رأي ظالم وعارض ومستهجن لمصر, أعقب مدحا عادلا وغالبا ومستحقا لمصر, جاء تنظيره من جمال حمدان في مؤلفه الموسوعي شخصية مصر! وحتي نتبين وجه ظلم مفكرنا الرائد لمصر لنبدأ من الآخر.. بحكمه المصاغ في عبارات مريرة: بتحرير مصر فلسطين كاملة, وبه وحده, تنتقم لنفسها من كل سلبيات تاريخها وعار حاضرها.. وإلي أن تحقق هذا فستظل( مصر) دولة مغلوبة مكسورة راكعة, في حالة انعدام وزن سياسي, تتذبذب بين الانحدار والانزلاق التاريخي.. دولة كما يصمها البعض شاخت, وأصبحت من مخلفات التاريخ, تترنح وتنزاح بالتدريج خارج التاريخ! هكذا, وببساطة, ظلم جمال حمدان مصر بعد أن رأي كيف غسلت عار يونيو بعبور أكتوبر, وفي كتاب برهن فيه أكثر من غيره علي حضور مصر الرائد الفاعل علي مدي التاريخ المكتوب زعم أنها مهددة بالخروج منه! وأعتقد أن الإنزلاق من العلم الموضوعي الصارم الي الحكم الأيديولوجي الغاضب هو الرافعة التي تفسر تردي باحثنا الكبير من العلمي الي الذاتي في التحليل والاستنتاج, وهو ما يصادفه المرء في هذه الحالة كما في حالات أخري غير نادرة. وليس من المدهش أن يندفع مفكرنا إنطلاقا من رفضه لمبادرة السادات بالسلام الي صياغة هذه النظرية النكراء, لأن الموقف الأيديولوجي المسبق طالما أبعد العلماء عن القراءة الموضوعية للتاريخ. ولا يعفي صاحب شخصية مصر من مغبة ارتكاب هذه الخطيئه النظرية تأكيده في ختام مقولاته المذكورة أن يعلن أن ذلك_ نحن نثق_ لن يكون! إذ لا يعرف المرء إن كان يقصد أن مصر بمقدورها تحرير فلسطين كاملة, ومن ثم لن تسقط الي الهوة التي أنذر بها! أم يقصد أن مصر- سواء حررت فلسطين أم لم تحررها- عصية علي السقوط الي خارج التاريخ! والمؤسف أن هذه النظرية الباطلة قد تغذت وتتغذي عليها الأطراف الإقليمية التي تسعي لتشويه صورة مصر العريقة, وكأنها تستطيع ان ترث دورها التاريخي لدعم قضايا عالمها العربي. وقد غذت هذه النظرية وتغذي القوي المحلية التي تروج لتكريس دعوة تخلي مصر عن قضايا مجالها الحيوي العربي, وكأنها تملك ترف هذا الإنعزال الموهوم! وفي قضية فلسطين خصوصا كانت مصر قبل غيرها هي التي خاضت خمسة حروب مع اسرائيل, ومازالت تقدم كل الدعم للشعب الفلسطيني في كفاحه السياسي لانتزاع حقوقه المشروعة. ولنتأمل كلمة مبارك المبدئية والحازمة في قمة واشنطن الأخيرة. ثم نقرأ لجمال حمدان: إن مصير مصر ومكانتها في العالم سيحدده مصيرها ومكانتها في العالم العربي, ومصيرها ومكانتها في العالم العربي سيحدده مصير فلسطين. وليس أمام مصر من فرصة ذهبية لاستعادة كامل وزنها وزعامتها إلا بتحقيق نصر تاريخي مرة واحدة وإلي الأبد بتحريرها فلسطين كاملة, تماما مثلما فعلت مع الصليبيات والمغوليات في العصور الوسطي. ولن تصبح مصر قط دولة حرة قوية عزيزة متقدمة يسكنها شعب أبي كريم متطور إلا بعد أن تصفي وجود العدو الإسرائيلي من كل فلسطين. ولنتذكر أولا, أن مصير مصر والعالم العربي يتهدد أساسا بتهميش المكانة في عصر المعرفة, وهو خطر قائم بوجود اسرائيل أو غيابها, وثانيا, أن خطر اسرائيل مصدره تفوقها الذاتي, العلمي والتقني والصناعي, فضلا عن كونها, بل وبفضل كونها, حليفا عضويا للغرب! ولا جدال أن مكانة مصر وكرامة شعبها تتوقف علي امتلاكها رؤية للتقدم الشامل ورافعته استراتيجية للتصنيع, وهو ما تستطيعه في ظل السلام, وليس بخوض الحروب المغامرة وغير المبررة التي قطعت وستقطع الطريق الي تقدم وكرامة الأمة. والواقع أن المزايدين علي مصر, الذين وظفوا كل قاموس الهجاء والشتيمة ضد عبد الناصر والسادات ومبارك, فقد سلموا بأن تسوية الصراع العربي الإسرائيلي سبيله السياسة لا الحرب, وإن حال وصولهم المتأخر الي تحقيق ما استطاعته مصر! ولنتذكر أن مصر بحكمتها الأصيلة قد حققت بكافة أساليب النضال العسكري والسياسي والقانوني تحرير ترابها الوطني, قبل أن تضع الحرب الباردة أوزارها, وقبل أن تفقد زخمها صدمة النفط التي تحققت بفضل مصر أكتوبر, وقبل أن تتفكك عري النظام العربي مع اشتعال الصراعات المسلحة الاقليمية والبينية والأهلية! ولأنه عند باب العلم لا ينبغي أن يحول الخوف من مخالفة مفكر بقامة صاحب شخصية مصر, فانني أزعم أنه ليس صحيحا ما قاله: أعظم معارك مصر لم تكن معارك تحتمس الثالث أو رمسيس الثاني, وإنما صلاح الدين وقطز وبيبرس, ثم أخيرا وفوق الكل محمد علي. وهنا أيضا تغلبت الإيديولوجية علي الموضوعية. فبدون تهوين من شأن دور مصر في قهر الصليبيين والمغول, أوجز فأوضح أن انتصارتها الأعظم كانت في عصر تفوقها الحضاري, انتزعت مصر قيادتها الاقليمية التاريخية, حين امتلكت أدوات القوة وأسباب العزة والكرامة. وبغير تقليل من شأن انتصارات جيش وأسطول مصر في عهد محمد علي وفضل الأخير في بعث مصر الحديثة, فانه ليس صحيحا ما يقوله جمال حمدان من أنه بالنسبة لمصر فلقد يبدو غريبا أنها حققت قمم تاريخها لا في عصر الفرعونية- علي سموقه وشموخه- وإنما في عصرها العربي, وعلي سبيل المثال, فإن التوسع المصري الفرعوني لم يصل في أقصاه إلي ما وصل إليه توسع القرن التاسع عشر أيام محمد علي! ولنتذكر أن الإمبراطورية المصرية القديمة قد عمرت خمسمائة عام, بعد أن تحقق لجيشها وأسطولها النصر في معارك وحروب, بدأت بقيادة تحتمس الثالث أول بطل عالمي, وتواصلت في عهود خلفائه, وتوجت بانتصارات رمسيس الثالث علي غزوات ما سمي بشعوب البحر! ثم لا يصح أن ننسب للحروب التوسعية فضيلة بلوغ القمم التاريخية. فالقمم التاريخية لا تبلغها الأمم بانتصاراتها العسكرية التوسعية وإن كانت مدوية, ولكن بانجازاتها الحضارية ومآثرها الأخلاقية, وهو ما توفر لمصر الفرعونية بحضارتها وسبقها الأخلاقي. وأما محمد علي, الذي وإن قدر مصر حق قدرها عاش حتي مات يعتز بهويته التركية. وإذا كان إبنه ابراهيم باشا المعتز بهويته المصرية المكتسبة والقائد المظفر لحروبه التوسعية قد رفع شعار الوحدة العربية فقد تداعت خطوط التوسع بعد نحو عقدين من الزمان تحت ضغوط الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية الصاعدة. ولنتذكر أن الإمبراطورية المصرية القديمة كانت خطوطا دفاعية, أجبرت مصر عليها بعد غزو وطرد الهكسوس لقطع الطريق علي غزوات الرعاة. ولم تعمر تلك الإمبراطورية قرونا بفضل احتلال مستعمرات, وإنما بفضل بناء تحالفات ضد تهديدات مشتركة, وهو ما تشهد عليه رسائل أمراء الشام طلبا لنجدة مصر في مواجهة تهديدات القوي الاقليمية الجديدة الصاعدة, أقصد رسائل تل العمارنة! ويبقي أنه ليس من العار أن مصر لم تتمكن من تلبية مناشدات النجدة, في ظل تفاقم همومها الداخلية وتبدل ميزان القوي, لأن الله لا يكلف الناس أو الأمم إلا ما في وسعهم. وللحديث بقية.