استقرار سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم 24 مايو 2024    عاجل| جيش الاحتلال يكشف عدد ضحاياه في الحرب على غزة (رقم كبير)    الصين تتهم تايوان بدفع الجزيرة نحو الحرب    غارات إسرائيلية تستهدف عددا من المناطق جنوب لبنان    ندالا يبشر الأهلي قبل مواجهة الترجي في إياب نهائي دوري أبطال إفريقيا    أنشيلوتي يتحدث عن.. اعتزال كروس.. مشاركة مبابي في الأولمبياد.. وموقف تشواميني من نهائي الأبطال    محمد عادل: فرصة مصر قوية للتأهل لكأس العالم لكرة القدم للساق الواحدة    غدا.. 27 ألف و779 طالبا وطالبة يؤدون امتحانات الدبلومات الفنية ببني سويف    سياحة ومصايف الإسكندرية: نسب اشغال الشواطئ مرتفعة ورفع الرايا الحمراء في غرب    منتظرون بشغف: كل ما تريد معرفته عن موعد وقفة عيد الأضحى 2024    تعرف على موعد ومكان عزاء شقيق الفنان مدحت صالح    عائشة بن أحمد تكشف سبب هروبها من الزواج    صحة دمياط تنظم قافلة حياة كريمة في قرية أبو عدوي    تحرير 21 ألف مخالفة مرورية خلال 24 ساعة    مدير جمعية الإغاثة الطبية بغزة: لا توجد مستشفيات تعمل فى شمال القطاع    حصاد البرلمان | إصدار قانون إدارة وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية.. الأبرز    الاحتفال باليوم العالمي لارتفاع ضغط الدم بطب عين شمس    قائمة أسعار الأجهزة الكهربائية في مصر 2024 (تفاصيل)    وزير الري: إفريقيا قدمت رؤية مشتركة لتحقيق مستقبل آمن للمياه    بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من ميت سلسيل بالدقهلية    وزارة الداخلية تواصل فعاليات مبادرة "كلنا واحد.. معك في كل مكان" وتوجه قافلة إنسانية وطبية بجنوب سيناء    ضبط شخص بأسيوط لتزويره الشهادات الجامعية وترويجها عبر فيسبوك    الشرطة الإسبانية تعلن جنسيات ضحايا حادث انهيار مبنى في مايوركا    لمدة 4 ساعات.. قطع المياه عن منطقة هضبة الأهرام مساء اليوم    راشد: تصدر جنوب الجيزة والدقي وأوسيم ومديرية الطرق إنجاز المشروعات بنسبة 100%    هشام ماجد يكشف عن مفاجأة بشأن مسلسل "اللعبة"    الإفتاء: الترجي والحلف بالنبي وآل البيت والكعبة جائز شرعًا في هذه الحالة    «التنمية الصناعية»: طرح خدمات الهيئة «أونلاين» للمستثمرين على البوابة الإلكترونية    "طرد للاعب فيوتشر".. حكم دولي يحسم الجدل بشأن عدم احتساب ركلة جزاء للزمالك    تعشق البطيخ؟- احذر تناوله في هذا الوقت    نقيب المحامين الفلسطينيين: قرار محكمة العدل ملزم لكن الفيتو الأمريكي يمكنه عرقلة تنفيذه    السيدة زينب.. هل دفنت في مصر؟    في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا (4)    وزارة الثقافة تحتفي بأعمال حلمي بكر ومحمد رشدي بحفل ضخم (تفاصيل)    15 دقيقة لوسائل الإعلام بمران الأهلى اليوم باستاد القاهرة قبل نهائى أفريقيا    أبرزها التشكيك في الأديان.. «الأزهر العالمي للفلك» و«الثقافي القبطي» يناقشان مجموعة من القضايا    واشنطن تدرس تعيين مسئول أمريكى للإشراف على قوة فلسطينية فى غزة بعد الحرب    ظهرت الآن.. رابط بوابة التعليم الأساسي للحصول على نتيجة الفصل الدراسي الثاني 2024    4 أفلام تتنافس على جوائز الدورة 50 لمهرجان جمعية الفيلم    الإسلام الحضاري    الأكاديمية العسكرية المصرية تنظم زيارة لطلبة الكلية البحرية لمستشفى أهل مصر لعلاج الحروق    جوميز يخطر لاعبي الزمالك بهذا القرار بعد التعادل مع فيوتشر    وزير العمل يشهد تسليم الدفعة الثانية من «الرخص الدائمة» لمراكز التدريب    مجلس أمناء جامعة الإسكندرية يوجه بضرورة الاستخدام الأمثل لموازنة الجامعة    رئيس الأركان يتفقد أحد الأنشطة التدريبية بالقوات البحرية    الإسكان: تشغيل 50 كم من مشروع ازدواج طريق «سيوة / مطروح» بطول 300 كم    أخبار الأهلي : دفعة ثلاثية لكولر قبل مواجهة الترجي بالنهائي الأفريقي    سول تفرض عقوبات ضد 7 أفراد من كوريا الشمالية وسفينتين روسيتين    17 رسالة من «التربية والتعليم» لطمأنة الطلاب    بوتين يوقع قرارا يسمح بمصادرة الأصول الأمريكية    «الحج بين كمال الايمان وعظمة التيسير» موضوع خطبة الجمعة بمساجد شمال سيناء    الصحة العالمية: شركات التبغ تستهدف جيلا جديدا بهذه الحيل    حظك اليوم برج العقرب 24_5_2024 مهنيا وعاطفيا..تصل لمناصب عليا    مقتل مُدرس على يد زوج إحدى طالباته بالمنوفية    مدرب الزمالك السابق.. يكشف نقاط القوة والضعف لدى الأهلي والترجي التونسي قبل نهائي دوري أبطال إفريقيا    التموين تعلن التعاقد علي 20 ألف رأس ماشية    شخص يحلف بالله كذبًا للنجاة من مصيبة.. فما حكم الشرع؟    نقيب الصحفيين يكشف تفاصيل لقائه برئيس الوزراء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وجوه إريتريا الأربعة

قبل أن أشد الرحال إلي اريتريا لإجراء حوار مع رئيسها أسياسي افورقي‏,‏ تزاحمت في رأسي أسئلة عديدة عن هذا البلد القابع في القرن الأفريقي‏,‏ والذي لانسمع عنه سوي اقل القليل وفي حدود ضيقة لاتعطينا صورة جلية واضحة عما يدور ويحدث فيه‏.‏
فغالبية الأنباء المتواترة عن أفريقيا متصلة بثلاثة أشياء هي‏,‏ خوض فريقنا القومي مباريات كرة القدم مع احدي دوله في اطار تصفيات بطولات دولية أو إقليمية‏,‏ واندلاع صراعات ونزاعات مسلحة‏,‏ مثل الحادث في الصومال‏,‏ وتفشي الأوبئة والأمراض والمجاعات‏,‏ نتيجة الكوارث الطبيعية والحروب وفشل أنظمتها في إدارة شئون البلاد والعباد‏.‏ وخلافا لذلك لن تعثر علي أخبار تبعث علي التفاؤل والأمل في القارة السمراء الزاخرة والغنية بثروات أكثر من أن تحصي‏,‏ لكنها غير مستغلة الاستغلال الجيد من قبل دولها أو تحتكرها شركات أمريكية وبريطانية وصينية وهندية وتمتص رحيق خيرها لدفع عجلة التنمية الاقتصادية فيها‏.‏
‏,‏ بينما لاتعود بالنفع والفائدة علي الأفارقة‏,‏ لهذا سيطرت علي الشكوك والمخاوف طوال الرحلة التي لاتزيد مدتها علي ساعتين ونصف الساعة إلي أن هبطت طائرة مصر للطيران‏,‏ التي تسير خمس رحلات أسبوعيا للعاصمة الاريترية أسمرة‏,‏ حيث وجدت نفسي وسط مطار متناهي الصغر‏,‏ وكان في انتظاري عند سلم الطائرة عم ادم محمد‏,‏ الموظف في وزارة الإعلام الاريترية المسئول عن مرافقتي طوال سبعة أيام أمضيتها في أسمرة وخارجها‏.‏
عم ادم هذا كان في غاية اللطف والأدب‏,‏ وكشف لي عن الوجوه الأربعة لاريتريا‏,‏ وبطاقة تعارف ادم تقول‏:‏ انه تجاوز الخمسين من العمر‏,‏ وأب لأربعة أبناء‏,‏ ويتحدث العربية بطلاقة‏,‏ لأنها مع اللغة التيجرية تمثلان اللغتين الرسميتين للبلاد المقسم شعبها مابين‏50%‏ مسلمين و‏50%‏ مسيحيين يعيشان جنبا إلي جنب بدون مشكلات فالحديث عن المعتقدات الدينية مكانها الجامع والكنيسة وخارجهما لاتجد سوي الوئام والتألف بين الاريتريين البالغ تعدادهم قرابة‏4‏ ملايين نسمة‏,‏ ويتوزع نحو مليون منهم في بقاع الأرض المختلفة‏,‏ ويحرصون علي الحفاظ علي روابط مع وطنهم ليس عبر إرسال تحولاتهم المالية فقط‏,‏ وإنما أيضا قضاء اجازاتهم السنوية فيها‏,‏ وبناء فيلات أنيقة تجمعهم بأفراد أسرهم‏,‏ خاصة وأن الاريتريين يفضلون العيش تحت سقف واحد‏,‏ كما تعود أهالينا في ريف مصر فيما مضي‏.‏
ومنذ بداية الرحلة حرصت علي سبر أغوار الوجه الانساني لأهل اريتريا‏,‏ ومن خلال المعايشة توصلت إلي أنهم يتصفون بسجايا وخصال مألوفة لنا‏,‏ مثل الطيبة ومساعدة الغير وعدم التدخل في شئون الآخرين فقد لاحظت لدي سيري في شوارع وطرقات أسمرة أن أحدا من المارة لا ينظر إلي‏,‏ فالكل مشغول بحاله‏,‏ ويبدو أن حقبة الاستعمار الايطالي عودتهم علي وجود الأجانب وسطهم‏.‏ كذلك فان البساطة سمة غالبة في التعاملات‏,‏ حتي مع كبار المسئولين‏,‏ فحينما زرت مبني وزارة الإعلام الكائن فوق ربوة تطل علي العاصمة‏,‏ أشار مرافقي عقب انتهاء الجولة إلي كافتيريا متواضعة مخصصة للعاملين في الوزارة‏,‏ وسألني هل تري الشخص الجالس هناك يحتسي الشاي؟ رددت عليه نعم أراه ماذا عنه؟ اجابني انه وزير الإعلام‏,‏ وعندما أبديت دهشتي‏,‏ قال‏:‏ إنهم اعتادوا في تعاملاتهم اليومية عدم التكلف والتصنع‏,‏ وان الجميع يقفون علي خط واحد مع عدم الانتقاص من قدر وشأن الشخص أيا كان موقعه ومنصبه‏.‏
الأغرب أن الاريتريين احرص مايكونون علي الجانب الجمالي‏,‏ فالشوارع نظيفة ولاتوجد بها قمامة‏,‏ ولاتقع عينك علي شخص يلقي ورقة في الشارع‏,‏ وعندما سألت ادم عن السر وراء النظافة ضحك وقال‏:‏ إن معظم عمال النظافة من النساء وأنهن يتصفن بالأمانة أكثر في أداء أعمالهن‏,‏ ولذا فانهن ينظفن الشوارع بضمير وذمة‏.‏ واسترعي انتباهي أنه لا توجد فيلا بدون حديقة‏,‏ واللون الأخضر شائع وسط المدينة وفي أطرافها‏,‏ فقد تجولت في حي سكني في ضواحي العاصمة يقيم فيه أبناء الطبقة المتوسطة وهو عبارة عن عمارات تعاونية مثل المشيدة بواسطة الروس في مصر في ستينيات القرن الماضي‏,‏ لكن الفارق الجوهري أنها موضع اهتمام ورعاية‏,‏ حيث تدهن الواجهات باستمرار وحيثما نظرت لا تري سوي الخضرة الجميلة المنسقة‏.‏
وما زاد من استغرابي أن الدولة تراقب عن كثب عمليات البناء للتأكد من مطابقتها للمواصفات المحددة بمعرفتها وإلا يحدث غش يقود لتهدم المبني علي رؤوس من فيه بعد فترة قصيرة‏,‏ وبما أن الطراز المعماري الايطالي البديع هو الغالب فقد حافظت السلطات المحلية عليه واشترطت إلا يمس وعند احتياجها لترميم وإصلاح يتعين أولا الحصول علي موافقة رسمية لضمان ألا يتغير شيء فيه‏.‏ وبالنسبة للعشوائيات فان مصيرها الإزالة لتطويرها للخروج من قبو العشوائية‏,‏ ومن ثم لا داعي للاندهاش لدي سيرك في شارع الاستقلال وهو الشارع الرئيسي في أسمرة‏,‏ وبدت دور سينما ومقاه شيدت في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين وكأنها بنيت بالأمس القريب من فرط المحافظة عليها وصيانتها بدون انقطاع‏.‏
وفي هذا الشارع الذي تتوزع علي جانبيه المحلات والمطاعم تستمتع برؤية أشجار النخيل الاستوائية‏,‏ والكاتدرائية الكاثوليكية‏,‏ والكنيسة الأرثوذكسية‏,‏ وبالقرب منهما يقع المسجد الرئيسي في المدينة وهو مسجد الخلفاء الراشدين وهو مثال رائع للعمارة الإسلامية المطعمة بطراز محلي وايطالي وبني قبل‏100‏ عام‏.‏ هذا التجاور يكشف لنا رغبة أكيدة في التعايش بين كل الفئات والطوائف‏,‏ فالدين لله والوطن للجميع‏,‏ ولا يوجد ما يستلزم إقامة محاكم التفتيش الديني والتنقيب في ضمائر الناس‏,‏ فعلاقة الإنسان بربه مسألة خاصة جدا ليس من حقي ولا حقك الحكم عليها‏.‏
الوجه الإنساني لاريتريا يتناغم معه بشكل كبير الوجه الثاني لها ممثلا في بهاء وسحر الطبيعة فيها‏,‏ فأسمرة علي ارتفاع‏2500‏ متر من سطح البحر‏,‏ وجوها منعش وصحي‏,‏ خصوصا وان التلوث يكاد يكون معدوما‏,‏ نظرا لعدم وجود عوادم سيارات النقل والأتوبيسات العامة والمصانع والزبالة وخلافه‏,‏ ومما يشجع ويساعد علي المحافظة علي نقاء الطبيعة صغر عدد سكان العاصمة‏400‏ ألف نسمة والعيب الوحيد لمن يقيم لمدة طويلة فيها قلة الأوكسجين‏,‏ ويتم التغلب علي هذه المشكلة بالذهاب إلي مدينة مصوع المطلة علي البحر الأحمر وتشكل المنفذ البحري الوحيد لاريتريا‏,‏ والمنطقة المقابلة لها غنية بالأسماك‏,‏ لا سيما الجمبري ونستورد جزءا منه لرخص سعره مقارنة بالمستورد من الدول الأوروبية والآسيوية‏.‏
وكان من حسن حظي قيامي بنزهة استدعت ترك أسمرة لزيارة منتجع شمال بحري ويعني شمال البحر باللغة التيجرية‏,‏ نقطة البداية كانت من الفندق ومنه لضاحية قادت سيارة الدفع الرباعي التي كنا نستقلها لمنطقة ريفية علي التلال المحيطة بالعاصمة‏,‏ وكان يعترض طريقنا من وقت لآخر قطعان الماشية التي ترعي بحرية علي جانبي الطريق‏.‏ وبالمناسبة فإن أسعار لحوم الماشية والماعز والخراف زهيدة‏,‏ لأنها تعيش وسط الطبيعة الغناء ولا تكلف تربيتها الكثير‏,‏ واقترح أن نتدارس استيراد بعضها‏,‏ وليت رجال الأعمال في مصر يفكرون في هذا الخيار‏,‏ وأن يضعوا في اعتبارهم أنه يمكن شحنها بسهولة من ميناء مصوع‏.‏
وفجأة بدأنا رحلة رعب حقيقية‏,‏ عندما هبطنا من قمة عالية باتجاه البحر‏,‏ فالطريق كان ضيقا‏,‏ فالجبل علي جنب والهاوية علي الجنب الآخر‏,‏ وفي المنحنيات نجونا من الاصطدام بسيارة قادمة في الاتجاه العكسي‏,‏ بسبب السرعة الزائدة عن الحد‏.‏ وتعطي الرحلة فرصة للتعرف علي الحياة الطبيعية‏,‏ حيث تكثر في الغابات أسراب الطيور بأنواعها المختلفة والقرود التي كانت تعبر الطريق بسرعة مما تطلب توقفنا خشية قتل بعضها‏.‏ وأخبرني مرافقي إن القرود تنتقم من أصحاب السيارات اذا صدمت أحدها بقذفها بالحجارة والصخور الصغيرة‏,‏ وخلال الرحلة ما بين أسمرة ومصوع والممتدة لمسافة‏142‏ كم تعايش الأحوال المناخية الثلاثة في ارتيريا ما بين المعتدل والبارد والجاف‏,‏ وأبلغني ادم بأن الطريق شيد بالجهود الذاتية‏.‏
بعدها بيوم اتجهت لمدينة كرن الواقعة علي بعد‏80‏ كم من أسمرة‏,‏ ونحو‏5‏ ساعات بالسيارة من الحدود مع السودان‏,‏ وطريقها وعر لأنه يتحتم عليك الهبوط من أعلي لأسفل في طرق جبلية صعبة‏.‏ وطوال الطريق رأيت العديد من القري المتناثرة‏,‏ وأغلب بيوتها أكواخ صممت علي شكل دائرة يعلوها سقف من القش‏,‏ وعماد حياة أهلها الزراعة‏,‏ لا سيما الفاكهة‏,‏ بالاضافة لرعي الأغنام والماشية التي تصول وتجول وسط الطرق‏.‏ في كرن شعرت بأنني في السودان أو وسط الجالية السودانية المتركزة في شارع القصر العيني وسط القاهرة‏.‏
فاللبس للرجل والمرأة في كرن يماثل الجلباب السوداني‏,‏ والشريحة العظمي من سكان المدينة 400‏ ألف شخص ينتمون للطرق الصوفية الممتدة جذورها داخل السودان‏,‏ ويشي المشهد العام للمدينة بأن سكانها بسطاء لأبعد حد يمكنك تخيله‏.‏ وفي السوق رأيت كثيرا من البهارات والطعام ومشغولات الفضة والذهب وقليلا من المنتجات الصناعية‏,‏ وبدا لي أن الحياة هنا تعتمد علي المقايضة في جزء كبير منها‏.‏ ومررنا علي مقبرة الجنود الايطاليين الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية‏,‏ عندما تحصنوا في كرن للتصدي لهجوم القوات البريطانية القادمة من الاراضي السودانية‏,‏ والمكان معتني به وتحيط به الزهور والأشجار الباسقة من كل الجوانب‏.‏
مرت لحظات قبل دخولنا مدق وعر ووجدت أدم يسألني وإمارات التعجب علي وجهه ألا تريد معرفة إلي أين نذهب؟ ثم أجاب سريعا أننا ذاهبون لمريم العذراء‏,‏ شحذت كل حواسي مريم العذراء‏,‏ وتوقفنا أمام بوابة يوجد خلفها ممر طويل علي طرفيه أشجار آية في الجمال توفر ظلا كثيفا أسفلها يجلس فيه أناس من سكان المدينة يرغبون في استنشاق الهواء العليل‏,‏ وتناول الطعام والشراب‏.‏ وفي نهاية الممر شجرة سبحان الخالق بها تجويف داخله تمثال للعذراء مريم أحضره رهبان ايطاليون للتبرك به‏,‏ وبمرور الوقت تحول المكان لمزار للراغبات في الانجاب أو التي تواجه مشكلة ما‏,‏ ورأيت ثلاث سيدات في الداخل واحدة تمسك بقدم التمثال والأخري تقرأ الإنجيل والثالثة مستغرقة في نوم عميق‏,‏ بينما وقفت أخري خلف الشجرة وانهمكت في الدعاء‏.‏ وعرفت أن الشجرة أقيمت حولها كنيسة صغيرة يفد اليها المئات للصلاة يوم الأحد‏.‏
لدي خروجنا هرعت سيدة إلينا وقدمت لنا البسكويت أخذه مرافقي والسائق‏,‏ بينما اعتذرت‏,‏ وفي السيارة قال آدم إن الجالسين في المكان يقدمون طعامهم للمارة كنوع من مباركته وأن رفضه فيه إساءة لهم طبقا للعادات والتقاليد المتوارثة في كرن‏.‏ ثم قمنا بجولة سريعة في سوق المدينة قبل التوجه صوب أسمرة‏,‏ وفي طريق العودة تابعت عشرات الشباب والأطفال والشيوخ وهم يسيرون في طوابير طويلة‏,‏ وعرفت أنهم عائدون من دير مريم سيناء‏,‏ وهو دير شيد وسط الجبال ويتردد عليه المئات للصلاة يوم الأحد والمبيت فيه ومغادرته الاثنين‏.‏
ومرت دقائق قبل هطول الأمطار بغزارة لدرجة أنه كان من الصعب علينا رؤية الطريق أمامنا‏,‏ وظهرت السعادة الغامرة علي وجوه المرافقين‏,‏ فالمطر بالنسبة لهم بشارة خير ونماء لأن الأراضي الزراعية سترتوي ومعها الماشية‏,‏ والباقي سيتم تخزينه لاستغلاله للشرب وقتما تضن عليهم السماء بمطرها‏.‏
ونصل للوجه الثالث لارتيريا والخاص بالكفاح المسلح‏,‏ فاريتريا حديثة الاستقلال ولم يمر علي نيله سوي‏20‏ عاما‏,‏ بعد صراع مرير ومؤلم بين المقاومة الشعبية بقيادة اسياسي أفورقي وقوات الاحتلال الاثيوبي الذي جعل منه مقاطعة من المقاطعات الأثيوبية‏,‏ مثلما فعل الرئيس العراقي الراحل صدام حسين لدي غزوه الكويت وإعلانها المحافظة العراقية ال‏19.‏ وشبه مستحيل أن تجلس مع مسئول أو مواطن اريتري بدون إخبارك عن ذكرياته ومعاناته في القتال والاختباء في أعالي الجبال والعيش حياة بدائية بأقل إمكانات متاحة في المأكل والمشرب ووسائل الترفيه والعلاقة مع الجنس اللطيف‏.‏ ويتحدثون أيضا بمرارة وأسي عن أن افريقيا وقارات العالم الأخري عانت من احتلال الرجل الأبيض‏,‏ بينما كابدت ارتيريا ويلات احتلال الرجل الأسود بعدما تخلصت من الاحتلال الايطالي والبريطاني‏,‏ وبهذا تكون الوحيدة التي جربت الاحتلال الأسود علي يد الجارة أثيوبيا‏.‏
تجربة المقاومة تركت تأثيراتها وبصماتها الواضحة علي فكر القيادات والمواطنين‏,‏ فحتي لحظتنا تلك تعتبر اريتريا نفسها مازالت تعيش وسط متطلبات مرحلة الكفاح لإعادة بناء الوطن اعتمادا علي الذات بدون اللهث وراء المنظمات الدولية والاقليمية‏,‏ طلبا للعون والمساعدة‏,‏ وحجتها أن ذلك سيتبعها سلسلة لا تنتهي من الاملاءات والشروط المؤثرة علي حرية اتخاذ القرارات والمواقف عن نشوب الأزمات‏.‏ والمبدأ لا غبار عليه فالاعتماد علي الذات محمود ويستحق الثناء والإطراء‏,‏ لكن لحدود‏,‏ فاريتريا ليس باستطاعتها الانعزال عن المحيط الاقليمي والدولي وغلق أبوابها بالضبة والمفتاح أمام الآخرين‏,‏ فهي تحتاج إلي استثمارات أجنبية لإنعاش اقتصادها وتحسين المستوي المعيشي للاريتريين‏.‏
فقطاع السياحة علي سبيل المثال من القطاعات الواعدة لغني البلاد بمقومات يمكن أن تدر عليها ملايين الدولارات سنويا لو أحسن تنظيمها واستغلالها مع تحديث البنية التحتية لمواكبة التطورات التكنولوجية الحديثة‏,‏ خصوصا خدمات الانترنت‏,‏ ويبدو أن المسئولين في اريتريا مترددون في فتح هذا القطاع لأسباب غير مفهومة‏.‏ وعندما ناقشت الرئيس اسياسي أفورقي في هذا الموضوع رد بأن بلاده لا تنتظر أي شيء من أحد‏,‏ وأنها ليست جالسة علي قارعة الطريق انتظارا لهبات ومساعدات من هنا وهناك‏,‏ واشترط تكوين تجمع اقليمي للعمل تحت مظلته لجذب الاستثمار الأجنبي‏.‏
أما الوجه الرابع والأخير فيخص القيادة السياسية الاريترية‏,‏فالرئيس اسياسي أفورقي يتولي الرئاسة منذ إعلان الاستقلال مطلع التسعينيات من القرن المنصرم‏,‏ والرجل يتصف بسمات وصفات تميل للصلابة والشدة والحزم لكونه عاش الجزء الأكبر من حياته وسط الغابات والأحراش‏,‏ ومعروف عنه التمسك برأيه‏,‏ مهما كانت النصائح الموجهة إليه من الدائرة المحيطة‏.‏ كما أنه قاريء جيد ومتابع لأحدث الاصدارات والتقارير المعنية برسم السياسات الخارجية وتحركات الولايات المتحدة في إفريقيا والشرق الأوسط‏,‏ ويحتفظ بعلاقة ود وصداقة مع مصر وقيادتها السياسية ويحرص علي زيارة القاهرة للتباحث حول مجمل القضايا المرتبطة بعلاقات البلدين الثنائية والأحوال المضطربة في القرن الافريقي والبحر الأحمر‏.‏
والأمانة والصالح القومي يقضي بالالتفات لاريتريا أكثر لاغتنام فرص تدعيم التعاون الثنائي لمكافحة القرصنة‏,‏ وأمن البحر الأحمر أسمرة بموقعها الجغرافي الحيوي تتحكم في مدخل باب المندب والارهاب‏,‏ كذلك فإنها عضو مراقب في مبادرة حوض النيل‏.‏ وحبذا لو منحنا قدرا أزيد في دراستنا الأكاديمية بالمعاهد والمراكز المتخصصة في دراسة القارة السوداء كجزء من سعي لا يتوقف لتعضيد صلاتنا الآنية والمستقبلية بها‏,‏ وألا يكون ذلك مؤقتا استجابة للأزمة المثارة منذ شهور مع دول منابع النيل‏,‏ وأن يكون الحاكم والضابط لتحركنا في هذا الاتجاه البعد المستقبلي حفاظا علي أمن وطنا القومي‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.