هذا ملف انتظرت طويلا حتي أطرحه علي الناس. واليوم أفعل ليس من موقع( معارضة) أو من مربع( موالاة), ولكن بمنطق الحرص علي توخي الاحتشام الإداري, والتزام المظهر اللائق بمسئولين أرادهم نظامنا أن يحتلوا الصف الأول في صدارته, ويصبحوا واجهته المنفذة سياساته, والملبية لكل احتياج شعبي أو مجتمعي. وأعني بأولئك المسئولين وزراء الحكومة علي وجه التحديد والذين إلي جوار الجانب الفني( التقني) لأعمالهم, ينبغي عليهم استحضار جانب( سياسي) في أداء تلك الأعمال. هذا الجانب الأخير يعني( المواءمة) بين مطالبات الناس, ومقتضيات السياسات, والتزامات العدالة, وتجفيف منابع عدم الرضاء أو السخط, وتسويق قرارات الحكومة والقوانين. ولقد كانت احدي معضلات العمل التنفيذي لدي التشكيلة الحكومية الحالية عند بدء عملها عدم قدرتها علي التواصل مع الناس, وتصنيع آليات للحوار معهم, وتضفير الضرورة الحكومية مع الاحتياج الشعبي. وكالعادة لقن الرئيس مبارك وزراء هذه الحكومة منذ سنوات درسا مطولا في الأولويات, معلما من شاء أن يتعلم أن الناس أولا قبل كل شئ. وكان ذلك التوجيه الرئاسي بمثابة إشارة تحذير من تحول الوزراء أو كبار المسئولين التنفيذيين إلي( طبقةإدارية حاكمة) بدلا من أن يكونوا خدما للشعب. علي أية حال انطلقت في أعقاب تلك الواقعة التي جرت في اجتماع رئاسي صيفي بالحكومة في قصر رأس التين منذ أعوام عمليات تحرك كبير ميداني وإعلامي, لوزراء الدولة في مواقع الانتاج وأقنية التليفزيون, وصفحات الجرائد, مدشنين ما تصوروه عهدا جديدا من التواصل مع الناس و مخاطبة الرأي العام والحقيقة أنني لاحظت منذ تدشين تلك العملية الكبري قدرا كبيرا من عشوائية التحرك, وعدم إدراك حساسية استخدام أدوات أو وسائط إعلامية من دون افراط, أو استيراد صيغ أمريكية وغربية سابقة التجهيز في بناء صورة المسئول(Image), أو هندسة وتصميم ما يسمي المزيج الإقناعي(convince-Mix) في مخاطبة الجمهور يعني بالعربي ومن دون إسراف تنظير أو تقعير تحولت عملية( التواصل مع الناس) وشرح السياسات إلي دعاية مباشرة يقوم بها الوزير لصالح نفسه مستغلا إتاحة الإعلام الرسمي كل منصاته لوزراء الحكومة كيما يقوموا( بالتواصل) مع الناس, وتوضيح ما غمط علي أولئك الناس من أفكار أو قرارات أو سياسات. والحقيقة أن الإعلام الرسمي إلي هذه النقطة قام بواجبه علي النحو الأكمل, ولكن المشكلة كانت في وزراء الحكومة الذين فهموا عملية الاعلام علي نحو خاطئ جدا. رويدا.. رويدا تحول الوزراء الجدد إلي( نجوم) يهتمون( بالصورة) من دون إسباغ نفس الأهمية علي المضمون, واستقدم بعضهم خبراء للعلاقات العامة( علي الطريقة الأمريكية) ليصمموا ظهوراتهم الإعلامية بدءا من الابتسام إلي تسريحة الشعر, إلي إلقاء نكتة مفتعلة وسط الحديث, إلي الإدعاء الزائف بالتحلي بالروح الشعبية. الموضوع خرج في تلك المرحلة الأولية جدا من حيز العمل السياسي إلي مربع التجميل والزواق, وهو أسلوب عادة قصير العمر جدا لا يستمر مؤثرا في الناس إلي ما بعد البث. وفي تلك المرحلة كذلك بدأ الوزراء, وبالذات الجدد, حشد مجموعات من الإعلاميين والصحفيين حولهم, مغدقين عليهم المكافآت, والدعوات, والسفريات التي قال بعضهم إنها من جيبه. ولست في وارد إثبات صدقية أو زيف مصدر تمويل الميليشيات الإعلامية حول الوزراء, ولا أناقش هنا خطورة مسار تمويل النشاط الإعلامي للوزير( عبر مال خاص أو عام), ولكنني أناقش ما أفضي إليه وضع تخليق أو تصنيع تلك الحاشية الإعلامية والصحفية حول بعضهم من تكريس لفكرة( التجميل) علي حساب فكرة( الحوار أو التواصل مع الناس). وغالي أولئك المسئولون وأوغلوا في هذا الاستعراض الاعلامي مستغلين دعم الاعلام الرسمي لفرصهم في الظهور, وإتاحة مساحات مناسبة لإطلاق رسائلهم الموجهة إلي الجمهور. وبمرور الوقت والمراكمة والاقتصار علي جانب( التجميل) و(إقصاء أو نفي معني الحوار), بدأ أولئك المسئولون يشعرون بالانزعاج من أية كلمة انتقاد في التليفزيون الرسمي, أو أي نزوع لرفض فكرة يطرحونها أو يصرون عليها, ومن ثم انصرف الجمهور عنهم, وانقطع( التواصل مع الناس) إلا مع النذر اليسير منهم الذي امتلك حاسة سياسية, إلي جوار تمكنه التقني. ولأن الوزير في مجتمعات من نوعنا بمرور الوقت وعبر سلوكيات إدارية تقوم علي النفاق والملق يشعر بأن العيب ليس فيه, وإنما في عوامل أخري ليس مسئولا عنها, فقد انخرط بعض أولئك المسئولين في أحاديثهم الشخصية, والتآماتهم الاجتماعية في عملية إلقاء التبعات والمسئوليات علي الاعلام الرسمي الذي لم ينجح في تبليعهم للناس( وهي مغالطة كبري), كما اندفعوا إلي القنوات الخاصة يمارسون ظهوراتهم فيها علي نحو أنتيكة يتحملون فيه من مذيعيها و مذيعاتها تهجما مسيئا. ماداموا في نظرهم جسرا مفترضا إلي الشعبية بالنظر إلي غوغائية خطاب تلك الأقنية, والتزامها التحريض والتهييج. يعني مثل أولئك الوزراء تصوروا أن الاعلام الخاص والجرائد الخاصة يمكن أن يكونوا سفينة نوح التي تقلهم إلي بر الأمان والجماهيرية, ونسي أولئك المسئولون أن مسئولية الحكومة تضامنية, وأن ظهورهم في وسائل الاعلام لا يتعلق بالدفاع عن أداء كل منهم لوحده, وإنما عن أداء الحكومة بأكملها, وتطور الأمر في هذا الملف الغريب إلي تخصيص الوزراء لنسب كبيرة من اعلانات وزاراتهم كيما تظهر في أقنية خاصة وجرائد خاصة جل همها هو الهجوم علي الحكومة بالحق أحيانا, وبالباطل أحايين.. يعني بات بعض وزراء الحكومة ممولين كبار لنشاط إعلامي يناهض الحكومة, متصورين أنهم بذلك يأمنون شر تلك الوسائل علي نحو شخصي أيضا. وبالطبع لست ميالا كما أكرر دائما إلي الدخول في دائرة استقطاب بين الاعلام الخاص والاعلام الرسمي, أو بين الصحافة الخاصة والصحف القومية, ولكنني ضد الاستخدام غير الرشيد لكل أنواع الوسائط الاعلامية تحت عنوان:( التواصل مع الناس) الأمر الذي يهدد تلقائيا فرص النظام في شرح سياساته, أو خلق تراض شعبي حول ما يستحق منها, ويحول الاعلام إلي مساحات إضاءة غامرة لشخوص الوزراء هدفها( التلميع الشخصي), وليس( الحوار مع أفكار الناس ومطالبهم و حتي احتجاجهم ورفضهم), بل أغامر وأقول أن كل الوزراء في حكومتنا السنية تحولوا إلي وزراء اعلام يعني كل واحد يصنع أو يطبخ إعلامه لنفسه وبنفسه, الأمر الذي يضرب اعلام الحكومة في مقتل, لأنه يفكك خطته, ويحولها إلي عملية دعاية رخيصة جدا لأفراد, ولا يخدم الأهداف العامة للأداء التنفيذي الرسمي. صرنا نري الوزير من أولئك منتشرا علي صدر صحيفة, وظهرها, وسيفها أو جنبها, في أخبار صممت بغرض الترويج الشخصي, وبتنا نري الوزير الواحد مرتين أو ثلاثا كل يوم علي أقنية مختلفة, ليس لشرح سياسات الحكومة, ولكن في برامج أقرب إلي ما تظهر فيه الفنانات متحدثات علي نحو لذيذ ونميس عن أمورهن الشخصية, وأغفل أولئك أجمعين أن هناك ما يعرف في الاعلام بالتأثير الضار لجرعات الظهور الزائدة(Over-dosage). كل شئ ينبغي أن يكون بحساب. ثم إن هناك خطرا من ذلك الظهور المغالي فيه وهو( حرق) المسئول, وبالتالي يفتقد إلي المصداقية حين يصعد إلي منصة إعلامية لمخاطبة الجمهور في ملف عام, كما لا يحقق تجاوب أفراد الجمهور الذين هلكهم ذلك المسئول باحتلاله كل تلك المساحة في وسائل الاعلام عمال علي بطال. ونحن نعرف أن عددا من الوزراء هم من رجال الأعمال, وسبق لي أن طرحت وجهة نظري في نتاج تجربة احتلالهم للمقاعد الوزارية.. ولكن ما يعنيني هنا هو ارتباطهم بمجتمع بارونات الاعلام الخاص من رجال الأعمال كذلك( لأنهم الامتداد الطبيعي لهم), والذي ينبغي ألا يعني انتقادهم للصحف القومية والاعلام الرسمي في كل مجالسهم الخاصة, أو إعلان كل منهم نفسه سلطة إعلامية مستقلة ذات سيادة لها علم وجيش, بعيدا عن توجيه وضبط وزير الاعلام المسئول, كما لا ينبغي أن تعني علاقة الوزراء رجال الأعمال, ببارونات الاعلام الخاص من رجال الاعمال استجابات اولئك الوزراء المتواصلة لرغبات بارونات الاعلام الخاص وتسويق مصالحهم والتعبير عنها.. وأذكر هنا لهواة الاستعباط السياسي أن صحفيا عربيا صديقا أمدني مؤخرا ببعض أوراق رسمية صدرت في دولة عربية شقيقة تمنع وزارات الدولة من الاعلان في الصحف والتليفزيونات الخاصة والعامة حفاظا علي شرف وعفاف الاعلام ومنعا لشراء ذمم الصحفيين والاعلاميين, وهو ما يناقضه عندنا السقوط المشين في مشهد العلاقة بين رجال الأعمال والوزراء وإعلام كل منهم.. وربما أذكر هنا بسرعة للتدليل أن رئيس تحرير احدي الصحف الخاصة في مصر يتقاضي مكافآت شهرية من ثماني وزارات تتجاوز كل منها مبلغ العشرين ألف جنيه!! شفنا الناس يصدقون الرئيس, لأنه ببساطة صادق, ولأنه يستخدم الاعلام بحساب في توصيل ما يجب للناس من معلومات, أو للدفاع عن مصالحهم, أما الوزراء الذين فهموا خطأ زجره لهم بضرورة التواصل مع الناس علي أنه تواصل من أجل منظرتهم الشخصية, فإن عليهم بيقين أن يفهموا أهمية ترشيد الظهور ودقة تصميم الرسالة الاتصالية والنأي عن الذاتي والاقتناع بأنهم الآن ليسوا جزءا من مجتمع رجال الأعمال الذي ينتمون إليه, ولكنهم جزء من بلد علي بعضه له تراث وتاريخ سياسي طويل, يرفض أن يتحول الوزراء إلي طبقة إدارية حاكمة, ويري أولئك الوزراء خدما للشعب.