قبل كتابة هذه الكلمات ساورتني مخاوف عدة, فالفكرة التي تجول في خاطري منذ ايام فيها الكثير من العبارات التي يمكن ان تؤخذ علي, او توحي بأفكار للمسئولين عنا قد تجعل حياتنا اكثر صعوبة وتعقدها اكثر مما هي معقدة لذلك اهيب بالسادة المسئولين عدم أخذ هذه الكلمات مأخذ الجد, فهي تخاريف حر ورطوبة ليس الا. واي كلمات او عبارات ترد في هذه الصفحة عن الادمان لا علاقة لها لا بقانون الطوارئ ولا بالمخدرات, وكفانا ما حدث خلال الايام القليلة الماضية, كما ان المقصود بكلمة تكييف لا علاقة له بالكيف من قريب او بعيد, لذا لزم التنويه. وكل صيف والجميع بخير سواء كان يمضيه علي شواطئ مارينا الخاصة او علي ارصفة كباري القاهرة العامة! لا للتكييف هما احد احتمالين, ولا ثالث لهما. إما ان درجات الحرارة في مصر ارتفعت كثيرا عن زمان, وباتت غير محتملة, او اننا اتدلعنا و ترفهنا بشكل زائد علي الحد, وبتنا لا نطيق الحر. الآراء العلمية وخبراء الطقس والمناخ من غير العرب طبعا بحكم اننا نترفع عن الضلوع في مثل هذه التفاهات والدراسات وخلينا احنا مشغولين بحكم دخول الحمام بالقدم اليمني ومصير من يصرون علي الفسق والفجور بمشاهدة ميكي ماوس بعد ماصدرت فتوي بضرورة قتله يؤكدون ان درجة حرارة الارض الي زيادة وهم يقولون ان درجة حرارة الارض زادت منذ عام1890 خمس مرات, وان هذه الزيادة حدثت في العقد الاخير. ورغم ذلك, فأنا اميل تجاه الاحتمال الثاني, وهو اننا ادمنا التكييف. كاريير العظيم هذا الاختراع الساحر الرائع الذي نشكر عليه الامريكي ويليس هافيلاند كاريير خريج جامعة كورنيل يعود اليه الفضل في نسمات الهواء الباردة التي نتوق اليها في هذه الايام الصيفية الحارة. ولكنه ايضا يجعلنا نتوقف عند اختراعه الفذ هذا لنسأل انفسنا: هل أدمنا التكييف؟ اعرف تماما ان الغالبية العظمي منا لا تمتلك التكييف, ولكننا جميعا نسعي له. يعني مثلا, خذ عندك سيتي ستارز الذي اصبح في اشهر الصيف قبلة الهاربين من الحر. وشأنه في ذلك شأن بقية المراكز التجارية المكيفة التي تجد في اروقتها عائلات بأكملها جاءت تطوف في ارجائه دون ان تتكبد سوي كلفة المواصلات فهي تأتي محملة بالزاد والزواد, وتمضي النهار وجانبا من ساعات الليل في ارجائه. هذا الهروب الجماعي اصبح سمة صيفية لكل من لا يحظي بنعمة المصيف الذي تقلص ليصبح بضعة ايام, واحيانا يوما واحدا لأسباب اقتصادية بحتة. والحقيقة أن ما جعلني امعن التفكير في مسألة التكييف تلك هي ان تكييف سيارتي تعطل فجاة في عز الموجة الحارة في الاسبوع الماضي. وما ان اعلن التكييف عن غضبه, وانا معلقة بين السماء والارض علي كوبري6 اكتوبر حتي شعرت برعب شديد. وقلت لنفسي: يا لهوي! درجة الحرارة في الخارج تزيد علي الخمسين, وفي داخل السيارة بدون تكييف هي الارجح تفوق الخمسين, وانا كنت أسيء استخدام التكييف, فأحول السيارة الي قطعة من الاسكا, حتي انني كنت استغرب من مشهد المارة في الخارج وهم يتصببون عرقا بينما انا اعاني من برودة يدي ووجهي وها هو عقاب السماء! علي ان اتجرع صيف القاهرة الذي يتضامن فيه التلوث والازدحام مع الاحتباس الحراري لتنتج عنها جميعا عيشة مشتعلة. التشدق بالإيجابية وحاولت ان اتحلي بالايجابية التي اتشدق بها ليلا نهارا ناصحة بها طوب الارض. يعني الحمد الله برضه انني امتلك سيارة حتي وان كانت معطلة التكييف وبدأت انظر حولي لأستمد من المشاهد الخارجية ما من شأنه ان يشد من ازري ويساعدني علي خوض الحياة بدون تبريد الهواء. وجاءتني رسالة من السماء! وقف الي جانبي اتوبيس نقل عام تفوح من كل سنتيمتر فيه حرارة تكاد تتحول لهيبا. نظرت الي داخل الاتوبيس, فوجدت جموع الركاب تتصرف بطريقة عادية. بدت آثار الحرارة علي وجوه البعض, لكن الحياة بدت انها تسير بطريقة عادية. هذا رجل يلتصق بسيدة تقف امامه ويتظاهر بأنه لا يراها, وهذا شاب جالس علي مقعد مجاور للنافذة والي جواره رجل تعدي عامه السبعين ويقف بالكاد لكنه علي الارجح لايراه او لا يريد ان يراه, وهاتان فتاتان تثرثران وتضحكان وكأن الدنيا ربيع والجو بديع, وهذا السائق يضع منديله علي رقبته ليمتص العرق, ويفش غله فيمن حوله من قادة السيارات اقنعت نفسي بأن الجو عادي, وان الحياة عادية, ولا داعي لاختلاق الشعور بأزمة, أنه لا توجد ازمة. لكني شعرت فجأة بشعور غريب, فقد كان وجهي كله مبتلا من العرق الذي تصبب عليه ولم اشعر به صممت الا اتخلي عن تفكيري الايجابي فآخر مرة تبلل وجهي هكذا بالعرق كان ايام الجامعة, حيث كنت اعود الي البيت في عز ساعات الظهر بالميكروباص وكان وقتها اختراعا حديثا. ولا اتذكر ان سبب لي ذلك العرق اي مشكلة اذن لا ينبغي ان يسبب لي عرق اليوم مشكلة ايضا. وتحت شباك النافذة علي يميني أملا في ان يعمل تيار هواء مع الشباك علي الجانب الايسر, لكن هيهات, فلن يكن هناك هواء من الاصل حتي يعمل تيارا. حقد وضغينة وفي الاشارة التالية, نظرت حولي بحثا عن رسالة اخري اشحن بها طاقتي الايجابية وتفكيري البناء الذي كاد يفرغ تماما لكن للاسف, وقع نظري علي سيدة قابعة في سيارتها وكل الزجاج مغلق في دلالة واضحة علي ان تكييف سيارتها شغال زي الفل قاومت بشدة الشعور بالحقد والضغينة. لكن منظر رأسها وشعرها يتطاير بخفة شديدة من فرط الهواء البارد المسلط عليها كاد يصيبني بالجنون. لا للتكييف وجاءت القشة التي قصمت ظهر البعير, فقد توقفت سيارة نقل صغيرة الي جانبي, ويبدو ان درجة الحرارة كانت قد تمكنت مني تماما مضافا اليها ما لا يقل عن عشر درجات علي الاقل نابعة عن الغضب والحقد, فعلق الراكب القابع الي جوار السائق بخفة واضحة وابتسامة وردية: مش مشغلة التكييف ليه يا مدام؟ ولا غاوية حر؟!!! واخذ يضحك هو والسائق علي النكتة السخيفة والبايخة وهو ما دفعني الي التخلي عن كل شحناتي الايجابية, وسلمت نمر ركنت علي جنب, وهاتفت زوجي مطالبة اياه بأن يلتقطني بسيارته من شارع رمسيس سألني: هي العربية عطلانة؟ قلت: لا . فأعاد السؤال: طيب انت تعبانة؟ قلت: لا فسألني مجددا: أمال فيه إيه؟ فانفجرت باكية: التكييف عطلان جاءني صوته هادئا رزينا: بطلي دلع. افتحي الشباك اللي جنبك وهو يعمل تيار هواء. باي باي . وبغض النظر عما حدث بعد ذلك لدي عودتي الي البيت, فإنني احذر من منبري هذا من هجمة غربية شرسة, وعدوان امبريالي متعفن هدفه اضعاف شوكتنا وتقويض قدراتنا, لقد جعلونا ندمن التكييف حتي ينالوا من شبابنا, ويعطلوا مسيرتنا نحو التقدم, وينقصوا من حجم انجازاتنا, نداء عاجل الي شباب الوطن: قل لا للتكييف درب نفسك علي العيش بدونه. دعونا نعود الي الزمن الاصيل. علينا ان نتمسك بأصولنا واجوائنا الحارة. التكييف به سم قاتل. هو اختراع غربي لا يناسب تقاليدنا وعاداتنا الشرقية الاصيلة. قل لا للتكييف! لا للتفاهة لا اخري اطالب بها, وهي موجهة للافلام التي تصيبنا والاجيال المقبلة والسابقة بكثير من الضرر دون ان ندري.. كم مذهل من التفاهة والهيافة والرذالة وثقل الدم الذي لا يخلو من اسقاطات جنسية سمجة بغرض التضحيك, والذي يحتاج الي زغزغة من اجل الحصول علي ضحكة. وبما انني لا ادفع مالا, مهما كان قليلا لحضور اي من هذه السخافات في دور العرض, فإنني اجد نفسي احيانا وجها لوجه معها في عقر داري, وتحديدا في غرفة الجلوس, فهي تطل علي من كل حدب وصوب, وتحديدا عبر قنوات الافلام الفضائية التي يتباري عدد غير قليل منها في عرضها ليلا ونهارا, لا سيما ونحن في العطلة الصيفية التي يتفرغ خلالها كثيرون من الصغار للتليفزيون, افيهات بايخة, وقفشات سمجة, ومواقف اقل ما يمكن ان توصف به هو انها سطحية وضحلة وغبية. ورغم أن الناس علي مايبدو تطلق العنان للضحك والقهقهة علي سبيل التنفيس والتعبير عن ضغوطاتها اليومية المزمنة التي لاحل لها, إلا أن أكثر مايقلقني في هذه النوعية من الأفلام التي يطلق عليها أحيانا الأفلام الصيفية هو من الذي ينفق ماله في إنتاجها؟ ومن الذي يمسك بورقة وقلم أو بشاشة كمبيوتر ويهدر الوقت في كتابتها؟ ومن الذي يقرأ السيناريو ويقرر هكذا طواعية أن يلعب دورا فيها؟ وهل هم يشاهدون هذه الأفلام بعد خروجها الي النور؟ وهل يلاحظون هذا الكم من السخافة والضحالة؟ أم أنهم يرونها عبقرية؟ ومن جهتي أعيد رفع شعار لا ولكن هذه المرة للافلام البايخة التي تصيب أبناءنا بالتخلف العقلي والبلادة أو كليهما. روعة التبلد وما دمنا ذكرنا البلادة أو التبلد, فلا يمكنني أن أدع هذه الكلمة الجميلة المعبرة تمر هكذا مرور الكرام. مرة أخري أعترف بأنني أنظر بكثير من الحسد الي جموع المتبلدين والمتبلدات ممن يتسلحون بهذا السلاح الدفاعي الرائع ليتمكنوا من الحياة في ظل الظروف الصعبة التي نعيشها. فلو اصر كل منا علي التدقيق في كل كبيرة وصغيرة, ولو صمم كل منا علي أن يأخذ حقه تالت ومتلت ولو أبي الجميع ورفضوا أن يدعوا الامور تسير حسب الصح والمضبوط, ولو رفع الجميع راية الحق والاستقامة لمتنا جميعا من الغيظ والضغط العصبي. تخيل مثلا أنك واقف لامنك ولاعليك في طابور العيش وجاءت سيارة مفعصة من سيارات الجهات الحكومية ونزل منها السائق تاركا وراءه في المقعد الخلفي الموظف الحكومي الذي أنعم الله سبحانه وتعالي عليه بنعمة السيارة ليستقلها من وإلي العمل( إذا كان يمضي وقته في العمل أصلا) ويقفز صاحبنا هذا الي مقدمة الطابور آمرا البائع بأن يعطيه بثلاثة جنيهات عيش, فإذا اعترض شخص ممن أمضوا ساعة أو أكثر في الطابور انتظارا لدورهم, لانهالت عليه عبارات الشجب والإدانة من جموع الواقفين مطالبة إياه بأن يكبر دماغه, وفيها إيه يعني لما البيه المسئول يأخذ عيشه وتنه ماشي؟ و إيه لازمة الحمبلية دي؟ ما كلنا مسيرنا نمشي؟! و يا عم صلي علي النبي! الديوان هيقف يعني لما تتأخر خمس دقائق كمان ولا حتي خمس سنين هع هع هع! وتنطلق الضحكات المجلجلة من كل صوب, ويشعر من تطاول وطالب بحقه في الاحتفاظ بدوره بأنه أتي بمنكر. وبالتالي فإن التبلد وعدم الشعور أو بالاحري التظاهر بعدم الشعور بالحقوق والواجبات والتفرقة بين الصح والخطأ, وما لنا وما علينا هو أسهل طريقة للتحايل علي الحياة الصعبة طوابير محترمة لكن هذه الغالبية لو كانت تربت منذ نعومة أظافرها علي أن الحق حق, مهما كانت الظروف والأحوال, ومهما كانت الصعاب, لاختلف الأمر تماما. ولشاهدنا في مصر طوابير محترمة منظمة كتلك التي نراها في الدول المتحضرة, حيث يحصل كل مواطن علي الخدمة التي يسعي إليها حسب دوره, ولايوجد شئ اسمه معلش أصل فلان قريب فلان بيه أو إللي مش عاجبه يضرب رأسه في الحيطة! أو ما شابه. ولو تربت الاغلبية علي أن هناك شيئا اسمه قدوة, وهذه القدوة يمكن أن رأوها في الأب والأم, وفي المدرس, وفي رجل الشرطة, وفي رجل الدين وغيرهم لكانت مصر احتفظت بمكانتها بين الأمم. ولو كانت الغالبية كبرت علي التمسك بحقوقها, والإصرار عليها دون خوف من بطش أو ظلم أو سطوة لكانت مصر اليوم حاجة تانية خالص. هذه المرة أجد نفسي في حيرة! فهل أرفع شعار لا للظلم أو لا للفساد أم لا للسكوت عن الحق أم لا للخوف من السطوة أم لا لما نعيش فيه من تبلد وخوف لا مبرر لهما؟