اليوم تحل الذكري السنوية الأربعون لوفاة الزعيم جمال عبد الناصر, الذي كان وداعه فريدا ومهيبا, بقدر ما كانت مكانة زعيم حركة التحرر الوطني المصرية والعربية والعالمية. وأما وفاته التي هزت أربعة أركان الأرض, وجنازته التي شارك فيها عشرات الملايين من شعب مصر وغيره من الشعوب العربية, فقد كانت كاشفة لقيمته حيث يعرف قدر الناس في الجنائز! وكان وداعه مذهلا, ليس فقط لأعدائه وخصومه بل ومحبيه وأنصاره, شأن المظاهرات الجماهيرية المليونية والعفوية, التي ساندته في معركة السويس المجيدة وضد العدوان الثلاثي الغادر, ثم طالبته بالتراجع عن قراره بالتنحي, حين اعترف- وبحق- بمسئوليته الأساسية عن هزيمة يونيو1967. ولنتذكر, مثلا, من مظاهر زعامته التاريخية للحركة القومية العربية, تلك الإستقبالات الشعبية الأسطورية له, في دمشق في أيام الوحدة والإنتصار, وفي الخرطوم في أعقاب الهزيمة والإنكسار! وقد يتساءل القاريء وما شأن هذا بعنوان المقال؟ وأبادر فأقول أنه من الظلم لمصر والمصريين أن يصدر حكمه المطلق بأن' الناصرية هي المصرية كما ينبغي أن تكون... أنت مصري إذن أنت ناصري... وكل حاكم بعد عبد الناصر لا يملك أن يخرج علي الناصرية ولو أراد إلا وخرج عن المصرية أي كان خائنا'! وهو ما يقتبسه البعض من كتاب' جمال حمدان ولمحات من مذكراته الخاصة', التي أعدها للنشر عبد الحميد حمدان, شقيق مفكرنا الموسوعي الرائد! وفيه نري مدي ظلم جمال حمدان لمصر والمصريين, حين يعلن أن مصر منذ اتفاقية السلام' لم تعد مستقلة ذات سيادة وانما هي محمية أمريكية تحت الوصاية الاسرائيلية, أو العكس محمية اسرائيلية تحت الوصاية الامريكية'. وأن مصر' تم دفنها في كامب ديفيد'! لكنني لن أقف هنا عند هذا الذي خطه جمال حمدان في أوراقه الخاصة في سنوات اعتزاله, أو إكتئابه, وإنما' شخصية مصر'.., الذي يعلن فيه' إن مصر بالذات محكوم عليها بالعروبة وبالزعامة, ولكن أيضا بتحرير فلسطين, وإلا فبالإعدام'! وأما نظريته كما استفاض في شرحها بمؤلفه البحثي الرائد والفريد فتتلخص في أن' مصر لا تستطيع أن تنسحب من عروبتها أو تنضوها عن نفسها حتي لو أرادت... كيف؟ وهي إذا نكصت عن استرداد فلسطين العربية كاملة من البحر إلي النهر, فقد حكمت علي نفسها بالإنتحار..'! ومفتاح الموقف كله بكلماته' الانتماء القومي' ضد' الأبعاد الإقليمية, وذلك ما يعني ويرادف العروبة علي الفور.. إنه القانون الحديدي الذي لا فكاك لمصر منه.. ومن أسف أن هذا القانون قد وضع موضع التجربة العملية فعلا.. بعد جريمة الركوع والاستسلام للعدو منذ عقد الخيانة'.. يقصد السبعينيات! ويواصل جمال حمدان شرح نظريته الظالمة, فيقول:' إنه منذ أخرجت مصر مهزومة مكسورة من الصراع, وأقيلت أو استقالت من العروبة, وعزلت أو اعتزلت القومية العربية, فقدت مصر فجأة كل شئ: فقدت الكيان والمكان والزمان, الهوية والذات والانتماء, الاتجاه والبوصلة والخطة والإستراتيجية, دخلت مرحلة انعدام الوزن وفقدان الاتجاه وضياع الجاذبية, وترددت إلي دوامة التية... لا تعرف ماذا تريد بالضبط؟ ولا إلي أين تذهب؟'! ولن أستفيض في عرض هجاء جمال حمدان وإلا ظلمته, ببساطة لأنني أعرف قدره وقيمة بحوثه, التي أعطت مصر ما تستحقه من تقدير وما تمثله من قدر. وأقول معه, بعد استبعاد ألفاظ غضب أيديولوجي جامح حفل به تناوله:' إن مصر.. لا يمكن أن تركع وتستسلم للعدو تحت أي شعار زائف أو ستار كاذب, ومصر مستحيل أن تكون خائنة لنفسها ولشقيقاتها وليس فيها مكان لخائن.. ورغم كل شئ, فإن كل انحراف إلي زوال'. والواقع أن مصر بقيادة مبارك قد صححت الانحراف وعادت الي الصف العربي, وتحملت مسئولياتها العربية. ولنتذكر مواقف مصر مدفوعة الثمن: دفاعا عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني, ومعارضة علنية لحرب بوش لاحتلال العراق, وصدا لمحاولات توريطها في حرب ضد ليبيا, وعملا من أجل حماية وحدة السودان, وجهدا من أجل بناء سوق عربية مشتركة, ومعارك في مكافحة الإرهاب والتطرف الديني, وموقفا ضد السلاح النووي الإسرائيلي..إلخ. وأتفق مع جمال حمدان في دعوته, ومجددا بعد إقصاء هجائه لسياسات السادات:' علي مصر, كما علي العرب, أن ترتفع إلي مستوي التحدي والمسئولية: الأولي بأن تعطي العرب قيادة عبقرية جديرة قادرة.. والثانية بأن تعطي مصر كل شحنة وطاقة من القوة المادية والمعنوية تدير بها الصراع'. ويبقي الخلاف حول أهداف وآليات الصراع, التي لابد وأن تختلف يقينا بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الإتحاد السوفييتي وتداعي النظم الإشتراكية وإختلال التوازن الدولي وإنحسار حركة التحرر الوطني.. فقد صارت السياسة بدل الحرب أداة مصر لحماية مصالحها العليا والتضامن مع القضايا العربية, وصارت دعوة مصر الي التكامل الاقتصادي العربي هدفا قوميا لا بديل له لمواجهة تحديات ثورة المعرفة والعولمة الاقتصادية. وبقدر نجاح مصر في تحقيق تقدمها الشامل, بالإرتقاء بالتعليم والبحث والتطوير, وبتعظيم قدراتها الإنتاجية بتعميق التصنيع والتنمية الزراعية, وباللحاق بالدول الصناعية الجديدة ومجموعة العشرين الصاعدة, وبحماية السلام الإقليمي وتعزيز دولة المواطنة المدنية, بقدر ما توفر مصر تلك القيادة' العبقرية الجديرة القادرة' التي ينشدها صاحب شخصية مصر ولا يري بديلا لها. وحين يقول جمال حمدان أن' الناصرية هي المصرية', لا ينبغي أن ننسي أن جمال عبد الناصر- وليس غيره- وإن بقي أسير زعامته وتاريخه, هو الذي انهي' الحرب الباردة العربية', وعمل من أجل' وحدة الصف العربي', وقبل' مبدأ الأرض مقابل السلام', من أجل تصفية آثار عدوان1967 وليس تحرير فلسطين من النهر الي البحر, أو بناء الوحدة العربية من المحيط الي الخليج! ولنتذكر صدامه مع الفصائل الفلسطينية والنظم العربية ذات الجمل الثورية التي لم تتورع عن اتهامه بالخيانة, كما اتهمت السادات من بعده. ولعل الجديد الآن هو مزايدات نجاد وأردوجان, زعماء إيران وتركيا الوافدين الجديدين الي ساحة هجاء مبارك بعد طول تحالف مع اسرائيل, وطول عداء للعروبة! وأما الحلم العربي الذي جسده جمال عبد الناصر فان شرط تحقيقه الحاسم, كما كتب جمال حمدان وليس غيره, هو أن يعطي العرب مصر' كل شحنة وطاقة من القوة المادية والمعنوية تدير بها الصراع', الذي صار- في ظل عالم متغير- صراعا علي مصر أن تقوده لحماية الدول العربية والنظام العربي من التفكيك والتفكك بأن تقدم المثال في سعيها: للتقدم الشامل والتصنيع العربي والدولة المدنية وحقوق المواطنة والتكامل العربي والسلام العادل والعولمة المنصفة! وربما يصح أن أستعير كلمات جمال حمدان وأقول إن هذا هو' القانون الحديدي الذي لا فكاك لمصر منه'!