في وسط حالة الاحباط والتراجع الثقافي الذي نعيشه، وفي ظل التغيير في المواقف لتحقيق المصالح والمنافع الشخصية، ومجاراة لحاملي شعارات الخداع والزيف من قبل دعاة الأممية العولمية، والمتأمركين الجدد، وأيضا من قبل دعاة الأممية الإسلامية من بقايا الجمود والتخلف، والمتأسلمين الجدد، الذين يؤثرون الولاء للأمة الإسلامية ويرونها مقدمة علي الولاء والانتماء للوطن. نقول في ظل هذا وغيره من إيثار الخاص علي العام، والبحث عن المقابل المادي أولا قبل الإقدام علي أي عمل، إلي جانب وجود أدعياء الثقافة والمتاجرين بآلام الجماهير، في أعمال توصف بالإبداع، ولا يقصدون من ورائها سوي تشويه مصر وسمعتها. نقول وسط كل هذا وغيره نجد من يبعث الأمل في النفوس المحبطة ويؤكد أنه مهما كانت ظلمة الليل، فإن الشمس لا محالة مشرقة، وأنه إلي جانب تلك الأجسام الطافية علي وجه الحياة الثقافية في مصر فإن هناك القلاع الساحقة الشامخة التي تؤكد أن لمصر دور الريادة مهما كانت الظروف، وانتشار الجذوع الخاوية من أدعياء الثقافة. هناك الرواد العظام: عطاء وفكرا، وهم ولله الحمد كثر، ومن بين هؤلاء وفي مقدمتهم الأستاذ الدكتور جابر عصفور: المثل والنموذج في كيف يكون عطاء الكبار والرواد، وعلي سبيل المثال - لا الحصر - فإننا في كلية التربية جامعة الفيوم قد راودتنا فكرة أن تشرف كلية التربية وجامعة الفيوم، وقسم أصول التربية الذي أنتمي إليه - بدعوة هذا المفكر الرائد لمناقشة رسالة مقدمة من الباحث «عمر صوفي» للحصول علي درجة الدكتوراة حول موضوع هو من اهتمام مفكرنا جابر عصفور، وهو «المضامين التربوية في أدب نجيب محفوظ»، وعندما كلفت به - من قبل الكلية - للاتصال به لا أخفي أنني كنت أقدم رجلا وأُؤخر أخري، لعشرات الأسباب الذاتية والموضوعية، خصوصا متاعب السفر - متعه الله بالصحة والعافية - والانشغال بالعديد من الأعمال. ولكن كانت المفاجأة في سرعة الاستجابة من جانب هذا المفكر المعطاء وهكذا يضرب لنا المثل في أن العطاء إنما هو من شيم الكبار، وأصحاب الرسالة والأساتذة الرواد في تعاملهم مع التلاميذ والمريدين، وللحق لم تكن فقط المناقشة التي استغرقت من جانبه ما يقرب من الثلاث ساعات وإنما العلم والاحاطة وسعة الأفق، والدرس الذي منه تعلم الجميع: الباحث وهيئة الإشراف وحضور المناقشة. والإشادة إلي هذا الأمر قد لا تضيف شيئا لأستاذنا جابر عصفور وإنما تضيف لنا جميعا طلابًا وباحثين وتضيف للمثقفين وكل حاملي الأقلام الدرس والنموذج في كيف يكون العطاء مهما كانت الأسباب التي قد تحد منه لأسباب صحية أو موضوعية. ومن خلال المناقشة ومتابعة تاريخ وفكر هذا العالم المعطاء يتبين لنا أنه النموذج في عطائه واستنارته وفقط وباختصار شديد نشير إلي بعض من معالم سيرة هذا النموذج ليتبين منها القدرة علي التحدي في مواجهة العقبات وكيف يكون فكر الاستنارة ليكون الدرس والعبرة لشباب الباحثين علي وجه الخصوص.. 1- فلقد حصل مفكرنا علي درجة الليسانس من قسم اللغة العربية بآداب القاهرة بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف عام 1965 وكان ترتيبه الأول علي أقسام اللغة العربية بالجامعات المصرية ومع ذلك لم يعين معيدا وإنما عين مدرسًا في إحدي القري بمحافظة الفيوم ويومها تقدم بالتماس للزعيم الخالد جمال عبدالناصر لتعيينه معيداً وإذا بهذا الزعيم يأمر علي الفور بتعيينه معيدا وقد كان وتشاء الأقدار أنه بعد تدرجه في السلك الجامعي وفي تلك الواقعة المعروفة بمذبحة المثقفين التي وقعت في سبتمر 1981 وفيها تم اعتقال ما يقرب من 1500 مثقف وصحفي تم فصل أستاذنا من الجامعة وبعد ما حدث للمرحوم السادات وتولي الرئيس مبارك الحكم وكان في مقدمة ما قام به الإفراج وفورا عن المعتقلين بل واستقبالهم في القصر الجمهوري كنوع من التكريم ورد الاعتبار لهم. وهكذا وفي مفارقة غريبة يعد مفكرنا الوحيد الذي تدخل في أمره ثلاثة رؤساء للجمهورية حيث عينه الزعيم الخالد جمال عبدالناصر وفصله المرحوم السادات وأعاده للجامعة الرئيس مبارك بل لم يقف الأمر عند حد العمل في الجامعة المصرية وإنما أصبح أستاذا زائرًا في العديد من الجامعات العربية والغربية. 2- إنه خلال سيرته العلمية وحتي اللحظة قد أثري المكتبة العربية بعشرات المؤلفات والكتب التي نالت التقدير من قبل المراكز والمؤسسات البحثية في مصر والعالم العربي وذلك من خلال العديد من الجوائز باعتبارها من أفضل ما تم تأليفه كل في مجاله وتم تتويج هذه المسيرة العلمية الرائعة بحصوله علي جائزة الدولة التقديرية وأخيراً جائزة القذافي العالمية في الأدب. 3- أما عن شغله للعديد من المهام والأعمال والوظائف فحدث ولا حرج وفي القلب منها أمانة المجلس الأعلي للثقافة بنحو 14 عاما والآن يشغل إلي جانب أستاذيته في آداب القاهرة رئاسة المركز القومي للترجمة. ولكن يبقي قبل وبعد كل هذا الحب والتقدير الذي يشع من قلوب وأعين تلاميذه ومريديه باعتباره النموذج والقدوة والمثل الأعلي للمفكر المستنير رغم أنف كل ألوان وتيارات الجمود والتخلف ومن علي شاكلتهم من العابثين بثقافة الأمة وأدعياء الأدب والإبداع.