياسي أفورقي في هذا الموضوع رد بأن بلاده لا تنتظر أي شيء من أحد‏,‏ وأنها ليست جالسة علي قارعة الطريق انتظارا لهبات ومساعدات من هنا وهناك‏,‏ واشترط تكوين تجمع اقليمي للعمل تحت مظلته لجذب الاستثمار الأجنبي‏.‏
أما الوجه الرابع والأخير فيخص القيادة السياسية الاريترية‏,‏فالرئيس اسياسي أفورقي يتولي الرئاسة منذ إعلان الاستقلال مطلع التسعينيات من القرن المنصرم‏,‏ والرجل يتصف بسمات وصفات تميل للصلابة والشدة والحزم لكونه عاش الجزء الأكبر من حياته وسط الغابات والأحراش‏,‏ ومعروف عنه التمسك برأيه‏,‏ مهما كانت النصائح الموجهة إليه من الدائرة المحيطة‏.‏ كما أنه قاريء جيد ومتابع لأحدث الاصدارات والتقارير المعنية برسم السياسات الخارجية وتحركات الولايات المتحدة في إفريقيا والشرق الأوسط‏,‏ ويحتفظ بعلاقة ود وصداقة مع مصر وقيادتها السياسية ويحرص علي زيارة القاهرة للتباحث حول مجمل القضايا المرتبطة بعلاقات البلدين الثنائية والأحوال المضطربة في القرن الافريقي والبحر الأحمر‏.‏
والأمانة والصالح القومي يقضي بالالتفات لاريتريا أكثر لاغتنام فرص تدعيم التعاون الثنائي لمكافحة القرصنة‏,‏ وأمن البحر الأحمر أسمرة بموقعها الجغرافي الحيوي تتحكم في مدخل باب المندب والارهاب‏,‏ كذلك فإنها عضو مراقب في مبادرة حوض النيل‏.‏ وحبذا لو منحنا قدرا أزيد في دراستنا الأكاديمية بالمعاهد والمراكز المتخصصة في دراسة القارة السوداء كجزء من سعي لا يتوقف لتعضيد صلاتنا الآنية والمستقبلية بها‏,‏ وألا يكون ذلك مؤقتا استجابة للأزمة المثارة منذ شهور مع دول منابع النيل‏,‏ وأن يكون الحاكم والضابط لتحركنا في هذا الاتجاه البعد المستقبلي حفاظا علي أمن وطنا القومي‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.