تحت افق سماوي كصفاء قلوب الاريتريين, واجواء ربيعية اضفت مزيدا من البهجة علي العاصمة الاريترية المزدانة بأعلام الاستقلال, كانت رحلتنا القصيرة من فندق اسمرا بالاس الي مكتب الرئيس اسياسي افورقي رئيس دولة اريتريا في القصر ذي الطراز الروماني, الذي تعاقب علي سكناه وادارة دفة البلاد منه حكام غرباء ايطاليون وبريطانيون واثيوبيون قبل ان يئول بعد الاستقلال الي ورثته الاصليين من ابناء اريتريا المحررة من ربقة استعمار مديد من هذا المكتب يدير الرئيس اسياسي افورقي شئون الحكم في بلد اغري موقعه في فم البحر الاحمر الجنوبي, وعلي ناصية القرن الافريقي, وقريبا من الشرق الاوسط الغارق في صراعاته والعائم علي كنوزه النفطية, ومازال يغري اطماعا وطموحات ومصالح اجنبية من كل حدب وصوب. واريتريا بلد صغير الحجم, لكنه علي وعي بأن التاريخ والجغرافيا استودعاه دورا كبيرا, يجعل منه رقما في الفضاء الاستراتيجي العربي الافريقي المشترك, بحكم موقعه علي خطوط التماس الجنوبية لامننا القومي, تلك الخطوط التي تتحرك حولها مخاطر وتهديدات وتبزغ في افقها ايضا فرص ووعود, تنتظر من يقطفها ويمسك بها, وتبدو الدولة بعد19 عاما من الاستقلال وكأنها تمتلك فائض حيوية وفتوة قابلا للتصريف ايجابيا في البيئة الاقليمية,اذا ماتكامل مع قوي اخري تقاسمه فضاءه الاستراتيجي الواحد ومن يمن الطالع ان الرعيل الذي يحكم اريتريا اليوم هو نفسه الرعيل الذي حررها. وفي اريتريا تتعانق ثقافات وسلالات واديان شتي صهرتها في سبيكة قومية واحدة حرب تحرير وطنية طويلة اذابت التخوم الفاصلة بين القوميات التسع التي يتكون من رقائقها العرقية والثقافية واللغوية المجتمع الاريتري الحديث, الذي اختفت فيه نعرات التمييز العرقي والديني والثقافي, وبقيت اريتريا لوحة واحدة مبهرة للتسامح الديني والتعايش القومي والوحدة الوطنية, تبرهن علي صحة القانون الخالد الوحدة في التنوع! كانت اول ملاحظة اهديتها للرئيس افورقي بعد ان اتخذت مكاني في مقعد علي يمينه كانت الملاحظة قد تسللت الي قلب الرئيس, وراقت له, علي اسارير وجهه احساسا بالرضا, لما لا وقد افلتت اريتريا كما قال لي الرئيس افورقي من قوانين العولمة التي ارتدت بدول كثيرة الي عصبيات ماقبل الدولة الوطنية, العرق والقبيلة والدين والطائفة, ووجدت الدول الكبري ومنظماتها في تلك العصبيات ذرائع للتدخل الاجنبي في الشأن الوطني! كنا قد بلغنا المكتب الرئاسي في العاشرة تماما صباح ثاني ايام عيد الاستقلال قدمني وزير الاعلام للرئيس الاريتري واستأذن منصرفا, وعندما خلا المكتب إلا مني بدا الرئيس بسيطا ومجاملا ومتواضعا, اعتذر بتواضع جم ان اناديه يافخامة الرئيس كما يقتضي ادب الخطاب في مجالس الرؤساء وراح يحدثني عن ايام وليال من الجوع والبرد والغربة في كهوف اريتريا وجبالها وغاباتها يتقاسم مع رفاق الجبهة قليلا من الخبز وقليلا من الماء وكثيرامن الامل! لذا فالرئيس ليس ديماجوجيا ويضيق بالبروباجندا, ولايميل حتي وهو في سدة الحكم ان يكون سياسيا محترفا, ولايجيد كالدبلوماسيين استخدام الكلمات الملونة, رغم ان الرئيس افورقي فنان يقضي طرفا من اوقات فراغه القليلة بين الالوان والفرشاة, وقد ازالت بساطة الرئيس الشديدة حاجز الرهبة الذي ينشأ في مقام الرؤساء والحكام, فاسترسلت الكلمات بيننا بلا اتيكيت او بروتوكول كانت تهنئتي بعيد الاستقلال كافية لان يجتر افورقي مخزون ذكرياته عن السنوات الاولي للثورة الاريترية في احضان القاهرة, وعن العلاقة الخاصة بين مصر واريتريا التي نجح الرئيسان مبارك وافورقي في لقائهما الاخير في تجديد شبابها. وصراحة الرئيس افورقي ووضوحه تغريك بأن تلامس عالمه الخاص, وتفتح بيسر صندوق افكاره السياسية فتجد الرئيس كريما يغترف لك من صندوقه ماتشاء وماترغب, ينتقل بك من فلسفة الاديان الي فلسفة الحكم, ومن قرار مجلس الامن الجائر ضد بلاده الي مياه النيل والقرصنة وجنوب السودان ضحك افورقي لكنه ضحك كالبكا وهو يتهكم علي المعايير المزدوجة التي ينطوي عليها قرار مجلس الامن ضد اريتريا. وقبل ان يفتح افورقي صندوق افكاره, راح يعبر عن قناعة راسخة لاتتزعزع بالقواسم الاستراتيجية المشتركة التي صنعتها الحتميات الجغرافية والتاريخية بين مصر واريتريا, والحاجة المتبادلة بين البلدين للتعاون والتحرك المشترك عبر هذه القواسم, وفي رأيه ان اعادة صياغة التوجهات الخارجية المصرية في اتجاه الجنوب,و خصوصا مع السودان, قضية لاتقبل التأجيل, قد تكون هناك ضرورات مرحلية معينة دفعت بنا في اتجاه الشمال, الا ان الوقت ليس متأخرا لاعادة توجيه البوصلة الخارجية لمصر نحو الجنوب, حيث تتجمع المصالح الحيوية الكبري لمصر في السودان والبحر الاحمر والقرن الافريقي وحوض النيل. كانت رؤية الرئيس افورقي لمستقبل السودان تصدر عن بعد نظر استراتيجي, يستشرف مابعد وقوع الاحداث, ويسبر غور الدوافع التي تحرك الاطراف المختلفة في السودان, قال الرجل بالحرف الواحد خيار الوحدة في جنوب السودان خيار لابديل عنه! ومصالح الجنوبيين هو العنصر الحاكم في تقرير المصير. فالجنوبيون كما رآهم افورقي في زيارة قريبة الي جوبا مهمومون الان بأولويات اخري غيرالوحدة والانفصال, اولوياتهم فرص اوسع واكثرللعمل والتعليم والصحة والمياه و الكهرباءوالطرق,الانفصال ليس مطروحا علي اجندة سكان الجنوب,ولكنه قضية سياسية مطروحة علي اجندة اصحاب الدكاكين كما سماهم افورقي, ويقصد بهم الساسة المتاجرون بقضية الجنوب. ان الوحدة في السودان لمصلحة الجميع ماعدا اصحاب الدكاكين اما الانفصال فليس في مصلحة احد, لاالسودان ولامصر ولادول الجوار السوداني. الانفصال يطلق موجة من العنف والاقتتال والهجرة الجماعية غيرالمنظمة وحروب الاثنيات والثقافات والقوميات فوق رقعة من الفسيفساء الهشة,وسيذهب بالامن والاستقرار في القرن الافريقي وحوض النيل, وبرؤية السياسي المجرب استبق افورقي بالاجابة سؤآلا قلقا عن مياه النيل يوشك ان يعترض تداعيات الافكار المتدفقة و هي تبلغ نهايتها, قال قاطعا ليس بمقدور احد اياكان ان ينزل الضرر بدول المصب, ولاان ينتقص من حقوقهم التاريخية, ولايملك احد ان يخاطر بإعادة توزيع مورد طبيعي عابر للحدود, او ان يقود تحالفات اقليمية ضد ارادة بعض الاطراف المتشاطئة! او ان يدخل فيمقايضات هدفها تعظيم مصالح دولة معينة علي حساب دول اخري قلت للرئيس افورقي وانا اشد علي يده مودعا, سأنقل رسالتك الي بلد يعرف للرجال اقدارهم ويقدر ادوارهم!