من منطلق الحرص علي إتاحة الفرصة للجميع للمشاركة بالرأي والخبرة في مناقشة مختلف القضايا, واقتناعا بحق الجميع في الرد والاختلاف في الرأي, نشرت الأسبوع الماضي الرسالة التي وردتني من الأستاذ مجدي خير الله رئيس غرفة صناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات باتحاد الصناعات والتي عقب فيها علي ما طرحته الأسبوع قبل الماضي من أن عددا لا يستهان به من شركات تكنولوجيا المعلومات الوطنية تصر منذ ثلاثة عشر عاما علي الرضاعة من الحكومة, والتشبث بأهدابها كوسيلة للاستمرار والنمو, ولا تقوم بواجبها تجاه تطوير نفسها, وقد احتوي تعقيب رئيس الغرفة كما أشرت الأسبوع الماضي علي العديد من النقاط الجديرة بالمناقشة, وهو ما أتعرض له اليوم. أول نقطة يمكن مناقشتها تتعلق بزاوية أو منهجية تناول القضية محل المناقشة, وفي هذا الصدد تناول رئيس الغرفة القضية من زاوية الدفاع النظري عن فكرة أو مبدأ تنمية الطلب المحلي علي تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وضرورة التوسع في مشروعات تنمية هذا الطلب والاستمرار فيها, وانطلاقا من هذه الزاوية عرض رئيس الغرفة الأدلة والبراهين التي تثبت سلامة الأخذ بمبدأ تنمية الطلب المحلي والتوسع في مشروعاته, والنتائج الإيجابية المترتبة علي تطبيقه عمليا, سواء بالنسبة للمجتمع أو لصناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات, وفي معرض حشده لأدلته طاف رئيس الغرفة بتجارب عالمية كالهند وأيرلندا وتجارب إقليمية كإسرائيل, وعرج علي حزمة من المشكلات والقضايا المحلية تضمنت الزراعة والري والصحة وتجربة البطاقات الذكية بالسويس, وكانت خلاصة فكرته أن مبدأ الطلب المحلي هو قاطرة الدفع لصناعة تكنولوجيا المعلومات, والدفة التي توجهها إلي اتجاهات محددة. وحقيقة الأمر أن اختيار رئيس الغرفة لزاوية التناول السابقة هو اختيار جانبه التوفيق, وخارج سياق المناقشة التي قدمتها للقضية الأسبوع قبل الماضي, وذلك لما يلي: - أولا: لم يرد في مقالي ما يدل من قريب أو بعيد أنني اري أن هناك خطأ في الأخذ بتنمية الطلب المحلي كمبدأ أو فكرة, بل ذكرت أن تنمية الطلب المحلي الذي يجسده الإنفاق الحكومي أمر لا يمكن إنكار تأثيره, وأن تنمية الطلب فكرة سليمة نظريا ولا غبار عليها, وقد جاء ذلك في فقرتين: جاء بالفقرة الأولي نصا أن'علاقة شركات تكنولوجيا المعلومات عموما بالإنفاق الحكومي والمجتمعي علي التكنولوجيا قائمة وحيوية بلا شك, ولا يمكن لأي متابع أن ينكر التأثير الإيجابي والسلبي الذي يحققه هذا الإنفاق علي أوضاع الشركات بأنواعها المختلفة وجاء بالفقرة الثانية نصا أن هذه الشركات كانت طوال السنوات الماضية من القوي الضاغطة لتنفيذ برامج تنمية الطلب المحلي علي تكنولوجيا المعلومات التي ضخت فيها الحكومة ملايين الجنيهات, علي اعتبار أن تنمية الطلب سينعشها ويضمن لها فرصا للنمو المستقل, وهي فكرة سليمة نظريا ولا غبار عليها. وفي ضوء ذلك يصبح من قبيل تضييع الوقت والخروج عن السياق أن يجهد رئيس الغرفة نفسه في إقناعنا بما نحن مقتنعون به أصلا علي مستوي الفكرة أو المبدأ, لأن تناول القضية من زاوية متفق عليها لا يضيف للموقف جديدا. - ثانيا: أن اختيار رئيس الغرفة لهذه الزاوية, نقل المناقشة إلي مربع' ما ينبغي أن يكون مستقبلا', في حين أن من يقرأ مقالي السابق سيجد أننا نناقش ما كان وما هو كائن الآن, وشتان بين مناقشة الينبغيات التي هي أصلا سلوكا لم يقع لا من الحكومة ولا من الشركات, ومناقشة ما حدث ويحدث, وهو سلوك عملي وقع من الحكومة وقابله سلوك وقع من الشركات.. وهذا بالضبط بيت القصيد من المناقشة. لقد وجهت انتقادات واضحة لا لبس فيها إلي سلوك الشركات التي صرخت تطلب الرضاعة مجددا من الحكومة, بعدما ظلت هي اكبر المستفيدين من برامج تنمية الطلب المحلي التي طرحتها الحكومة خلال السنوات الثلاثة عشر الماضية, ومن ثم كان الأوفق والأكثر سلامة وصحة أن يشتبك معنا رئيس الغرفة في مناقشة وتقييم هذه الانتقادات الخاصة بسلوك شركات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من داخل الغرفة وخارجها, وهي تتعامل مع التمويل الذي خصصته الحكومة ووزارة الاتصالات لبرامج تنمية الطلب المحلي, بغض النظر عما إذا كان التمويل قليلا أو كثيرا, سار في مسارات مختارة اختيارا سليما أم انحرف كليا أو جزئيا, لأننا نناقش هنا مدي سلامة وصحة سلوك الشركات, وليس موقف الحكومة, فهذا شأن آخر له مراراته وعذاباته وأيضا ايجابياته. إن رد السيد رئيس الغرفة لم يتناول أي من هذه الانتقادات بالمناقشة من قريب أو بعيد, ولم يوضح ما إذا كانت في محلها أم ظالمة, بل حلق بنا في الينبغيات وفضائلها وجلال نتائجها وكفي, وبالتالي فإن كل الانتقادات لا تزال معلقة بلا نفي أو تأكيد, وهنا أري أنه من الضروري إعادة المناقشة إلي سياقها الأساسي ونقطتها المحورية, ولذلك أقول للشركات التي صرخت طالبة الرضعة من الحكومة: حينما سعيتم مرارا طوال السنوات الثلاث عشرة الماضية إلي مشروعات مولتها برامج تنمية الطلب المحلي, وفزتم بتنفيذها أو شاركتهم فيها: - هل اخترتم من البداية نموذج عمل تعلمون تمام العلم أنه شديد الارتباط بالإنفاق الحكومي علي تكنولوجيا المعلومات أم لا؟ وهل أهملتم في إدراك أن لهذا الاختيار مزاياه ومخاطره أم لا؟ - هل عمل الكثير منكم في معظم الأحيان بفكر التجار الذين يوزعون منتجا أو يبيعون نظاما, وابتعد عن فكر البناءين الذين يغيرون بيئة العمل ويعيدون هندسة العمليات ويطورون هياكل الإنتاج أم لا؟ - هل وضعتم نصب أعينكم التدوير السريع للمال قبل الحرص علي التمهل في غرس الخبرة ورعاية التغيير أم لا؟ - هل ظهرت صور الأداء المتدني الكفاءة عند التقدم للمشروعات والتكالب لا المنافسة علي الفوز بها بطريقة من يقضم الكعكة أولا أم لا؟ - هل ظهر التسرع و'الكلفتة' في التنفيذ والتشغيل والاختفاء عند الاحتياج بعد الانتهاء من المشروع أم لا؟ هل تجاهلتم دفع برامج تنمية الطلب المحلي باتجاه تطوير نظم وحلول وخبرات محلية أم لا؟ هل استسهلتم بل واستمرأتم القيام بدور الوسيط أو القومسيونجي بين المنتجين الأجانب والمستهلكين والمستفيدين المحليين أم لا؟ هل أبديتم عدم اكتراث بتنمية كيانات استشارية جديرة بثقة القطاع الحكومي أو القطاعات الاخري بالدولة أم لا؟ هل أقدم بعضكم أو معظمكم علي ممارسات متدنية الكفاءة وهو ينفذ مشروعات داخل الوزارات, مما دفع الوزارات لإنشاء شركات موازية تابعة لها تعمل الآن إما بديلا عنكم أو حائط بين الحكومة وبينكم أم لا؟ وإذا كانت هذه الانتقادات التي أتمني مخلصا أن تتم مناقشتها وإثبات خطئها قائمة منذ بداية طرح القضية للنقاش, فإن رد رئيس الغرفة حمل في ثناياه معلومات وآراء حبلي بأسئلة مماثلة يمكن توليدها وصبها في المجري الأساسي للمناقشة وأذكر هنا مثالين فقط: في معرض المقارنة بين تأثير الطلب المحلي علي صناعة تكنولوجيا المعلومات بكل من الهند وإسرائيل ذكر الرد أن الطلب المحلي الضعيف في الهند جعل نصف مليون شخص يصدرون ما قيمته ثلاثين مليار دولار, أما الطلب المحلي القوي في إسرائيل جعل أربعين ألفا يصدرون ما قيمته خمسة عشر مليار دولار, أي أن الطلب المحلي القوي جعل القيمة المضافة لكل فرد يعمل بإسرائيل تعادل حوالي ستة اضعاف ما يحققة الفرد في الهند. والسؤال هنا: هل يتفضل السيد رئيس الغرفة أو أي من رؤساء الشركات التي تصرخ طالبة الرضعة من الحكومة ويذكر لنا رقم الصادرات الذي حققته الشركات المستفيدة من برامج تنمية الطلب المحلي في ثلاثة عشر عاما؟ وهل اختارت هذه الشركات النموذج الهندي كثيف العمالة منخفض القيمة أم النموذج الإسرائيلي خفيف العمالة عالي القيمة؟ المؤسف أنه ليس هناك رقم أو نموذج, ليس فقط بسبب رداءة وربما غياب مرجعيات وطنية للقياس والتدقيق في هذه الأمور, وإنما لأن معظم هذه الشركات لم تضع التصدير كأولوية أولي, وربما ليس لديها أصلا صادرات قابلة للقياس حجما ونوعا, والدليل علي ذلك أن الحصة الساحقة من الصادرات المصرية المعلنة للقطاع تأتي من شركات لم تستفد بأي صورة من برامج تنمية الطلب المحلي, وهي شركات التعهيد ومراكز الاتصال وغيرها, وليس الشركات الباكية علي الرضعة. وجاء في الرد أن الطلب المحلي إذا ما أحسن طرحه يؤدي الي إنعاش السوق ويجعلها جاذبة للاستثمار, وهنا كنا ولا نزال نحتاج من السيد رئيس الغرفة أن يوضح صراحة وبلا لبس: هل أحسنت الحكومة طرح الطلب المحلي أم لا؟ وهل أحسنت الشركات استثماره علي النحو الذي حدث باسرائيل والهند أم لا؟ أما أن يذكر الأمر علي أنه وضع افتراضي دون أن يقول رأيه فيما أسفرت عنه الخبرة العملية فهذا ترك للقضية معلقة بلا حسم وتضييع للوقت. خلاصة القول أن رد رئيس الغرفة لم يغير شيئا في القضية الأصلية, ألا وهي أننا أمام شركات لم تضعها الأزمة الاقتصادية فقط في مواجهة الإفلاس, بل وضعها أداؤها أيضا موضع من أدمن الرضاعة السهلة, ولذلك أقول مجددا أن من يستكين للرضاعة ليس من حقه أن يشكو الجوع إذا ما جف الضرع.