ترامب: أمنح لقائي مع بوتين في ألاسكا تقييم 10 على 10    مواعيد مباريات اليوم والقنوات الناقلة| مواجهة الزمالك ضد المقاولون.. وظهور برشلونة ومانشستر سيتي    القبض على التيك توكر علاء الساحر لظهوره فى مقاطع فيديو يعتدى على أشخاص    مهرجان العلمين الجديدة.. مروان بابلو يختتم حفله بفقرة الألعاب النارية وسط تفاعل الجمهور    سعر اليورو اليوم السبت 16 أغسطس 2025.. كم سجل أمام الجنيه المصري في البنوك؟    أسعار الفراخ اليوم السبت 16-8-2025 بعد الارتفاع الجديد وبورصة الدواجن الرئيسية الآن    السيسي يوافق على ربط موازنة الهيئة الوطنية للإعلام لعام 2025-2026    عيار 21 الآن بالمصنعية.. سعر الذهب اليوم في مصر السبت 16-8-2025 بعد الهبوط الكبير    بعد حريق محطة سلوا، عودة الكهرباء إلى أكثر من نصف مساكن إدفو في أسوان (صور)    موعد إجازة المولد النبوي الشريف لعام 2025 في مصر    ترامب: تطلع أمريكي روسي لوقف حرب أوكرانيا.. واتفقت مع بوتين على معظم النقاط    المستشار الإعلامي للأونروا: مصر لا تتأخر في تقديم المساعدات إلى الفلسطينيين في غزة    ترامب بعد لقائه بترامب: أحرزنا تقدما إلا أننا لم نتمكن من التوصل لاتفاق نهائي    هل كتبت انتخابات الشيوخ نهاية الأحزاب ذات المرجعية الدينية؟ صبرة القاسمي يجيب    «امتلك 3 حراس».. تعليق ريبيرو بعد خطأ شوبير في مباراة فاركو    صلاح يقود ليفربول للفوز على بورنموث برباعية في افتتاح الدوري الإنجليزي    أول تعليق من مدرب فاركو بعد الخسارة أمام الأهلي    تنسيق الجامعات 2025، خطوات التقدم للالتحاق ببرامج الساعات المعتمدة بآداب القاهرة    «الجو هيقلب».. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم: أمطار ونشاط رياح    إخلاء سبيل صاحب فيديو المتحف المصري الكبير    عمر طاهر عن الأديب الراحل صنع الله إبراهيم: لقاءاتي معه كانت دروسا خصوصية    حلا شيحة تفاجئ جمهورها ب إطلالة محتشمة في أحدث ظهور.. ماذا قالت؟    حظك اليوم وتوقعات الأبراج    فريق "واما" يشعل حفل "رأس الحكمة" بحضور نجوم الفن ويحتفل بعيد ميلاد تامر حسني (صور)    اليوم، انطلاق تصفيات مسابقة "دولة التلاوة" ووزير الأوقاف يقرر بثها على 4 قنوات    أنت ميزان حرارة طفلك.. متى تصبح حرارة الرضيع حالة طارئة تستدعي التدخل الطبي الفوري؟    الصحة تخصص خطا ساخنا لمعرفة أماكن توفير تطعيم السعار    ترامب يغادر ألاسكا بعد قمته مع بوتين    "رقم مميز للأهلي".. 4 حقائق من اليوم الثاني للجولة الثانية بالدوري المصري    بوتين يدعو كييف والقادة الأوروبيين إلى عدم عرقلة "التقدم الناشئ"    حيل ذكية لتخفيف الغثيان في الشهور الأولى من الحمل    بالأسماء.. تفاصيل إصابة 10 أشخاص من أسرة واحدة باشتباه تسمم جنوب المنيا    محمد معيط يشارك في عزاء وزير التموين الأسبق علي المصيلحي    ريبييرو: الفوز على فاركو خطوة مهمة لمواصلة انتصارات الأهلي في الدوري    بوتين يفتتح المؤتمر الصحفي في قمة ألاسكا    «مرسال» يعلن إطلاق مبادرة الإستثمار الزراعي في كينيا    السيطرة على حريق بمحطة كهرباء الحصايا بأسوان    عبيدة تطرح فيديو كليب أحدث أغانيها «ضحكتك بالدنيا»    جريئة ومُبهجة.. بالصور أجمل إطلالات النجمات في المصيف    مصرع طفل غرقا في حمام سباحة ببني سويف    مفاجآت في قائمة الزمالك لمواجهة المقاولون العرب    صلاح يسجل..ليفربول يهزم بورنموث برباعية في افتتاحية الدوري الإنجليزي    ب«الجبنة القريش والبطاطس».. طريقة تحضير مخبوزات شهية وصحية (خطوة بخطوة)    القانون يحدد ضوابط العلاوة التشجيعية للموظفين.. إليك التفاصيل    تنسيق المرحلة الثالثة 2025 علمي علوم ورياضة.. كليات ومعاهد متاحة والحد الأدنى 2024    ليفربول يدين الهتافات العنصرية ضد مهاجم بورنموث    بعد تصديق الرئيس.. القانون يمد خدمة المعلمين المتقاعدين لمدة 3 سنوات    «لو بتكح كتير».. تحذير قد يكشف إصابتك بمرض رئوي خطير    بعد ساعات.. غلق كلي ب كوبري الجلاء في الاتجاهين لمدة 3 ساعات    قرار هام من التريبة والتعليم حول تظلمات الدفعة الثانية ل 30 ألف معلم    وكيل صحة المنوفية يوضح حقيقة سقوط أسانسير مستشفى بركة السبع    أخبار 24 ساعة.. انطلاق امتحانات الثانوية العامة "دور ثانى" غدا    تليفزيون اليوم السابع يستعرض أبرز ما يميز النسخة المطورة من تطبيق مصر قرآن كريم.. فيديو    وزير الأوقاف السابق: إذا سقطت مصر وقع الاستقرار.. وعلينا الدفاع عنها بأرواحنا (فيديو)    وزير الأوقاف يختتم زيارته لشمال سيناء بتكريم 23 شابا وفتاة من حفظة القرآن الكريم بقرية 6 أكتوبر بمركز رمانه (صور)    خطيب الأزهر يحذر من فرقة المسلمين: الشريعة أتت لتجعل المؤمنين أمة واحدة في مبادئها وعقيدتها وعباداتها    خطيب المسجد الحرام: الحر من آيات الله والاعتراض عليه اعتراض على قضاء الله وقدره    حكم من مات في يوم الجمعة أو ليلتها.. هل يعد من علامات حسن الخاتمة؟ الإفتاء تجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وجوه إريتريا الأربعة

قبل أن أشد الرحال إلي اريتريا لإجراء حوار مع رئيسها أسياسي افورقي‏,‏ تزاحمت في رأسي أسئلة عديدة عن هذا البلد القابع في القرن الأفريقي‏,‏ والذي لانسمع عنه سوي اقل القليل وفي حدود ضيقة لاتعطينا صورة جلية واضحة عما يدور ويحدث فيه‏.‏
فغالبية الأنباء المتواترة عن أفريقيا متصلة بثلاثة أشياء هي‏,‏ خوض فريقنا القومي مباريات كرة القدم مع احدي دوله في اطار تصفيات بطولات دولية أو إقليمية‏,‏ واندلاع صراعات ونزاعات مسلحة‏,‏ مثل الحادث في الصومال‏,‏ وتفشي الأوبئة والأمراض والمجاعات‏,‏ نتيجة الكوارث الطبيعية والحروب وفشل أنظمتها في إدارة شئون البلاد والعباد‏.‏ وخلافا لذلك لن تعثر علي أخبار تبعث علي التفاؤل والأمل في القارة السمراء الزاخرة والغنية بثروات أكثر من أن تحصي‏,‏ لكنها غير مستغلة الاستغلال الجيد من قبل دولها أو تحتكرها شركات أمريكية وبريطانية وصينية وهندية وتمتص رحيق خيرها لدفع عجلة التنمية الاقتصادية فيها‏.‏
‏,‏ بينما لاتعود بالنفع والفائدة علي الأفارقة‏,‏ لهذا سيطرت علي الشكوك والمخاوف طوال الرحلة التي لاتزيد مدتها علي ساعتين ونصف الساعة إلي أن هبطت طائرة مصر للطيران‏,‏ التي تسير خمس رحلات أسبوعيا للعاصمة الاريترية أسمرة‏,‏ حيث وجدت نفسي وسط مطار متناهي الصغر‏,‏ وكان في انتظاري عند سلم الطائرة عم ادم محمد‏,‏ الموظف في وزارة الإعلام الاريترية المسئول عن مرافقتي طوال سبعة أيام أمضيتها في أسمرة وخارجها‏.‏
عم ادم هذا كان في غاية اللطف والأدب‏,‏ وكشف لي عن الوجوه الأربعة لاريتريا‏,‏ وبطاقة تعارف ادم تقول‏:‏ انه تجاوز الخمسين من العمر‏,‏ وأب لأربعة أبناء‏,‏ ويتحدث العربية بطلاقة‏,‏ لأنها مع اللغة التيجرية تمثلان اللغتين الرسميتين للبلاد المقسم شعبها مابين‏50%‏ مسلمين و‏50%‏ مسيحيين يعيشان جنبا إلي جنب بدون مشكلات فالحديث عن المعتقدات الدينية مكانها الجامع والكنيسة وخارجهما لاتجد سوي الوئام والتألف بين الاريتريين البالغ تعدادهم قرابة‏4‏ ملايين نسمة‏,‏ ويتوزع نحو مليون منهم في بقاع الأرض المختلفة‏,‏ ويحرصون علي الحفاظ علي روابط مع وطنهم ليس عبر إرسال تحولاتهم المالية فقط‏,‏ وإنما أيضا قضاء اجازاتهم السنوية فيها‏,‏ وبناء فيلات أنيقة تجمعهم بأفراد أسرهم‏,‏ خاصة وأن الاريتريين يفضلون العيش تحت سقف واحد‏,‏ كما تعود أهالينا في ريف مصر فيما مضي‏.‏
ومنذ بداية الرحلة حرصت علي سبر أغوار الوجه الانساني لأهل اريتريا‏,‏ ومن خلال المعايشة توصلت إلي أنهم يتصفون بسجايا وخصال مألوفة لنا‏,‏ مثل الطيبة ومساعدة الغير وعدم التدخل في شئون الآخرين فقد لاحظت لدي سيري في شوارع وطرقات أسمرة أن أحدا من المارة لا ينظر إلي‏,‏ فالكل مشغول بحاله‏,‏ ويبدو أن حقبة الاستعمار الايطالي عودتهم علي وجود الأجانب وسطهم‏.‏ كذلك فان البساطة سمة غالبة في التعاملات‏,‏ حتي مع كبار المسئولين‏,‏ فحينما زرت مبني وزارة الإعلام الكائن فوق ربوة تطل علي العاصمة‏,‏ أشار مرافقي عقب انتهاء الجولة إلي كافتيريا متواضعة مخصصة للعاملين في الوزارة‏,‏ وسألني هل تري الشخص الجالس هناك يحتسي الشاي؟ رددت عليه نعم أراه ماذا عنه؟ اجابني انه وزير الإعلام‏,‏ وعندما أبديت دهشتي‏,‏ قال‏:‏ إنهم اعتادوا في تعاملاتهم اليومية عدم التكلف والتصنع‏,‏ وان الجميع يقفون علي خط واحد مع عدم الانتقاص من قدر وشأن الشخص أيا كان موقعه ومنصبه‏.‏
الأغرب أن الاريتريين احرص مايكونون علي الجانب الجمالي‏,‏ فالشوارع نظيفة ولاتوجد بها قمامة‏,‏ ولاتقع عينك علي شخص يلقي ورقة في الشارع‏,‏ وعندما سألت ادم عن السر وراء النظافة ضحك وقال‏:‏ إن معظم عمال النظافة من النساء وأنهن يتصفن بالأمانة أكثر في أداء أعمالهن‏,‏ ولذا فانهن ينظفن الشوارع بضمير وذمة‏.‏ واسترعي انتباهي أنه لا توجد فيلا بدون حديقة‏,‏ واللون الأخضر شائع وسط المدينة وفي أطرافها‏,‏ فقد تجولت في حي سكني في ضواحي العاصمة يقيم فيه أبناء الطبقة المتوسطة وهو عبارة عن عمارات تعاونية مثل المشيدة بواسطة الروس في مصر في ستينيات القرن الماضي‏,‏ لكن الفارق الجوهري أنها موضع اهتمام ورعاية‏,‏ حيث تدهن الواجهات باستمرار وحيثما نظرت لا تري سوي الخضرة الجميلة المنسقة‏.‏
وما زاد من استغرابي أن الدولة تراقب عن كثب عمليات البناء للتأكد من مطابقتها للمواصفات المحددة بمعرفتها وإلا يحدث غش يقود لتهدم المبني علي رؤوس من فيه بعد فترة قصيرة‏,‏ وبما أن الطراز المعماري الايطالي البديع هو الغالب فقد حافظت السلطات المحلية عليه واشترطت إلا يمس وعند احتياجها لترميم وإصلاح يتعين أولا الحصول علي موافقة رسمية لضمان ألا يتغير شيء فيه‏.‏ وبالنسبة للعشوائيات فان مصيرها الإزالة لتطويرها للخروج من قبو العشوائية‏,‏ ومن ثم لا داعي للاندهاش لدي سيرك في شارع الاستقلال وهو الشارع الرئيسي في أسمرة‏,‏ وبدت دور سينما ومقاه شيدت في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين وكأنها بنيت بالأمس القريب من فرط المحافظة عليها وصيانتها بدون انقطاع‏.‏
وفي هذا الشارع الذي تتوزع علي جانبيه المحلات والمطاعم تستمتع برؤية أشجار النخيل الاستوائية‏,‏ والكاتدرائية الكاثوليكية‏,‏ والكنيسة الأرثوذكسية‏,‏ وبالقرب منهما يقع المسجد الرئيسي في المدينة وهو مسجد الخلفاء الراشدين وهو مثال رائع للعمارة الإسلامية المطعمة بطراز محلي وايطالي وبني قبل‏100‏ عام‏.‏ هذا التجاور يكشف لنا رغبة أكيدة في التعايش بين كل الفئات والطوائف‏,‏ فالدين لله والوطن للجميع‏,‏ ولا يوجد ما يستلزم إقامة محاكم التفتيش الديني والتنقيب في ضمائر الناس‏,‏ فعلاقة الإنسان بربه مسألة خاصة جدا ليس من حقي ولا حقك الحكم عليها‏.‏
الوجه الإنساني لاريتريا يتناغم معه بشكل كبير الوجه الثاني لها ممثلا في بهاء وسحر الطبيعة فيها‏,‏ فأسمرة علي ارتفاع‏2500‏ متر من سطح البحر‏,‏ وجوها منعش وصحي‏,‏ خصوصا وان التلوث يكاد يكون معدوما‏,‏ نظرا لعدم وجود عوادم سيارات النقل والأتوبيسات العامة والمصانع والزبالة وخلافه‏,‏ ومما يشجع ويساعد علي المحافظة علي نقاء الطبيعة صغر عدد سكان العاصمة‏400‏ ألف نسمة والعيب الوحيد لمن يقيم لمدة طويلة فيها قلة الأوكسجين‏,‏ ويتم التغلب علي هذه المشكلة بالذهاب إلي مدينة مصوع المطلة علي البحر الأحمر وتشكل المنفذ البحري الوحيد لاريتريا‏,‏ والمنطقة المقابلة لها غنية بالأسماك‏,‏ لا سيما الجمبري ونستورد جزءا منه لرخص سعره مقارنة بالمستورد من الدول الأوروبية والآسيوية‏.‏
وكان من حسن حظي قيامي بنزهة استدعت ترك أسمرة لزيارة منتجع شمال بحري ويعني شمال البحر باللغة التيجرية‏,‏ نقطة البداية كانت من الفندق ومنه لضاحية قادت سيارة الدفع الرباعي التي كنا نستقلها لمنطقة ريفية علي التلال المحيطة بالعاصمة‏,‏ وكان يعترض طريقنا من وقت لآخر قطعان الماشية التي ترعي بحرية علي جانبي الطريق‏.‏ وبالمناسبة فإن أسعار لحوم الماشية والماعز والخراف زهيدة‏,‏ لأنها تعيش وسط الطبيعة الغناء ولا تكلف تربيتها الكثير‏,‏ واقترح أن نتدارس استيراد بعضها‏,‏ وليت رجال الأعمال في مصر يفكرون في هذا الخيار‏,‏ وأن يضعوا في اعتبارهم أنه يمكن شحنها بسهولة من ميناء مصوع‏.‏
وفجأة بدأنا رحلة رعب حقيقية‏,‏ عندما هبطنا من قمة عالية باتجاه البحر‏,‏ فالطريق كان ضيقا‏,‏ فالجبل علي جنب والهاوية علي الجنب الآخر‏,‏ وفي المنحنيات نجونا من الاصطدام بسيارة قادمة في الاتجاه العكسي‏,‏ بسبب السرعة الزائدة عن الحد‏.‏ وتعطي الرحلة فرصة للتعرف علي الحياة الطبيعية‏,‏ حيث تكثر في الغابات أسراب الطيور بأنواعها المختلفة والقرود التي كانت تعبر الطريق بسرعة مما تطلب توقفنا خشية قتل بعضها‏.‏ وأخبرني مرافقي إن القرود تنتقم من أصحاب السيارات اذا صدمت أحدها بقذفها بالحجارة والصخور الصغيرة‏,‏ وخلال الرحلة ما بين أسمرة ومصوع والممتدة لمسافة‏142‏ كم تعايش الأحوال المناخية الثلاثة في ارتيريا ما بين المعتدل والبارد والجاف‏,‏ وأبلغني ادم بأن الطريق شيد بالجهود الذاتية‏.‏
بعدها بيوم اتجهت لمدينة كرن الواقعة علي بعد‏80‏ كم من أسمرة‏,‏ ونحو‏5‏ ساعات بالسيارة من الحدود مع السودان‏,‏ وطريقها وعر لأنه يتحتم عليك الهبوط من أعلي لأسفل في طرق جبلية صعبة‏.‏ وطوال الطريق رأيت العديد من القري المتناثرة‏,‏ وأغلب بيوتها أكواخ صممت علي شكل دائرة يعلوها سقف من القش‏,‏ وعماد حياة أهلها الزراعة‏,‏ لا سيما الفاكهة‏,‏ بالاضافة لرعي الأغنام والماشية التي تصول وتجول وسط الطرق‏.‏ في كرن شعرت بأنني في السودان أو وسط الجالية السودانية المتركزة في شارع القصر العيني وسط القاهرة‏.‏
فاللبس للرجل والمرأة في كرن يماثل الجلباب السوداني‏,‏ والشريحة العظمي من سكان المدينة 400‏ ألف شخص ينتمون للطرق الصوفية الممتدة جذورها داخل السودان‏,‏ ويشي المشهد العام للمدينة بأن سكانها بسطاء لأبعد حد يمكنك تخيله‏.‏ وفي السوق رأيت كثيرا من البهارات والطعام ومشغولات الفضة والذهب وقليلا من المنتجات الصناعية‏,‏ وبدا لي أن الحياة هنا تعتمد علي المقايضة في جزء كبير منها‏.‏ ومررنا علي مقبرة الجنود الايطاليين الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية‏,‏ عندما تحصنوا في كرن للتصدي لهجوم القوات البريطانية القادمة من الاراضي السودانية‏,‏ والمكان معتني به وتحيط به الزهور والأشجار الباسقة من كل الجوانب‏.‏
مرت لحظات قبل دخولنا مدق وعر ووجدت أدم يسألني وإمارات التعجب علي وجهه ألا تريد معرفة إلي أين نذهب؟ ثم أجاب سريعا أننا ذاهبون لمريم العذراء‏,‏ شحذت كل حواسي مريم العذراء‏,‏ وتوقفنا أمام بوابة يوجد خلفها ممر طويل علي طرفيه أشجار آية في الجمال توفر ظلا كثيفا أسفلها يجلس فيه أناس من سكان المدينة يرغبون في استنشاق الهواء العليل‏,‏ وتناول الطعام والشراب‏.‏ وفي نهاية الممر شجرة سبحان الخالق بها تجويف داخله تمثال للعذراء مريم أحضره رهبان ايطاليون للتبرك به‏,‏ وبمرور الوقت تحول المكان لمزار للراغبات في الانجاب أو التي تواجه مشكلة ما‏,‏ ورأيت ثلاث سيدات في الداخل واحدة تمسك بقدم التمثال والأخري تقرأ الإنجيل والثالثة مستغرقة في نوم عميق‏,‏ بينما وقفت أخري خلف الشجرة وانهمكت في الدعاء‏.‏ وعرفت أن الشجرة أقيمت حولها كنيسة صغيرة يفد اليها المئات للصلاة يوم الأحد‏.‏
لدي خروجنا هرعت سيدة إلينا وقدمت لنا البسكويت أخذه مرافقي والسائق‏,‏ بينما اعتذرت‏,‏ وفي السيارة قال آدم إن الجالسين في المكان يقدمون طعامهم للمارة كنوع من مباركته وأن رفضه فيه إساءة لهم طبقا للعادات والتقاليد المتوارثة في كرن‏.‏ ثم قمنا بجولة سريعة في سوق المدينة قبل التوجه صوب أسمرة‏,‏ وفي طريق العودة تابعت عشرات الشباب والأطفال والشيوخ وهم يسيرون في طوابير طويلة‏,‏ وعرفت أنهم عائدون من دير مريم سيناء‏,‏ وهو دير شيد وسط الجبال ويتردد عليه المئات للصلاة يوم الأحد والمبيت فيه ومغادرته الاثنين‏.‏
ومرت دقائق قبل هطول الأمطار بغزارة لدرجة أنه كان من الصعب علينا رؤية الطريق أمامنا‏,‏ وظهرت السعادة الغامرة علي وجوه المرافقين‏,‏ فالمطر بالنسبة لهم بشارة خير ونماء لأن الأراضي الزراعية سترتوي ومعها الماشية‏,‏ والباقي سيتم تخزينه لاستغلاله للشرب وقتما تضن عليهم السماء بمطرها‏.‏
ونصل للوجه الثالث لارتيريا والخاص بالكفاح المسلح‏,‏ فاريتريا حديثة الاستقلال ولم يمر علي نيله سوي‏20‏ عاما‏,‏ بعد صراع مرير ومؤلم بين المقاومة الشعبية بقيادة اسياسي أفورقي وقوات الاحتلال الاثيوبي الذي جعل منه مقاطعة من المقاطعات الأثيوبية‏,‏ مثلما فعل الرئيس العراقي الراحل صدام حسين لدي غزوه الكويت وإعلانها المحافظة العراقية ال‏19.‏ وشبه مستحيل أن تجلس مع مسئول أو مواطن اريتري بدون إخبارك عن ذكرياته ومعاناته في القتال والاختباء في أعالي الجبال والعيش حياة بدائية بأقل إمكانات متاحة في المأكل والمشرب ووسائل الترفيه والعلاقة مع الجنس اللطيف‏.‏ ويتحدثون أيضا بمرارة وأسي عن أن افريقيا وقارات العالم الأخري عانت من احتلال الرجل الأبيض‏,‏ بينما كابدت ارتيريا ويلات احتلال الرجل الأسود بعدما تخلصت من الاحتلال الايطالي والبريطاني‏,‏ وبهذا تكون الوحيدة التي جربت الاحتلال الأسود علي يد الجارة أثيوبيا‏.‏
تجربة المقاومة تركت تأثيراتها وبصماتها الواضحة علي فكر القيادات والمواطنين‏,‏ فحتي لحظتنا تلك تعتبر اريتريا نفسها مازالت تعيش وسط متطلبات مرحلة الكفاح لإعادة بناء الوطن اعتمادا علي الذات بدون اللهث وراء المنظمات الدولية والاقليمية‏,‏ طلبا للعون والمساعدة‏,‏ وحجتها أن ذلك سيتبعها سلسلة لا تنتهي من الاملاءات والشروط المؤثرة علي حرية اتخاذ القرارات والمواقف عن نشوب الأزمات‏.‏ والمبدأ لا غبار عليه فالاعتماد علي الذات محمود ويستحق الثناء والإطراء‏,‏ لكن لحدود‏,‏ فاريتريا ليس باستطاعتها الانعزال عن المحيط الاقليمي والدولي وغلق أبوابها بالضبة والمفتاح أمام الآخرين‏,‏ فهي تحتاج إلي استثمارات أجنبية لإنعاش اقتصادها وتحسين المستوي المعيشي للاريتريين‏.‏
فقطاع السياحة علي سبيل المثال من القطاعات الواعدة لغني البلاد بمقومات يمكن أن تدر عليها ملايين الدولارات سنويا لو أحسن تنظيمها واستغلالها مع تحديث البنية التحتية لمواكبة التطورات التكنولوجية الحديثة‏,‏ خصوصا خدمات الانترنت‏,‏ ويبدو أن المسئولين في اريتريا مترددون في فتح هذا القطاع لأسباب غير مفهومة‏.‏ وعندما ناقشت الرئيس اسياسي أفورقي في هذا الموضوع رد بأن بلاده لا تنتظر أي شيء من أحد‏,‏ وأنها ليست جالسة علي قارعة الطريق انتظارا لهبات ومساعدات من هنا وهناك‏,‏ واشترط تكوين تجمع اقليمي للعمل تحت مظلته لجذب الاستثمار الأجنبي‏.‏
أما الوجه الرابع والأخير فيخص القيادة السياسية الاريترية‏,‏فالرئيس اسياسي أفورقي يتولي الرئاسة منذ إعلان الاستقلال مطلع التسعينيات من القرن المنصرم‏,‏ والرجل يتصف بسمات وصفات تميل للصلابة والشدة والحزم لكونه عاش الجزء الأكبر من حياته وسط الغابات والأحراش‏,‏ ومعروف عنه التمسك برأيه‏,‏ مهما كانت النصائح الموجهة إليه من الدائرة المحيطة‏.‏ كما أنه قاريء جيد ومتابع لأحدث الاصدارات والتقارير المعنية برسم السياسات الخارجية وتحركات الولايات المتحدة في إفريقيا والشرق الأوسط‏,‏ ويحتفظ بعلاقة ود وصداقة مع مصر وقيادتها السياسية ويحرص علي زيارة القاهرة للتباحث حول مجمل القضايا المرتبطة بعلاقات البلدين الثنائية والأحوال المضطربة في القرن الافريقي والبحر الأحمر‏.‏
والأمانة والصالح القومي يقضي بالالتفات لاريتريا أكثر لاغتنام فرص تدعيم التعاون الثنائي لمكافحة القرصنة‏,‏ وأمن البحر الأحمر أسمرة بموقعها الجغرافي الحيوي تتحكم في مدخل باب المندب والارهاب‏,‏ كذلك فإنها عضو مراقب في مبادرة حوض النيل‏.‏ وحبذا لو منحنا قدرا أزيد في دراستنا الأكاديمية بالمعاهد والمراكز المتخصصة في دراسة القارة السوداء كجزء من سعي لا يتوقف لتعضيد صلاتنا الآنية والمستقبلية بها‏,‏ وألا يكون ذلك مؤقتا استجابة للأزمة المثارة منذ شهور مع دول منابع النيل‏,‏ وأن يكون الحاكم والضابط لتحركنا في هذا الاتجاه البعد المستقبلي حفاظا علي أمن وطنا القومي‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.