في منتصف خمسينيات القرن الماضي، بشارع الاميرة عفت وما يجاوره من شوارع وازقة وحارات بشبرا المظلات، تفتحت كل حواسي ومناطق ادراكي ومشاعري علي جو نقي جميل كنا نعايشه ونعيشه في شهر رمضان الكريم، كانت احبال الزينة المصنوعة من قصاصات الورق الملون تربط بين شرفات المنازل علي جانبي الشارع، لم نكن نسمع في هذا الزمن عن اي تفرقة بغيضة مستوردة تعرف من خلالها الطفل المسلم من الطفل المسيحي في الشارع فكلنا نحمل الفانوس ابو شمعة بعد الافطار، كلنا نجوب علي المحلات والمقاهي في الحي نغني لرمضان ما حفظناه من اهالينا، أو ما كانت اذاننا تلتقطه من الراديو في مقهي عم عجايبي، او في محل البقالة المجاور للمقهي الذي يملكه عم لبيب، وهم من الاسر المسيحية العريقة في الشارع، لكن عم لبيب كان يستقبل شهر رمضان بحفاوة تجعله ينصب صوانا متسعا حول الدكان يرص فيه صناديق الزبيب والمشمشية واللوز والفستق والسوداني واجولة الخروب والعرقسوس، واكياس كبيرة لجوز الهند المبشور، والاجولة التي تحتوي علي كل انواع التمور، من سقفية هذا الصوان تتدلي عناقيد التين المجفف، وكل انواع واحجام الفوانيس، قرش واحد نعطيه لعم لبيب كان يعطيني مقابله قرطاسا يحتوي علي تشكيلة منوعة من مكسرات رمضان!!! قد لا يصدق القاريء العزيز من ابناء هذا الجيل ما اقول ويظن اني ابالغ، أو قد يعتقد ان القرش بتاع زمان قرش تملؤه البركة، او انه قرش سحري لكي يجلب كل هذه الاشياء، انا نفسي عندما استرجع هذه الايام اتعجب من تلك البركة التي عشناها في هذا الزمن الذي كان يحمل كل ملامح الطيبة والنقاء والقناعة والتدين الحقيقي المنعكس في السلوك، لم يكن هناك جشع وطمع لدي التجار سواء كانوا من الكبار او الصغار، بقرش تعريفة تحصل علي كيس ورقي كبير من بائع حب العزيز المتجول يكفي ثلاثة اشخاص! اتذكر هذا كلما مررت اليوم امام المحلات التي تعرض التمور والياميش، ترعبني الاسعار الموضوعة علي الاجولة والصناديق ولفات قمر الدين، هذه ليست اسعارا حقيقية لتلك السلع، وراء تلك الاسعار استغلال يتعارض مع روحانيات الشهر الكريم، تذهلني القفزات الجنونية التي لحقت بكل السلع الغذائية قبل حلول الشهر الكريم بثلاثة ايام، لقد تمردت " ام العيال " علي المصروف الشهري، رفضت ان تتسلمه لانها لم تجد عندي اذن صاغية كلما شكت لي من مارثون قفزات الاسعار، اتخذت قرارها الصارم بأن ادبر انا حال البيت بنفس المصروف، قبلت التحدي، وفي اليوم الاول من استلام المهمة وبعد عودتي مذهولا من السوق، سدت "ام العيال" اذنيها بسماعات "الاي فون" لكي لا تسمعني وانا احدث نفسي عما نعيشه من جنون غير مسبوق بسبب انعدام الرحمة لدي التجار الذين لا هم لهم إلا تحقيق الثراء الفاحش، ومص دماء الغلابة، بغض النظر عن ضرورات شهر الرحمة والتكافل والتعاطف والتآخي التي تفرض علي الجميع ان نستغل هذا الشهر الكريم في غسل ما نرتكبه من ذنوب . من عم لبيب اشتريت في منتصف الخمسينات قرطاس المكسرات بقرش، بعشرة مليمات فقط لاغير، والأمس اشترت لابنتي ربع هذا القرطاس من الفسدق بعشرة جنيهات، اي بألف قرش، أي بعشرة آلاف مليم، وكل رمضان وانتم بخير.