تخبرنا قراءة التاريخ أن الأمم الرائدة, والحضارات السائدة, تمر بمحطات اختبار, وأن هذه الاختبارات التي قد تطول عقودا أو قرونا تشهد حلقات انسكار وانكسار, تفقد فيها الأمم والحضارات رشدها, وتترجرج هويتها, قبل أن تعول علي أبنائها في العودة الي مسارها الصحيح مرة أخري, فإما تعود, وإما تبيد, هذا الوعي التاريخي يقودنا الي سؤالين عن حال أمتنا, هل نشهد الآن تلك المرحلة الاختبارية الانكسارية الانحسارية؟ وإذا كنا قد وصلنا الي دركها الأصعب, فكيف لنا أن نبدأ السير علي طريق النهضة مرة أخري, وأني لنا أن ندرك آلية تجددها الحضاري؟ ولم تكن كلمات فوكوياما إلا إعادة صياغة لأفكار الفيلسوف الألماني هيجل في أوائل القرن التاسع عشر, الذي شبه المجتمعات بالأفراد الحاملين لمشعل الحضارة في سباق للتتابع, تنمو به الحضارات في ثلاث مراحل: حكم الفرد, فحكم طبقة من المجتمع, وأخيرا حكم كل الناس. كل يبحث وينقب في تخصصه واهتمامه, وإذا كان هذا مسار المفكرين والمؤرخين والفلاسفة, فإن الانهيار لدي العلماء له أسباب أخري, إذ يعتقدون أن سوء استخدام الأرض ومصادرها الطبيعية يقبع وراء الانهيار الاقتصادي والسياسي للحضارات الأولي. في السياق نفسه, حول مظاهر التراجع الذي يطال واقعنا العربي, وأمتنا الإسلامية, أصدر هذا العام مركز دراسات الوحدة العربية, في بيروت, ما أطلق عليه المشروع النهضوي العربي, وهو دليل شارح لما قام به المركز حول ذلك المشروع, منذ بدأ كفكرة في التبلور عام1988 في أعقاب انتهاء مركز دراسات الوحدة العربية من إنجاز مشروعه العلمي الكبير الذي حمل اسم: مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي. وبعد مشاركات ومساهمات من أجيال المفكرين والباحثين العرب عقد المركز في مدينة فاس عام2001, ندوة شارك فيها ما يزيد علي المائة باحث من التيارات الفكرية كافة, تناولت بحوثها ومناقشاتها القضايا النهضوية الست التي تشكل أهداف المشروع وهي: الوحدة العربية, والديمقراطية, والتنمية المستقلة, والعدالة الاجتماعية, والاستقلال الوطني والقومي, والتجدد الحضاري. ونشر المركز الوقائع الكاملة للندوة ضمن كتاب صدر عنه في نهاية العام نفسه. وقد رأي ذلك المشروع أن ما أصابته الحضارة العربية الإسلامية من ظهور وتألق وتفوق في العصر الوسيط كان بفعل الديناميات العميقة التي حركت فيها إرادة البناء والتقدم والخروج الي العالمية. فقد كانت دعوة الإسلام واحدة من تلك الديناميات التي حولت نشر عقيدة التوحيد الي رسالة حملها العرب الفاتحون الي الآفاق. وربما حين نضع يدنا علي أصل الداء يتيسر وصف الدواء, فالتحالف الخطأ هو الذي كتب علي جبين الأمة تأخرها, إذا لم تف بريطانيا بوعودها للثورة العربية, بأن التحالف معها سيجلب الحرية والنهضة, والحقيقة أن هذا التحالف والثقة به قد جلب الاحتلال الغربي لقطع الدومينو العربية, فتساقطت في مشهد حزين, في حين كان ذلك الوعد نفسه للكيان الصهيوني حقيقيا, فقامت دولة الاحتلال الإسرائيلي مجسدة قمة ما وصل إليه حال العرب من انحدار, وما كانت عليه خسة وغدر الحليف الغربي. فكان داء التحالف سرطانا عمق تأخر الشعوب العربية وجعلها تخلد للنوم, حتي تقوم تلك الشوكة الاستيطانية في الجسد العربي, منذ ستة عقود ونيف. إن البحث عن أمة جديدة ناهضة, وفاعلة في محيطها الإقليمي والدولي, يجب أن يؤمن حماية ما في تلك الأمة من تنوع ثقافي مصدره روافد ثقافية شعبية متنوعة في المجتمع العربي, واعتبار هذا التنوع عامل إخصاب وإغناء للثقافة العربية ينبغي استثماره, لا عامل انقسام وتهديد للوحدة الثقافية, وذلك دون إخلال بضرورة العمل علي تعظيم القواسم الثقافية العربية المشتركة. لقد كانت لنا تجربة في النهضة, وكانت للآخرين تجاربهم, ونحن نعول اليوم أكثر من أي وقت مضي علي الأخذ بأسباب النهضات العربية والغربية, حتي نحظي بما سماه المشروع النهضوي العربي بالتجدد الحضاري. والواقع أن قاسما مشتركا يوحد المختلفين حول قضايا النهضة, هو موقف الطرفين من مرجعياتهما, فما يحكم الوعي العربي ويسيطر عليه منذ قرنين هو الانصياع لسلطتين متناقضين تؤثران عليه سلبا بما يشل قدرته علي التفكير الداعي للتجديد أو التأصيل, وهما سلطتا التراث والغرب. فليس لدي هاتين السلطتين عصا سحرية لكل المشكلات, تستدعي العصا التراثية أو الغربية فيخرج لك الجني ليحول المثالب الي مناقب, ويحيل الليل الي نهار, وينهض ما تحت التراب. لقد اكتشفنا قبل مائتي عام, منذ غزا بونابرت الشرق, أننا ننأي بتأخر مزدوج, تأخر عن المدينة الحديثة, وتأخر كذلك لا يقل وضوحا عن الحضارة العربية الإسلامية وما بلغته في أزهي عصورها. كان طريق الخروج من أسر التأخر كما رسمه النهضويون الأوائل يحاول أن يستلهم النموذج الأوروبي, أو يهتدي بالنموذج النهضوي للعصر الوسيط, أو يحاول التوفيق بين قيم الحداثة والأصالة, ومازلنا نراوح مكاننا, ولذلك علينا أن نأخذ قرارنا اليوم, قبل الغد, في استلهام طريق فريد لنا, وضعنا له قواسمه المشتركة في السطور السابقة. ويساند التجدد الحضاري المنشود نهضة ثقافية تضع أولويات حددناها في أحاديث سابقة, ومنها أولوية التفكير النقدي العلمي, والثقافة العلمية, وإعادة بناء صلتنا بالتراث علي نحو صحي ومتوازن, وأقول إن الترجمة التي احتلت مكانة مهمة في النهضة السابقة, لابد أن يكون لها دورها الحالي الداعم للتجدد الحضاري. إن هذه رسالة للجميع مفكرين ومؤرخين مثقفين لأن الأمر يهم الجميع. التجدد الحضاري كان سمة في ماضينا المزدهر, وباستطاعتنا أن نجعله سمة مثيلة لمستقبلنا المنشود. وفي البحث عن طريق للنهوض لابد من توافر شرط الحرية وضماناتها في البحث والنظر في أمور الدنيا كافة, ولابد من رفع القيود التي تعرقل البحث في الفكر, وما تراكم عبر القرون من بدع وضلال وخرافة, فالحجر علي الفكر والاجتهاد والإبداع هو حجر علي النهضة وعرقلة لمجتمعاتنا من الخروج من عصور التخلف والانحطاط.