أنا رجل عمري58 عاما, نشأت في أسرة مفككة لأم من الإسكندرية وأب من القاهرة, وعرفت أنها تزوجت رغما عن أهلها, ولذلك طلقوها بعد ولادتي بشهور معدودة.. وعشت هكذا بلا أم.. أما أبي فلم أكن أراه إلا بعد منتصف الليل كل يوم.. وتلفت حولي فوجدتني وحيدا.. لا عائلة لي, ولا أصدقاء وأخذت أبحث عن أمي في كل مكان فلم أجدها.. فانجرفت إلي عالم المخدرات وصرت مدمنا, واتجهت إلي السرقة لكي أحصل علي نقود أشتري بها المخدرات.. واضطررت في مرات كثيرة إلي الشروع في القتل, وعندما بلغت سن الثالثة والعشرين ارتكبت جريمة قتل بالفعل, وكان ذلك في ديسمبر عام1974 فكانت آخر عهدي بالحرية, حيث حكم علي بالسجن المؤبد لتعدد جرائمي.. وفيه ذقت الأمرين علي أيدي عتاة المجرمين, وقد شجعهم علي ذلك جسدي النحيل.. وحاول احدهم ذات ليلة الفتك بي فقتلته وحكم علي بخمسة عشر عاما أخري. وتأكدت تماما أنني سأقضي باقي عمري في السجن فتأقلمت علي حياته, وتعلمت فيه حرفة النجارة ومضت سنوات العمر سنة وراء أخري, وأنا وحيد لايزورني أحد ولا يسأل عني أي مخلوق! وفكرت في استكمال تعليمي فحصلت علي الثانوية العامة بمجموع75% وعاهدت الله علي أن أصبح انسانا مستقيما.. وأصدقك القول انني برغم ما قد يبدو من أني قاسي القلب إلا أن الحقيقة غير ذلك, إذ أتأثر بأي حادث بسيط, ولم يمر يوم واحد علي في السجن دون بكاء مرير يصل إلي حد الانهيار.. وظللت علي هذه الحال خمسة وثلاثين عاما.. أجيال ولدت.. وأجيال ماتت.. وأنا قابع داخل السجن.. وتقربت إلي الله أن يغفر لي خطاياي, وأن يساعدني علي استكمال ما بقي لي من عمر. وجاءتني البشري في أحد أيام شهر أبريل الماضي, حيث طلبني الاخصائي الاجتماعي في السجن وسألني عما إذا كنت أرغب في الخروج إلي الحياة من جديد أم لا؟.. فتسمرت مكاني ولم أنطق بكلمة واحدة وانهرت باكيا أمامه وتجمع حولي زملائي في السجن وهللوا فرحا بالافراج عني. وكانت اللحظة الفاصلة بين حياة السجن وحياة الحرية.. وعندما وقعت عيناي علي الشارع الواقع فيه السجن.. وجدت عالما جديدا وغريبا.. وأحسست أنني عائد من الموت.. فهناك فرق شاسع بين الحياة اليوم.. والحياة قبل35 عاما.. وبالطبع لم أجد في استقبالي أحدا.. فمشيت في الشارع هائما علي وجهي لا أعرف إلي أين أسير؟.. فذهبت إلي منزلنا القديم في منطقة بولاق أبوالعلا, وسألت شيوخ المنطقة عن أبي فقالوا لي إنه رحل من سنوات طويلة وكذلك عمي, أما بيتنا القديم فلقد رحل مع الزمن وحل محله والبيوت الماثلة أمام موقف الترجمان المعروف الآن بميناء القاهرة البري! ولم أجد مكانا يؤويني فعدت إلي قسم بولاق أبوالعلا وسلمتهم نفسي, وطلبت من المأمور أن أبيت في القسم كل ليلة فلا بيت لي, ولا وظيفة, ولا أقرباء, فأبدي استغرابه من طلبي, ثم وافق وهو مندهش! وفي الصباح خرجت إلي مصلحة الأحوال المدنية لكي استخرج بطاقة الرقم القومي فصدمني المسئول بأن علي أن أصطحب معي أحد أقاربي, فأخبرته بأنني مقطوع من شجرة, وكل ما أتذكره إن لي أختا غير شقيقة إسمها زينب مصطفي عبدالجواد ولا أعرف لها مكانا.. لكنه لم يلق بالا لمأساتي وخرجت والدموع تترقرق في عيني!! وتوجهت إلي محافظة القاهرة وطلبت ترخيص كشك لي لبيع المواد الغذائية البسيطة فطلبوا مني البطاقة!.. وطرقت أبواب اصحاب الحرف ومنها حرفة النجارة التي احترفتها, ولكني لا أملك أي أوراق رسمية اتسلمها له, وكلما عرف أحدهم حكايتي تغيرت معاملته لي واعتذر لعدم وجود عمل لي عنده! هل تعرف ياسيدي ماذا افعل الآن.. إنني لا اغادر السجن صباحا.. ولا مساء ولو انني مت لما لاقيت هذا العذاب الذي اعيشه؟.. إنك تقول دائما في ردودك ان الدنيا بخير, وأنه لاحياة مع اليأس, فكيف يتحقق هذا الشعار في هذا الزمن القاسي؟, صدقني إنني لا أجد لقمة العيش الآن خارج أسوار السجن.. وحتي السجن نفسه لم يعد يقبلني بين جدارنه وأحس انني عبء علي الجميع.. قل ياسيدي للمسئولين في وزارة الداخلية.. ان هناك انسانا.. لاهو حي.. ولا هو ميت يريد أن يكون له مكان بين بني البشر.. وقل لمحافظ القاهرة.. هل يرضيك أن تترك رجلا قارب الستين من عمره بلا مأوي ولا طعام.. وأخيرا خاطب ضمير وزير التضامن الاجتماعي للقيام بدوره الإنساني قبل واجبه الوظيفي. قل لهم جميعا.. إنني أريد أن أستريح فلقد تعبت من هذا المشوار الذي لا تبدو له في الأفق نهاية! * قضيت35 عاما وراء الأسوار, وهي مدة كبيرة بحساب الزمن وعمر الإنسان, لذلك فمن الطبيعي أن تجد حياة مختلفة تماما عن الحياة التي عاصرتها في بداية السبعينيات, فما أكثر المتغيرات التي طرأت علي المجتمع, سواء كانت تغيرات اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها. والمهم في قصتك ياسيدي أنك استغللت هذه السنوات الطويلة في التعليم, والعمل الحرفي, فصارت لديك صنعة تستطيع أن تعيش منها, ومادمت قد أصبحت حرا بعيدا عن قيود السجن فإن حقك علي الدولة أن توفر لك فرصة الحياة المستقرة بعد سنوات المكابدة والشقاء. وأضم صوتي إلي صوتك فأخاطب وزيري الإسكان والتضامن الاجتماعي ومحافظ القاهرة لتوفير سكن لك وعمل بسيط أو كشك تبيع فيه المواد الغذائية كما ترغب, وقبل كل هؤلاء أخاطب السيد حبيب العادلي وزير الداخلية لاستخراج بطاقة الرقم القومي لك, إذ أن لديك أوراقك التي تثبت شخصيتك, وإلا كيف تم سجنك خمسة وثلاثين عاما!! وأرجو أن تهدأ بالا ولا تنزعج, ففي الحياة متسع دائما لتحقيق الأماني والأحلام مادام في العمر بقية.