جهد كبير مبذول علي المستويين الدولي والإقليمي ومستمر بلا ملل للبحث عن حل للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وليس في مقدورنا في الحقيقة تعميم الجهد الحالي ليشمل' حل الصراع العربي-الإسرائيلي. أو' الصراع الإسلامي-الإسرائيلي' لأن الإجماع العربي والإسلامي لم يرق بعد إلي تصور كامل لشكل العلاقات العربية والإسلامية مع إسرائيل في المستقبل. لذلك كان من الضروري حضور الرئيس مبارك والملك عبد الله ملك الأردن في افتتاحية المباحثات, أولا لمباركة الحدث ودفعه للأمام, وثانيا لإعطاء الانطباع بأن عملية التفاوض تجري في إطار إقليمي أوسع من الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني. ولا شك أن التمسك بمبادرة السلام داخل الجامعة العربية قد أضاف للمفاوضات المباشرة قدرا من الشرعية العربية إذا جاز التعبير. وفي الحقيقة لا يمكن مقارنة ما حدث في واشنطن مؤخرا بتجربة المفاوضات المصرية التي ذهب إليها الرئيس السادات بمفرده فاقدا التأييد العربي والإسلامي, وحتي تأييد وزير خارجيته الذي صاحبه إلي هناك; لكن السادات عاد في نهاية الأمر وبرغم كل الصعاب وقد تحقق له هدفين رئيسيان فيما يخص مصر: السلام والأرض. وخلال الشهرين الماضيين كان من حظي المشاركة في أكثر من مؤتمر وورشة عمل خارج مصر حول عملية السلام, والصراع العربي-الإسرائيلي, وبالتحديد الفلسطيني-الإسرائيلي. والهدف من هذه اللقاءات كان مركزا علي تصور حلول' ممكنة' للقضية الفلسطينية, تلك المعضلة العصية علي التسوية منذ ستين عاما إن لم يكن أكثر. وبطبيعة الحال كانت الحلول المطروحة مواكبة لعالم اليوم وليس الأمس. وفي ضوء ما سمعت ووعيت من تحليل ونقاش يمكنني القول إن الرئيس السادات كان عبقريا في' خطف' السلام المصري-الإسرائيلي من' فم الزمن', وأنه أضاف إلي تاريخ مصر في لمحة بصر ثلاثين عاما كاملة عاشتها مصر مستقلة ونامية وقادرة علي مواجهة تحديات أخري مختلفة ليس من بينها تحدي مهانة الهزيمة والاحتلال. لذلك بدا منذ اللحظة الأولي للمفاوضات الحالية أن سعر السلام مثل كل السلع قد ارتفع مع الوقت, فمن كان يري أن الانتظار نعمة وفرصة, يواجه الآن بحقائق جغرافية وسياسية جديدة علي الأرض, ولولا أن القضية الفلسطينية لها قداسة خاصة في قلوب العرب والمسلمين لنسيها الناس في خضم أحداث11 سبتمبر, وصعود القاعدة, وحربي العراق وأفغانستان, والحروب اللبنانية-الإسرائيلية, ومؤخرا القنبلة النووية الإيرانية التي لم تكن موجودة علي مسرح الأحداث عندما وقعت مصر علي معاهدة السلام. الحلول المقترحة التي طرحت في هذه اللقاءات كانت شحيحة وقليلة العدد, ليس من بينها عودة الضفة الغربية كاملة, ولا القدسالشرقية كلها أو بعضها إلي الفلسطينيين, والمطروح' نظريا' يتراوح بين دولة واحدة كونفدرالية يعيش فيها الشعبان الفلسطيني والإسرائيلي معا لكن تحت اسمين مختلفين أو اسم واحد فقط مثل' إسراطين' علي سبيل المثال كما اقترح العقيد القذافي; وبين دولتين منفصلتين تماما, يعيشان معا جنبا إلي جنب في سلام ووئام, برغم ذكريات الماضي المرة, وضيق المساحة, وانعدام التجانس في الداخل الفلسطيني والإسرائيلي علي السواء. هناك زخم عربي ودولي ملموس لخيار الدولتين برغم الصعوبات الهائلة التي تواجه تحقيق هذا الخيار علي الأرض. فخيار الدولتين المنفصلتين كان دائما هو الحل المفضل منذ صدور قرار الأممالمتحدة بتقسيم فلسطين بين اليهود والفلسطينيين; لكن إسرائيل لا تريد بجوارها دولة فلسطينية, وتري في ذلك مع الوقت تهديدا ديموجرافيا لها. لقد وعت إسرائيل الدرس الساداتي/المصري الذي أخذها علي غرة وحكمة الزمن فيه وما تلاه من إصرار في عهد الرئيس مبارك علي عودة طابا إلي مصر كاملة, فلم تضع ثانية واحدة علي مدي الحكومات الإسرائيلية اليمينية واليسارية في بناء المستوطنات وتغيير الأمر الواقع علي الأرض. أعداد هائلة من المستوطنات انتشرت كالسرطان في الضفة الغربيةوالقدس, مزقت البنية الجغرافية لفلسطين التاريخية بصورة جعلت خيار الدولتين صعبا للغاية بدون إجراء عمليات جراحية معقدة من السهل رسمها علي الورق لكن تنفيذها علي الواقع من الصعب تخيله إلا بحلول مصطنعة خالية من أية مجالات لبناء الثقة والعمل المشترك. وقد زادت صعوبة الموقف بما جري من انقسام في الجانب الفلسطيني نفسه وولاءاته المختلفة علي المستويين المحلي والإقليمي, وعندما سئل إسماعيل هنية مؤخرا عن مستقبل غزة والمصالحة, كان رده' الأولوية الآن ليست لغزة ولكن لإيران' مشيرا إلي إمكانية قيام إسرائيل بضرب المنشآت النووية الإيرانية كما حدث من قبل مرتين ضد العراق وسوريا. وقد يبدوا المنظر مأساويا في أعين كثير من الناس وكأننا نودع فلسطين إلي القبر, لكن الأمر ليس كالحا بهذه الدرجة إذا توفرت قدرة تاريخية لقراءة مختلفة للواقع الحالي, وهذا ما فعلته السياسة المصرية البراجماتية من قبل, فبعد الحديث' في مصر' عن إزالة إسرائيل في عهد عبد الناصر صار الحديث عن العيش مع إسرائيل في إطار سلام السادات. صحيح كان العيش معها باردا بسبب القضية الفلسطينية, لكن لم تعد مصر الرسمية تتحدث عن إزالة إسرائيل من علي الخريطة بعد أن وقعت معها معاهدة سلام ملزمة. خيار الحرب والمقاومة ضد إسرائيل عند بعض الناس بعد كل هذه السنين دوافعه الحالية مفهومة, لكن هذا الفكر الصراعي لم يعد يحقق الغرض منه, فليس من المتصور عمليا اختفاء إسرائيل بوضعها الحالي من الخريطة. والتجارب في كثير من الحالات الاستيطانية طويلة الأمد لم تثبت أن الحرب هي الوسيلة الناجعة لحل مثل هذه النوعية من الصراعات البشرية المعقدة, وتجربة جنوب إفريقيا دليل علي ذلك وليست المثال الوحيد, أما ذكريات الماضي القاسية فعلي الزمن أن يتعامل معها بالنسيان. لن يسمح المتشددون من الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني أبدا بخيار الدولتين, وسوف يعملون علي تعقيد الحل حتي يرفضه الإسرائيليون والفلسطينيون والعرب والمسلمون جميعا. كذلك لن يقبلوا بخيار الدولة الواحدة لأن مفهوم العيش المشترك ليس في قاموسهم الفكري والسياسي. أما المعتدلون علي الجانبين فلهم رأي آخر, وطريقة مختلفة في التفكير. وقبل أن ندخل في التفاصيل يجب أن نتفق علي عدد من العموميات يتجاهلها الناس مع أنها أشياء حاكمة ومؤثرة في المستقبل. فمن الناحية الديموجرافية حوالي50% من اليهود في إسرائيل قد جاءوا من الدول العربية والشرق أوسطية; أي أنهم في الأصل مصريون ويمنيون ومغاربة وعراقيون وإيرانيون..إلخ. وعلي المدي الطويل, ولو نظرنا إلي العالم العربي كله, لوجدنا الأرض والديموجرافية والرموز التاريخية والدينية كلها في صالح الأغلبية العربية والإسلامية وليس العكس, كما أنها متكاملة بشكل مدهش مع التراث اليهودي وليست متعارضة معه. فلم يحدث في منطقتنا ضد اليهود ما حدث في مناطق أخري من العالم مثل أوروبا. وتحت هذه المظلة التاريخية والدينية المشتركة يمكن أن تتداخل الرموز والأفكار. وأتذكر في ذلك مشروع السادات المنسي لبناء مجمع للأديان في سيناء به مسجد وكنيسة ومعبد يهودي. وفي النهاية ليس من المتوقع أن يقوم حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة علي منطق المنافسة أو السيطرة, بل يجب أن يقوم علي منطق التكامل والتعاون المشترك. وأتصور أنه إذا حسنت النيات لتحول حل الدولتين مع الزمن إلي دولة واحدة. ومن الواجب أن نتذكر أن الفلسطينيين والسوريين كانوا علي وشك توقيع اتفاقيات سلام مع إسرائيل في1999 و2000 لولا ما تلاها من أحداث. ولو تحقق ذلك لكان السلام قد نشر جناحيه فوق الجميع, ولهزمنا الزمن كما هزمه السادات, ولوأدنا في مهدها عمليات11 سبتمبر الانتحارية, ولكسبنا سباق السلام والتطور الإقليمي ودخلنا القرن الحادي والعشرين بأجندة إقليمية طموحة لن يقتصر مجالها علي الموقع الفلسطيني-الإسرائيلي بل يمتد شرقا وغربا من الخليج إلي المحيط الأطلسي. [email protected] المزيد من مقالات د. محمد قدري سعيد