مع نهاية كل عام, تهتم الدوريات العلمية العامة والمتخصصة بتقديم كشف حساب هذا العام العلمي والتكنولوجي, وكثيرا ما تقرنه بمراجعة ما تحقق من توقعاتها التي ذكرتها في نهاية العام الذي سبق وما تنتظر حدوثه في العام الذي يليه. ولأن هذا الحصاد الثري يتاح مجانا علي مواقع الدوريات المعنية بالإنترنت, فإنني أدعو القارئ المهتم إلي الرجوع إليه في مواقعDiscoverScienceNewsScience وغيرها, وانتهز الفرصة لأكرر دعوة القائمين علي أمر البحث العلمي في مصر للقيام بعمل مماثل علي المستوي الوطني لنستطيع تقييم الإنتاجية العلمية وتحليل الفجوة وتحفيز وتمكين الأفراد والمؤسسات, وفقا للقدرة علي الانجاز والعطاء. سنؤكد بذلك أن العلم ليس بضاعة مستوردة فقط, وهذا أمر مهم لزيادة عنايتنا به ودعم علمية المجتمع الذي يحتضنه. بعد هذا الاستطراد نعود إلي حصاد2009, لنذكر أولا أن هذا العام قد سمي بعام الفلك والتطور, فهو عام الفلك, لأنه يؤرخ لمرور أربعة قرون علي رصد جاليليو للفضاء بتليسكوبه الشهير, ولا مجال هنا لذكر إجباره علي إنكار آرائه, ثم رد اعتباره بعد مئات السنين. لقد علمنا جاليليو التخلص من جمال الوهم والتمسك بجمال الحقيقة!!.. لقد كنا نعتقد أن الأرض في مركز الكون, وأن الشمس تدور حولها, وجاء كبورنيكوس وجاليليو ليبددا هذا الوهم الجميل.. فالأرض ليست في المركز, وهي التي تدور حول الشمس, وموقعها هذا هو الذي جعلها تحتضن الحياة والإنسان, وهذا هو ما نعنيه بجمال الحقيقة. أما اعتبار2009 عام التطور أيضا, فذلك لأنه يؤرخ لمرور مائتي عام علي ميلاد داروين ومائة وخمسين عاما علي صدور كتابه أصل الأنواع, باعتباره أشهر الكتب التي ألفها الإنسان, وللحق, لم ترفض الكنيسة الغربية الداروينية, لكن الاتجاه المعادي لها في أمريكا بالذات مازال حاضرا, رغم أن التطور يحدث في معاملها بتطبيق الهندسة الوراثية, التي تتصدي لحل الكثير من مشاكل الصحة والدواء والغذاء والبيئة. ومع الاحتفاء بذلك, يجب تأكيد التمسك بقواعد الأمان الحيوي والأخلاقيات ومنظومة القيم المستمدة من الدين في هذه التطبيقات, دون أن يعني ذلك معاداة العلم وتقدمه, ولكن ضبط أدائه, ليصير بحق داعما لجمال الحقيقة ومتجاوزا لجمال الوهم ونافعا للبشرية. وبالإضافة إلي هذا الجانب الاحتفالي بجاليليو وداروين الذي ميز2009, شملت قائمة انجازاته العلمية والتكنولوجية قائمة طويلة لا مفر من التعامل معها بشكل انتقائي, اخترت في مقدمتها ثلاثة أحداث ناقشت الدوريات والدوائر العالمية علمية رد فعلنا المصري والعربي حيالها: أول هذه الأحداث اكتشاف حفرية قبل بشرية عمرها أكثر من أربعة ملايين عام, وهي الحفرية آردي, لقد ذكرت إحدي القنوات العربية أن هذا الاكتشاف قد أسقط الداروينية, وبصرف النظر عن الموقف من داروين, هذا أمر أبعد ما يكون عن الحقيقة. قالت سيانس إن من بيننا من هلل لذلك, وشكك في عمر كوكب الأرض أيضا, إنني من المعتقدين بأن هذا الكشف قد تمت المبالغة في معالجته الإعلامية رغم أهميته, ولكن يؤلمني التعامل غير العلمي معه, ولا مجال هنا للتفاصيل المتخصصة التي لا تهم أغلب القراء. والحدث الثاني هو فيروس العام كما سمي, الذي أزعج البشر رغم ضعفه النسبي. لقد انتقدت بعض الدوريات أحد القرارات المصرية في مواجهته( ذبح الخنازير), وهو أمر تمت مناقشته في سياقنا المحلي, وإن كانت الأمانة تقتضي رصده. ولابد هنا أن نذكر ما أحدثته المعالجة الإعلامية للتطعيم الجاري عالميا من بلبلة عند الناس, وندعو إلي اللجوء إلي المتخصصين الميدانيين في مواجهة الأوبئة والطب الوقائي دون غيرهم. ثالث الأحداث يتمثل في قمة كوبنهاجن للتغير المناخي ونتائجها الهزيلة. إن تغير المناخ لا يكفي لمواجهة تغير الخطاب الأمريكي أو الصيني, ووعودهما المؤجلة.. ويهمنا هنا استعدادنا لما يسمي السيناريو الأسوأ, الذي يتصور تأثر أكثر من عشرة ملايين مصري, وعلميا يجب أن نتساءل: إلي أي مدي استعدت بلد مصطفي طلبة والقصاص لذلك؟ وبجانب الثلاثة الكبار السابق ذكرهم, هنالك العديد من الانجازات المضيئة, نذكر منها: نجاح العلاج الجيني في ثلاثة أمراض وراثية( أحد أمراض العمي النادر خلل في المخ أحد أمراض نقص المناعة الذاتي), اكتشاف المزيد من عدم التطابق في التوائم المتطابقة نتيحة تغيرات في مادة الوراثة, بما يؤكد أهمية التنوع في البشر, اكتشاف أن مادة الراباميسين تزيد متوسط عمر الفئران, التطبيقات التكنولوجية لمادة الجرافين المكونة من طبقة من ذرة واحدة من الكربون استخدام النانوتكنولوجيا والورق في صناعة بطاريات جديدة تماما, الإمساك بالضوء المجمد في فقاعة من الصوديوم لمدة ثانية ونصف الثانية, وهي مدة كافية لأن يدور الشعاع حول الأرض عشر مرات, بما يوحي بمزيد من الثورة في الاتصالات وفيزياء الكم, اكتشاف الثلج( الماء) بالقمر والتفكير في توظيفه بالنسبة لرواد الفضاء, اكتشاف كوكب يشبه الأرض يجعل الحديث عن وجود كائنات أخري في الفضاء مستمرا, رصد الأحداث الخاصة بميلاد النجوم... إلخ. ولابد هنا من إعادة تأكيد أن هذه القائمة القصيرة انتقائية تماما, وهي مجرد مشهيات للقارئ لعله يطلب بعدها المزيد من مصادرها. ويهمني هنا تكرار الدعوة إلي تضافر البحث العلمي والتعليم والإعلام في تقديم ثقافة علمية تزيد من علمية المجتمع, والبدء بعمل جاد لحصر الحصاد العلمي عندنا, واعتبار التقدم العلمي والتكنولوجي الهادف والمخطط, المدعوم بالثقافة العلمية القائمة علي نشر المنهج العلمي والتفكير النقدي في المجتمع, أحد الأهداف الوطنية التي لا نختلف حولها.