انتهي الاستفتاء علي تعديلات الدستور التركي التي لم تعد مثيرة للجدل وهو التوصيف الذي صاحبها منذ أن طرحت في بدايات العام الحالي. فقد قال الشعب كلمته وبالتالي لابد من إحترام إرادته غير أن هذا لا يمنع المراقب من قراءة متأنية لمجمل المشهد السياسي في ضوء ما تحقق علي مدي الأشهر القليلة الماضية. وكذا النتائج ودلالتها. ففي البداية نحن أمام مفارقة ذات مغزي وتعود إلي يونيه الماضي. فما أن اعلنت الهيئة العليا للانتخابات تحديد الثاني عشر من سبتمبر موعدا لإجراء الاستفتاء علي التعديلات الدستورية التي تبنتها الحكومة التركية إلا ووجدنا موجة هائلة من الغضب وقد أنطلقت من أروقة العدالة والتنمية تندد بهذا القرار الغريب والذي اعتبره زعيمه رجب طيب اردوغان مسيسا ومعرقلا للديمقراطية في حين أن التوقيت هذا خدم الحزب الحاكم كثيرا.. فقد كان يكفي تذكير المواطن المتردد بعضا من المآسي التي حلت بالاناضول جراء الانقلاب العسكري في مثل هذا اليوم قبل ثلاثة عقود حتي يسرع ويحسم تردده ويقول نعم وهذا ما حدث بالفعل للكثيرين وهو مايعني أنه لو تم الاقتراع بالسرعة التي ارادها اردوغان لكانت هناك شكوك في تجاوز حاجز ال50%. ملمح آخر بدا مثيرا ومرعبا في آن وتمثل في ما أفرزته عملية التصويت فقد ظهرت البلاد وكأنها قطعت إلي ثلاث قطع وفقا لما ذهبت إليه الميديا التركية ذاتها علي إختلافها دون إستثناء. القطعة الأولي وهي الأعم وشملت معظم الاناضول والذي غلبت في مدنه كلمة نعم للتعديلات الدستورية مع ملاحظة أنه رغم تأييد أنقرة واسطنبول إلا أن نسب الموافقين53% في كلاهما سببت صدمة لقادة العدالة الذين كانوا يتوقعون تجاوزها حاجز ال60%. والثانية المعنونة بمنطقة بحر ايجة في الغرب بالاضافة إلي بعض مدن الجنوب التي تشارك شواطئ المتوسط وفيه كانت كلمة لا هي السائدة أما القطعة الثالثة والأخيرة فهو الجنوب الشرقي البعيد ومناطقه المتاخمة لكل من العراق وإيران فقد اعلن العصيان ومقاطعة الاستفتاء بإستثناء إقليم' تونجلي' الذي ذهب معظم سكانه للصناديق متسلحين ب' لا' الرافضة. وهنا السخرية اللاذعة فاردوغان في بدء مسيرته الترويجية لحزمة التعديلات أتخذ من تلك المدينة نقطة انطلاق له تفاؤلا وتيمنا بأهلها الطيبين غير أنهم خذلوه وبنسبة وصلت إلي95% وهو ما ترك بدوره علامة استفهام كبيرة حول الآلاف من الجماهير الذين اكتظ بهم ميدان المدينة فمن أين جاءوا بقبعاتهم البيضاء التي نسج عليها كلمة نعم وكيف احتشدت الحشود الهائلة غير عابئة بلهيب الشمس لتتمركز لساعات في قلب ديار بكر ذات الأغلبية الكردية منتظرة سماع خطبة رئيس الحكومة ولا تفسير في ذلك سوي أنه' التجييش والتعبئة اللتان تحركهما ألة دعائية ضخمة تؤازرها صحف وقنوات تليفزيوينة علي مدار الساعة. ورغم أن نتيجة الاستفتاء بالكاد وصلت إلي58% إلا أن زعيم العدالة الحاكم حولها إلي إنتصار ساحق متجاهلا مؤقتا علي الاقل شكل التقاطعات بالاناضول ما بعد الاستفتاء وما تحمله من دلالات بل راح ينسج خطابا عكس في النهاية صراعه الدفين رغم جهده الجهيد في ألا يظهره تجاه العلمانيين الذين ناصبوه العداء إبان توليه بلدية أسطنبول في مستهل تسعينيات القرن المنصرم وها هو ينعت من قالوا لا لحزمة التعديلات بأنهم من مؤيدي الانقلابات العسكرية وهو ما ينذر بحالة من الاستقطاب قد تكون سمة الحياة السياسية خلال الفترة القادمة' فطالما لست معنا فأنت مثلك مثل هؤلاء الذين شرعوا في التخطيط بمؤامرتي الانقلاب الارجنكون والمطرقة ضد الحكومة'! وفي سياق السرعة والعجلة تتواترت الانباء لقد ان الاوان لتغير الدستور برمته الذي وضعه العسكريين عام1982 كي تنتقل البلاد إلي المعايير الاوروبية وهنا تتجسد سخرية ثانية فالاتحاد الاوروبي في صباح يوم الاستفتاء رفض ان يعطي ريقا طيبا لأحمد دواد اوغلو وزير الخارجية فما كان منه أن يعبر عن ضيقه الشديد لبطء المفاوضات مع بلاده بشأن نيل عضويتها التي تبدو بعيدة المنال. بقي حلم آخر استعد له أردوغان جيدا وهو تبوؤ' الكشك' حيث مقر رئاسة الجمهورية في ضاحية شنكاياي بوسط انقرة غير أن رئيس الحكومة ذا الصلاحيات الواسعة يعلم جيدا أن منصب الرئيس ما هو إلا رمز دون نفوذ سياسي حقيقي ومن ثم ما فائدته من هنا لابد تحويل النظام السياسي من البرلماني إلي الرئاسي ولتكن تركيا مثل الولاياتالمتحدةالامريكية وليصبح أردوغان أوباما آخر في الاناضول. الطريف أن معاونيه راحو يرددوا في كافة وسائل الإعلام أن هذا النظام أكثر فائدة للبلاد دون أن ينتبهوا إلي أن الأخيرة لم تكن لتصل إلي ما وصلت إليه مقارنة بجوارها البعيد والقريب إلا بفضل النسق البرلماني في الحكم فما هي الحكمة أذن الإجابة يمكن أن نجدها لو عدنا إلي سطور كتبها الصحفي البارز في ميلليت جونيري جيفا أوغلو في عموده المعنون' اليوم' بتاريخ18 أغسطس الماضي وفيه بين أن زعيم العدالة لم تعد تكفيه السنوات السبع كرئيس وزراء بل يريد رئاسة الجمهورية وبفترتين كل منها خمس سنوات أي يرغب في أن يقال عنه إنه حكم17 سنة متواصلة في تجربة ديمقراطية فريدة تحاكي الباديشاه في تركيا الكمالية.