أقف علي باب الخريف كغصن شجرة تبتل بنسائمه بعد إقامة جبرية في هواء التكييف الهادر ليل نهار, لكن الحرارة اخترقت النسمات لتؤكد وجود الصيف الذي لا يريد أن يرحل. تمنيت أن أودع الصيف برطوبته ولزوجته وعرقه الكريه وأهرب الي خيمة أوكسجين أتنفس فيها النقاء.. لا ثاني أكسيد الحقد, الحسد والحقد يختبئان, يتظاهرون بالضعف وهم أقوياء, يتظاهرون ويكذبون درءا لعين الحسود, ولهذا نصادف الشكوي من الفقراء والمحتاجين ومن الأغنياء أيضا, في مصر, الناس( يبحلقون) في بعضهم ويقتلهم الفضول لأخبار جيرانهم إلا في المدن الكبيرة, حيث تتجسد الذاتية فلا يعرف الجار اسم جاره, حكاية الدار المفتوح لكل قادم اقتصرت علي الأرياف أما في المدن فبعض الناس تعلق كاميرا علي الأبواب تكشف الطارق, والبعض يقيمون سياجا من حديد يستعصي كسره وآخرون يوظفون أمنا خاصا من شركات الأمن المنتشرة الآن, أما السبب وراء هذا هو دخول نوعية من المجرمين المتعلمين وليس لهم ملفات سابقة في أجهزة الأمن الجنائي, هؤلاء يتفنون في دخول البيوت بمسميات مهنية ينتحلونها أو باقتحام في عز الضهر, أشعر أن الحذر ضروري عندما يدخل إنسان غريب بيتي, فمهنتي تحتم علي لقاء كل الناس, أنظر في العيون جيدا لأنها في أغلب الأحيان مرآة الداخل, منذ سنوات جاءتني صحفية عربية ثم اكتشفت أنها ليست صحفية ولا تمت للصحافة بصلة وعرفت أنها عاملة مطرودة من محل مكوجي ولها علاقة بعصابة تسطو علي البيوت وقبض عليها وأرشدت عن شركائها, صرت لا استقبل أحدا إلا في أضيق الحدود الضرورية, صرت أتريث في أي صداقة جديدة واستريب فيمن يفرضون صداقاتهم, صار لسان حالي يقول لمن يرشني بقصائد المديح( هات م الآخر)! لم يعد يخدعني المنظر ولا اللقاء المهذب الأول ولا الكلمات المنمقة, لقد علمتني الحياة أن أخضع كل شئ لميزان التقويم ولا أظن أن أصدقائي الجدد قد زادوا كثيرا, فمازال أصدقائي القدامي هم رصيد صداقاتي, أصبحت استقبل الندالة بترحاب, فأنا أتوقعها في أي لحظة, ان قدومها وارد ولا ريب علي اني أعترف أنه بالأمس البعيد كانت ندالة الأصدقاء تذبحني وتدخلني مغارة الاكتئاب, لا تدوم العلاقات الربيعية طويلا فقد يتسلل اليها الملل وربما السأم وليس مصادفة أنه لا ربيع لدينا في فصول السنة الأربعة, ولست أدري لماذا مع قدوم الخريف تتيقظ عندي حاسة التأمل والاستغراق في التأمل وأبدو جادا بل شديد الجدية, وحين أضحك من قلبي أخاف من المحظور القادم, وحين تبتسم لي الحياة قليلا صرت أخشاها بعد قليل وحين تهزني حوادث الاسفلت الدامية, أتشبث بالبيت واحتمي به كقلعة مع أن الموت من الممكن أن يزورني وأنا ممدد فوق سريري, وفي لحظات التأمل, اكتشف عبثية الحياة وأنها تشبه امرأة لعوب تلاعبنا ثم تمضي, واكتشف أن الشهرة طوق من الورد طوق العنق ثم يجف الورد ويذبل, اكتشف أن المال أصل الشرور وباعث الجريمة وسراب نجري خلفه ولا نحمله الي القبر, اكتشف أن السلطة بريق يخطف العيون لعمر قصير, اكتشف أن المرأة لعبة الحياة تلهو بنا ونتصور أننا نلهو بها, اكتشف أن الفهلوة المسمي الجديد للذكاء وان( التلات ورقات) هي لعبة العالم المفضلة بعد أن كانت( عدة النصب) في الموالد الشعبية! لقنتني الحياة درسا مهما أن تكون العصمة بيدي في علاقتي بالمرأة أو السلطة فلا تكون مشاعر سعادتي تحت ضرس إنسان يمنحها لي أو يحرمني منها, وأن أكون أنا مصدر هذه السعادة وليس الآخرين, لقنتني الحياة ألا الود بدون أجر أسمي أنواع الغرام, ولقنتني الحياة أن تصطدم أحلامي بالنجوم ويأتي الشتاء وتنفض الشوارع من المارة والسيارات وتحت معاطفنا الثقيلة تختفي العورات والتشوهات والأطماع والغرور هذه الآفة القاتلة حيث يتصور أحد أنه مركز الكون, يأتي الشتاء بأمطاره فيغسل أوحال الشوارع والبشر, وفي الشتاء تحتجب الشمس كثيرا وراء سحب قاتمة سوداء, وبالمثل قد تحتجب المروءة أو الشهامة ويطل الخير أحيانا من وراء السحب الداكنة, وتلمع الفروسية لحظات كما يلمع البرق في سماء الشتويات, وتهب رياح متربة مثلما تهب في حياتنا المجاملات الكاذبة والابتسامات المصنوعة والجمال المصمغ, يقسو البرد فنحن للدفء كالحنين الي صدق النوايا وصدق المشاعر, وقد يهبط الصدق الي ما تحت الصفر! يتطلب الشتاء اقترابا حنونا ولكني تعلمت أن الجوار الشديد يفسد زهور الود, يأتي الشتاء بفيروسات تمحورت, تماما مثل بشر تمحور بوجوه عدة ولا تنفع معه الأمصال, يأتي الشتاء بالسيول, ويهاجم الآمنين في القري والنجوع المحتمية بالجبل وتتكرر مشاهد الأثاث الغارق في مياه السيل التي تكشف عن المعالجة المؤقتة لبعض قضايانا ويسميها الحس الشعبي( السلبطة), مصر بلد رائع وعيبه ناسه الذين يلقون بالأحمال علي الحكومات فهي الأب والأم وأنور وجدي, والحكومات زهقت من الزنانين, الناس أحيانا تتلذذ بالشكوي واذا كان عنده فما المانع من مزيد؟ وعندما أري بطرس غالي يقول ليسرا في أحد تنويهات برنامج تليفزيوني( أيهما أهم العدالة أم السلام؟) أهمس وأقول: العدالة, نعم قد يأتي سلام مثقوب يفتقد العدالة, ولا شئ موجع مثل إبر البرد القارس القادم عبر موجات جليدية أوروبية مثل( افتقاد العدالة) التي تطرد النوم من العيون, وتشعل موقد الاحتقان في الصدور, يدارون مشاعرهم بالسخرية, وألم يصنع الإنسان اللغة لإخفاء مشاعره؟ وفي شتائنا الرحيم تتبلد السماء بالغيوم, وعندما تتبلد الغيوم في سماء الناس ويعجزون, يتجهون للخرافة, دين العقول الهشة الواهية, ازاحة الخرافات من حياتنا يحتاج الي بلدوزر الجدية ولكل إصلاح ثمن.. دول أخري استخدمت هذا البلدوزر, وعلينا أن نتذكر قبل تشفير ذاكرتنا أن الخرافة رحلت بعد أن عششت طويلا وهبت شعوب من رقدتها, لا نحتاج الي بركان جليدي يعيد صياغتنا من جديد, نحتاج فقط أن نفهم الفرق بين الألف وكوز الذرة! إن التغييرات المناخية التي تسود العالم ولها توابعها وجنون حرارتها وهذيان طقسها وانفلات الطبيعة فيها وتعديل جغرافية الأرض بقرار مناخي, والافراج عن أوبئة كانت مسجونة من عصور, هذه التغييرات المناخية قد طالت إنسان هذا الكوكب!