حلوان الحمامات.. مدينتي الصغيرة.. في أربعينيات القرن الماضي تفتحت عيناي بين ربوعها وازاهيرها.. الحرب العالمية وقد وضعت اوزارها وانا أقترب من سن السابعة منزلنا الصغير في الشارع المؤدي الي الحديقة اليابانية كنت وشقيقتي نخرج في صحبة والدي ووالدتي (رحمهما الله) بعد غروب الشمس للتنزه عبر الطريق المؤدي الي الحديقة الشهيرة أرضية الرصيف كان يتفنن أصحاب المباني في رصفها ببلاط الموزايكو الملون والمصقول كأنه السيراميك الذي لم يعرف في تلك الفترة.. أصص النبات والزهور تتدلي من الشرفات، اما الشارع فهو مظلل بالأشجار علي جانبيه وأعمدة الانارة غاية من الجمال في زخرفتها، عندما نصل لأطراف الحديقة اليابانية هناك أعمدة علي النمط الياباني تضاء ليلا وتحوي سماعات نستمع من خلالها الي إذاعة القاهرة أو بعض من الموسيقي الكلاسيكية.. اما قصورها المتناثرة هنا وهناك والتي تضم الحدائق الشاسعة المساحة والتي تحوي بين جنباتها مئات الأنواع من الاشجار والنباتات النادرة التي تساعد علي نقاء هوائها وطيب رائحتها حيث اشجارالفل والياسمين تعلو افاريز منازلها، لقد كانت حلوان ولعقد لاحق مقصداً لعظماء ومفكري وفناني العصر حيث يقصدونها للراحة والاستجمام أو للعمل الفني أو الأدبي لبعدها عن الضجيج وتمتعها بالهدوء فليس هناك ورش ولا مصانع لتعكير الصفو كما هو الحال في العاصمة (القاهرة). كان بيتنا القريب من الحديقة الشهيرة عبارة عن منزل صغير مكون من طابقين لهما سلم خارجي يؤدي الي الحديقة والبدروم المخصص لسكني الخادم وملحق به مخزن لتخزين احتياجات المنزل من سلع وخصوصا ابان فترة الحرب، البيت يحيطه سياج من الحديد الزخرفي كذا بوابته الرئيسية في مدخله حديقة صغيرة وفي الجانب الايمن توجد عشة لتربية الدواجن من كافة الأنواع ثم يقع الفرن البلدي المبني من الطين خلف المنزل وقد أعد بناء علي رغبة جدتي (عائشة) التي تتولي ادارته والاشراف علي امداد البيت بما يلزم من الخبز والكعك والبسكويت وصواني الطعام والتي تقوم (ام هاشم) باعدادها مرتين في الاسبوع وأذكر »مشنة« العيش الجميل التي تتدلي من سقف قاعة الفرن حيث يقوم (زمجان) الخادم القادم من قنا بتعليقها واحضار الراتب اليومي منها ليوضع في (النملية) وفي مثل هذه الأيام عند اقتراب شهر رمضان الكريم من نهايته بنحو اسبوع تتحول »قاعة الفرن« في بيتنا حينذاك الي ما يشبه »سوق عكاظ« حيث تمتلئ بالصاجات والصواني المخصصة لاعداد كعك العيد وتقوم »ام هاشم« بمساعدة من ابنتها في اجراء أخطر عمليات اعداد الكعك وهي عملية »بث الدقيق« المشبع بالزبد والسمن البلدي لتجهيز عجائن الكعك والبسكويت والغريبة وتركها للتخمر ثم تقطيعها في احجام مناسبة طبقا لكل صنف ثم تدويرها بعد حشوها بالجوز واللوز وغيرهما. يقترب رمضان المعظم من نهايته وتهل بشائر عيد الفطر المبارك وتمتلئ شوارع وحدائق وعيون حلوان الكبريتية بآلاف البشر في حُلل وثياب جديدة والموسيقات العسكرية تعزف مقطوعات موسيقية جميلة واريج الفل والياسمين يعطران الجو (فلا تنسي) أنت في حلوان 5491 وليس الان، لأنك لو ذهبت لحلوان في هذا الزمان فستجد انها حطام مدينة كانت يوماً أعجوبة الزمان تحولت قصورها الجميلة الي أنقاض أو مباني عقيمة وأصبحت شوارعها المظلله بالأشجار جرداء سقيمه واستبدلت نغمات الموسيقي الي صراخ الباعة السريحة اما حديقتها اليابانية فقد أصبحت في حالة غير مرضية كذا جوها الذي كان يوماً مشبعا بروائح الفل والياسمين فقد تحول بسبب مصانعها الي سحب من الدخان اللعين.. لذا كان حزني دفينا عندما زرتها منذ حين وعادت بي الذكريات الي حلوان الحمامات في زمن عدّي وفات.. كاتب المقال : استاذ بجامعة حلوان