حسنا أن قرر حزب الوفد ومعه الأحزاب الرئيسية الأخري المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقررة خلال شهر نوفمبر المقبل, بعد أن أكدت التجربة العملية ان المقاطعة لاتفيد, وإنما تزيد الاحزاب عزلة والمواطن عزوفا, وتكون النتيجة هي العودة خطوات إلي الوراء في وقت تسعي فيه القوي السياسية للقفز إلي الأمام ولو بضع خطوات قليلة. الأمر المؤكد أن أحزاب المعارضة لها مطالب فيما يخص ضمانات نزاهة الانتخابات وهذا حقها ورؤيتها للنظام الانتخابي الأمثل, ولكن في كل الأحوال فان المشاركة والمطالبة أفضل من المقاطعة, لان المقاطعة تعني السلبية وعدم قدرتها علي تحمل أعباء النضال السياسي, فالذي يريد أن يعبر النهر عليه بالقفز فيه.. أما الاكتفاء بالوقوف علي الحافة والحديث عن التمنيات الطيبة فهو أمر لايجدي في العمل العام في العالم كله وليس في مصر وحدها. أحزاب المعارضة تستحق التحية لأنها انتهجت المشاركة الايجابية وأعلنت رؤيتها في ذات الوقت لضمانات نزاهة الانتخابات, وهي الرؤية التي لاقت قبولا في معظمها لدي الحزب الوطني وتحفظ علي بعضها الآخر نتيجة ضيق الوقت وصعوبة اجراء تعديلات تشريعية في ظل غيبة مجلسي الشعب والشوري وعدم دراسة تلك المقترحات بشكل كاف. أعتقد أن توافق الحزب الوطني مع أحزاب المعارضة علي بعض ضمانات نزاهة الانتخابات يصلح أن يكون بداية للعمل المشترك, علي أن تكون هناك خطوات أخري تستكمل باقي الضمانات فور أن تضع تلك الانتخابات أوزارها استعدادا لأقرب انتخابات تشريعية مقبلة, وأتصور أنه آن الأوان لاجراء تعديلات جذرية وعميقة علي أسلوب الانتخابات الفردية الحالية وتحويلها إلي نظام القائمة النسبية الاكثر عدالة وتمثيلا للقوي السياسية في المجتمع, وكذلك الغاء نسبة العمال والفلاحين التي باتت مجالا واسعا للتزوير والتلاعب فأصبح اللواء فلاحا والصحفي عاملا, ورجال الأعمال الذين يمثلون طبقة الرأسمالية الوطنية عمالا وفلاحين, رغم أن هذا النص خرج بعد الثورة ليجد العمال والفلاحون الحقيقيون مكانا تحت القبة, وبما أن مياها كثيرة جرت في المجتمع المصري, ولم تعد هناك حاجة لهذا النص العقيم فقد آن الأوان لتصحيح هذا الخلل بعيدا عن أساليب التحايل والتلاعب والتزوير الحالية. الأهم من ذلك هو ضرورة وضع نظام يحقق عودة الأشراف القضائي بشكل كامل علي المجمعات الانتخابية, فاذا كان من الصعب أن يكون لكل صندوق قاض, فإنه يمكن ان يكون لكل مجمع انتخابي قاض أو أكثر يشرفون اشرافا كاملا علي اجراء الانتخابات, داخل هذا المجمع, ونكون بذلك قد وصلنا إلي حل وسط يضمن عودة الإشراف القضائي الفعلي علي الانتخابات ويعالج أزمة نقص اعداد القضاة في ذات الوقت. مصر عرفت الحياة النيابية منذ زمن طويل وبالتحديد منذ عصر محمد علي حينما أنشأ أول مجلس للشوري عام1829 مكون من156 عضوا برئاسة ابنه إبراهيم باشا, ثم تلا ذلك قيام الخديو اسماعيل بانشاء مجلس النواب الاستشاري عام1866 المكون من76 عضوا منهم75 عضوا بالانتخاب لمدة3 سنوات وكان الخديوي نفسه يترأس الجلسات حتي جاء عام1882 ليصدر أول دستور ينص علي جعل مجلس الوزراء مسئولا امام مجلس النواب المنتخب من الشعب لمدة5 سنوات.. أي ان مصر عرفت الحياة النيابية الحقيقية منذ مايقرب من128 عاما, وهي بذلك أسبق من العديد من دول العالم المتقدم شرقه وغربه ولولا الانتكاسة التي حدثت بعد قيام الثورة والغاء الحياة الحزبية والسياسية لكان لمصر شأن أخر في هذا المجال. البكاء علي اللبن المسكوب لايفيد, لكن علينا تعويض ما فاتنا في هذا المجال, وأعتقد أن الانتخابات المقبلة خطوة مهمة علي هذا الطريق, والبداية سوف تكون من الاحزاب نفسها أغلبية ومعارضة بتقديم وجوه مقبولة جماهيريا, وإلا تتحول تلك الانتخابات إلي ساحة للتكتلات المادية والعصبية أو ساحة للمعارك وتصفية الحسابات من خلال اللجوء إلي أعمال العنف والبلطجة. أتمني لو قامت اللجنة العليا للانتخابات باعمال شئونها في كل كبيرة وصغيرة بدءا بحجم الانفاق وسقوف الدعاية ومرورا بتنظيم العملية الانتخابية تصويتا وفرزا وحتي اعلان النتيجة, فاللجنة لها شخصية اعتبارية عامة, ويتم اختيار رئيسها وأعضائها بحكم مناصبهم القضائية أو من الشخصيات العامة المشهود لها بالحياد والنزاهة, والأهم من ذلك ان جميع اعضائها يتمتعون بالحصانة أثناء ممارسة عملهم ولايجوز اتخاذ أي اجراء ضد أي عضو بها إلا باذن مسبق من اللجنة, وهي لاتتبع أية جهة في الدولة ولايملك أحد التدخل في عملها. اللجنة مطالبة بالتحرك من الآن لتراقب وتوقف المخالفات منذ بدايتها بدءا بالسفه في الانفاق, والتصدي بكل حسم لكل الجرائم الانتخابية الأخري, لان تحرك اللجنة المبكر سوف يعطي المزيد من الثقة والاطمئنان للناخبين والمرشحين قبل ان تتفاقم المخالفات وتزداد بدرجة يصعب معها ضبطها أو التحقق منها.