كلنا سمعنا حكايات من آبائنا وأجدادنا أن الزمن غير الزمن, وأين هي أيام زمان حيث كان زوج الحمام بخمسة قروش والبيضة بمليم والمليم لعلم الأجيال الجديدة هو أحد مكونات القرش, فالقرش هو عشرة مليمات, وأنا طبعا لم أر هذه الأيام, وكنتش مع أبناء جيلي نضحك علي هؤلاء العواجيز. ومرت الأيام الأصح السنون والعقود ووجدت نفسي وكذا زوجتي نتحدث كما أباؤنا وأجدادنا. فأنا من جيل كان فيه ثمن الجورنال الصحيفة قرش صاغ, ورغيف العيش نصف قرش( تعريفة), وزجاجة الكوكاكولا قرش ونصف ثلاثة تعريفة والبيضتان بثلاثة تعريفة أيضا, وما يدفع لنادي السيارات هو قرش صاغ وربما قرشان. ولسوء حظي أو ربما لحسنه أمضيت فترات طويلة في الفترة الأخيرة خارج مصر, وكنت كلما أعود اليها في الإجازة الصيفية أصاب كل مرة بصدمة ارتفاع الأسعار, فما كنت أعتقد أنه يساوي عدة قروش أصبح يباع بالجنيهات, إن جنيه اليوم هو مجرد قرش صاغ, ويبدو أن وزارة المالية قد أدركت هي الأخري هذه الحقيقة, فبدلا من الجنيه الورقي الذي يشارك الفئات المحترمة نسبيا من فئات المائة والمائتي جنيه, قررت اصدار الجنيه المعدني, كما كان القرش قديما. فالجنيه لم يعد حقيقة من فئة النقود المحترمة, إنما أصبح مجرد فكة, ولم يأت قرار وزير المالية من فراغ, فقد سبقه أولاد البلد بمالهم من حس صادق وحكمة عميقة فهم يطلقون منذ فترة اسم البريزة أي العشرة قروش علي ورقة الجنيهات العشر, والريال أي العشرين قرشا القديمة علي ورقة العشرين جنيها, وقد كان للريال القديم شنة ورنة حتي أن أنور وجدي خصص له, في أحد أفلامه أغنية مع فيروز معانا ريال. وقد اكتشف الضمير الشعبي أن الجنيه الحالي مدع ومحتال, وأنه في حقيقته ليس أكثر من قرش صاغ. وقد يبدو في هذا الاستخلاص خفة وتسرع فلا يجوز الانتهاء الي نتائج سريعة عن مستوي الأسعار بمجرد ملاحظات فردية هنا وهناك فلقياس مستوي الأسعار أساليب احصائية مستقرة, باختيار سلة السلع المناسبة ومتابعة تطور أسعارها كما يظهر في احصاءات الأرقام القياسية للأسعار. ولكن من ناحية أخري, فإن هذه السلع المشار اليها هي سلع أساسية يشتريها جميع أو معظم المستهلكين, فهي نوع من المعيار أو الأساس للسلع الأخري, فإذا كانت اسعارها قد ارتفعت مائة مرة, فالأغلب أن هذا هو المعدل العادي لارتفاع الأسعار. وقصة ضمور قيمة الجنيه أو ارتفاع الأسعار هي ما يطلق عليه عند الاقتصاديين التضخم, وهي قصة الإدارة الاقتصادية المصرية, أو بالأحري سوء هذه الإدارة, وقد صاحب التضخم أوضاع الاقتصاد المصري خلال الأعوام الثلاثين أو الأربعين الماضية بدرجات متفاوتة. ولن ألجأ هنا الي الإحصاءات المنشودة, وأكتفي بسرد مراحل ارتفاع الأسعار كما عايشتها خلال نصف القرن المنصرم. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وما شاهدته من ارتفاع كبير في الأسعار وإن في ظل نظام الأسعار الجبرية للسلع الأساسية والتوزيع بالبطاقات عادت الأسعار للاستقرار بعد الحرب طوال الخمسينيات. وعرفت مصر أول موجة لارتفاع الأسعار في بداية الستينيات مع انخفاض محصول القطن في1962 ثم جاءت الحرب في اليمن ثم قطع المعونة الأمريكية في1964, وفي أثر حرب1967, ورغم ما ترتب عليها من آثار مدمرة علي الاقتصاد المصري( إغلاق القناة, فقدان آبار البترول, تهجير سكان القناة), فقد حرصت الحكومة لتهدئة المشاعر الشعبية علي ضمان استقرار الأسعار وتوفير السلع الاستهلاكية, وتوسعت الحكومة آنذاك في استيراد المواد الغذائية من دول الكتلة الشرقية مع طرحها في الأسواق بأسعار معقولة. ولذلك لم يترتب علي حرب1967 ارتفاع ملحوظ في الأسعار, وإنما انعكست آثار هذه الحرب علي انخفاض الاستثمارات وتراجع أعمال الصيانة للمنشآت العامة. فالحكومة كانت بالغة الحساسية لعدم إثارة الجماهير بارتفاع اسعار السلع الاستهلاكية, وكانت النتيجة استقرارا نسبيا في أسعار هذه السلع مع تدهور في الاستثمار. واستمرت الأحوال علي نفس المنوال حتي منتصف السبعينيات, حيث تدفقت الأموال( العربية) وفتح باب الاستيراد مما أدي الي ارتفاع الاسعار وبوجه خاص في أسعار أراضي البناء. وفي النصف الثاني من الثمانينيات مع بداية حكومة عاطف صدقي عرفت مصر أوضاعا اقتصادية متردية حيث بلغ العجز في الموازنة ما يقرب من20% من الناتج الاجمالي, وهو من أعلي المعدلات المعروفة عالميا, وجاوز معدل التضخم السنوي18%, وارتفع حجم الدين الخارجي ليجاوز50 مليار دولار, وعجزت الحكومة في ذلك الوقت عن تسديد الديون الخارجة. وجاءت حرب الخليج الأولي مع غزو العراق للكويت. وتدخل مصر وسوريا الي جانب القوات الامريكية وحلفائها, مما أدي إلي مكافأة مصر بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي في برنامج للتثبيت النقدي, مقابل إلغاء نصف الديون العامة الخارجية( أكثر من عشرين مليار دولار) كما تنازلت الدول العربية عن ودائعها بمصر( حوالي7 مليارات دولار) وأعفت الولاياتالمتحدة مصر من ديونها العسكرية(7 مليارات دولار), فضلا عما تدفق من معونات ومنح عربية( اكثر من3 مليارات دولار). وهكذا بدأ نوع من الازدهار الاقتصادي في بداية التسعينيات في النصف الثاني من فترة عاطف صدقي. وفي النصف الثاني من التسعينات جاءت حكومة الجنزوري ومعها إحياء التفكير في المشروعات الكبري في مقدمتها توشكي مع تأخر الحكومة في دفع مستحقات شركات المقاولات, ثم توسعت البنوك في إقراض العملاء بقروض بمئات الملايين, وبدأت بذور أزمة البنوك والتي انفجرت في وقت لاحق عند تعثر الكثيرين من هؤلاء العملاء. ومع حكومة عاطف عبيد توسعت الحكومة في مسيرة الخصخصة, وبدأت تظهر طبقة جديدة من الأثرياء الجدد والتوسع في بيع أراضي الدولة لهم ولغيرهم, مع قرارات عشوائية في سياسة أسعار الصرف, وبدأت تستشري في نفس الوقت فوضي الأجور والمرتبات. وهكذا استمر ارتفاع الاسعار ولم يقتصر ذلك علي السلع الاستهلاكية بل تزايدت المضاربات علي الاراضي والعقارات, والي حد كبير في أسواق الأوراق المالية كذلك. ومع حكومة نظيف تحققت بعض الاصلاحات المالية في مجال الرسوم الجمركية وضرائب الدخل, ومع ذلك استمر العجز في الموازنة مع تزايد حجم الدين المحلي, واشتعال أسعار الأراضي والعقارات, وتقنين فوضي الاجور والمرتبات. وكانت نتيجة هذه التراكمات هو استمرار تدهور قيمة الجنيه وقوته الشرائية سنة بعد أخري حتي كاد يعادل القرش صاغ القديم. ولذلك طرأت علي ذهني فكرة لماذا لانستبدل الجنيه المصري الغلبان بإصدار جنيه مصري جديد ومحترم, يعادل مائة جنيه قديم. ألم يفعل ذلك الجنرال ديجول بعد عودته الي السلطة في1958, حيث عمد بعد قليل من توليه السلطة الي إصدار فرنك جديد يعادل مائة فرنك قديم. ولم تكن المسألة عند ديجول هي استبدال اسم جديد باسم قديم, وإنما هي إعلان انتهاء مرحلة التهاون في السياسة الاقتصادية والعمل علي حماية قيمة العملة واستقرار الأسعار. لقد عرفت فرنسا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية فترة شديدة القسوة أوقعت عملتها في أزمة شديدة, فأراد ديجول أن يبدأ عصرا جديدا من المسئولية النقدية بحماية قيمة العملة. وبدأ بهذا الإجراء الرمزي, إصدار الفرنك الجديد وبالفعل استعادت فرنسا خلال عصر ديجول الثقة في اقتصادها واستمرار تقدم هذا الاقتصاد. وكانت المانيا قد فعلت نفس الشيء بعد التضخم العظيم بعد الحرب العالمية الأولي, كما استبدلت اسرائيل التشكيل بآخر جديد بعد تدهور قيمته. فاستبدال العملة ليس بدعة. ولكن مجرد تغيير الاسم لايعني حلا, والحل هو في الإجراءات الأخري المكملة, وماتغيير اسم العملة إلا رمز علي بدء سياسة أكثر مسئولية وجدية. ومشكلة ارتفاع الاسعار هي مشكلة في صلب السياسة الاقتصادية. ومع ذلك فإن هناك جانبا آخر لايقل خطورة, وهو فوضي سياسات الاجور والمرتبات خاصة في الحكومة ومؤسساتها, وهو ما أود التركيز عليه هنا. فارتفاع الاسعار محنة لاصحاب الدخول الصغيرة. ولذلك فإن الحديث عن الاسعار يجر الي الحديث عن الاجور. والأجور في مصر ليست مرتفعة أو منخفضة, ولكنها في حالة فوضي عارمة أغلبها منخفض وبعضها بالغ الارتفاع. فهناك من يعمل في مؤسسات للدولة المصرية من يحصل علي دخل يجاوز ضعف مايحصل عليه رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية. لقد ظهرت هذه الفوضي نتيجة تجاوزنا عن مفهوم المرتب الأساسي. فالمرتب لم يعد يمثل دخل العامل أو الموظف, وإنما هناك مسميات أخري اسمها بدلات ومكافآت وحوافز ومشاركة في الأرباح, بل أن هناك شيء اسمه مظاريف. والمشكلة ليست فقط في فقدان المرتب لمعناه, وإنما لأن هناك عشوائية كاملة في توزيع هذه المزايا. فأنت تجد في نفس الهيئة أو المؤسسة مدير يحصل علي عدة أضعاف ما يحصل عليه مدير زميل لايقل عنه كفاءة. وقد صاحب ذلك أمر آخر لايقل خطورة هو عدم الشفافية, فلا أحد يعرف تماما ما يأخذه الآخرون. وكانت مرتبات الحكومة تتميز بأنها معلنة ومعروفة, وهي محددة بالقوانين واللوائح بالنسبة للجميع. وقد بدأت سياسة السرية في المرتبات, بمقولة أن هذا هو أسلوب القطاع الخاص لدعم الكفاءات وتشجيعها. أما في الحكومة فقد أصبحت هذه السرية وسيلة لدعم المحسوبية والشللية. ماذا لو أصدرنا الجنيه الجديد بواقع جنيه جديد مقابل مائة جنيه قديم مع العودة لكادر المرتبات القديم في الحكومة ومؤسساتها بنفس الأرقام السابقة, وإنما بالجنيهات الجديدة, وإلغاء كافة المسميات اكتفاء بالمرتب وحده بلا ملحقات. والله أعلم. المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي