كل الأقنية التليفزيونية, ورهط كبير من أولي الأقلام كتبوا وبثوا كثيرا وطويلا عن قضية المخرج الكبير الأستاذ جلال الشرقاوي(76 عاما), وإغلاق( تشميع) مسرح الفن. الذي قدم عليه إبداعاته لعقود واندلاع جدل قانوني وإجرائي بين الفنان, ومحافظ القاهرة, ووزير الثقافة حول مدي ملاءمة المسرح الشهيد لمقتضيات السلامة والأمان, وبما شعرنا معه من مجرد الملابسات النظرية والاستماع لكل وجهات النظر أن في الأمر قدرا واضحا من اللدد, والعناد, والعنت. ولذلك فلن أزيد جديدا لو سودت هذه المساحة مضيفا إلي كتابات من كتبوا وبرامج من بثوا وأشاعوا وأذاعوا. ولكنني أجد في الحدث المأساوي فرصة لمناقشة فكرة ازدواج المعايير في تطبيق القوانين والاجراءات علي الناس في بلدنا, وبما أفضي إلي هدر طاقة مبدع مسرحي كبير, وجماعة من الفنانين الشبان, وإجبارهم علي الدخول في محاجاة ولبط عن قطر ماسورة المياه, وأكواد السلامة والأمان, والسور المشترك بين مسرح الفن ومعهد الموسيقي العربية.. بالعربي نحن أمام حالة تدعي تطبيق القانون بأرثوذكسية متشددة في مسرح الفن دون غيره من أماكن, وبالذات دون مسارح الدولة وبيوتها الفنية, وفي نفس الوقت نحن أمام حالة تأبي تطبيق القانون المتمثل في أحكام قضائية قاطعة. يعني لا نطبق القانون.. وندعي تطبيق القانون في نفس الوقت!! وسوف أدور حول, أو أعبر فوق حقيقة أن مسرح الفن استوفي كل الالتزامات, ونفذ كل الشروط متحصلا أحكاما قضائية بدرجات مختلفة تؤكد أحقيته في تشغيل المكان بطاقته الكاملة( وهو ما تم عرضه علي الرأي العام بوسائط مختلفة, وبراهين عديدة). كل ما سوف أعرض له في السطور المقبلة هو مدي حضور مؤثر القصد والترصد في مسلك الإدارة المصرية إزاء مسرح الفن والأستاذ جلال الشرقاوي. وسوف أبتعد عن موقف الدكتور عبدالعظيم وزير محافظ القاهرة بما فيه من تصلب إجرائي لافت, إذ ربما لا ينبغي علينا أن نطالبه بمراعاة قيم رمزية ومعنوية مثل رسالة المسرح, أو البعد الحضاري والتنويري والإنساني المرتبط بها. ولكنني لو أذنتم سأتوقف أمام مسلك الصديق الوزير الأستاذ فاروق حسني, الذي قطعا لابد أن تكون مثل تلك المعاني حاضرة في ذهنه وقراراته الإدارية, ومواقفه الوزارية. ولقد ورد في تصريحات الأستاذ فاروق حسني أثناء الفوران الاعلامي الذي صاحب تلك القضية أشياء عن( عشوائية) مبني مسرح الفن, وأنا بالمقابل أود إحالة الوزير إلي عشوائية منشآت مسرح البالون, والسيرك القومي بالعجوزة, ومجمع مسرح القاهرة للعرائس ومسرح الطليعة في حديقة الأوزبكية بالعتبة. كما ورد في كلام وزير الثقافة أشياء عن أمن وسلامة المتفرجين( علي الرغم من استيفاء مسرح الفن لكل إجراءات التأمين) فيما تلك المعايير كانت غائبة في حالة حريق قصر ثقافة بني سويف, أو حريق المسرح القومي, ولا يوجد دليل إجرائي وقانوني علني يفيدنا بأن مسارح قصور الثقافة في الأقاليم استوفت كامل معايير التأمين الآن ثم إنني أحب في إطار طرح تلك القضية وتجنبا لأن نوصم بالانتقائية, وإزدواجية المعايير أن تنشر وزارة الثقافة علي الرأي العام ما يفيد استكمال مسارح الدولة في شارع عماد الدين, وشارع قصر العيني, وحديقة الأزبكية, وحديقة كروب بجزيرة الروضة, لكل معايير الأمن والسلامة, وأظن أن مثل تلك الإجراءات والإعلان عنها ينبغي أن تمتد إلي دور السينما, وقاعات العرض متنوعة الدرجة والمستوي. أيريد الصديق فاروق حسني أن أحدثه جادا كما تعودنا؟! حسنا.. هناك يقين لدي الرأي العام بأن وزير الثقافة يتحرك في تلك القضية مدفوعا بعوامل شخصية تتلبسها التفضيلات وليس الاعتبارات, ولموقف يتعلق بالأستاذ جلال الشرقاوي بالذات, وبخاصة مع انتقادات الأخير الدائمة والصاخبة لفاروق حسني ولوزارته. وهناك ياسيادة الوزير يقين لدي الرأي العام بأن موقف الإدارة من جلال الشرقاوي يتعلق بمضمون ما يعرضه مسرحه, أو ما كان مسرحه يعتزم عرضه. وتجنبا للمناهدة والفرهدة, سوف أفترض أن الأمرين ليسا صحيحين, وأن راية الإدارة بيضاء, وشمعتها قايدة!! ومع ذلك فإنني كنت أتوقع من الوزير الفنان علي الأقل أن يكون أول الواقفين إلي جوار مسرح الفن, وأول المبادرين بالبحث عن مخرج للأزمة, وأول المفاوضين لمحافظ القاهرة, وجهات المرافق حول ضمان بقاء المسرح وتشغيله, لا بل وأذهب إلي أبعد من ذلك, متصورا أن وزارة الثقافة كانت ستبادر إلي دعم امكانيات ذلك المسرح إن كان يحتاج دعما, حتي لا يوصم فاروق حسني تاريخيا بأنه وقف إلي جوار إغلاق مسرح, بالضبط كما وصم يوسف السباعي وزير الثقافة الأسبق بأنه أغلق المجلات الثقافية التي تخالفه في الرأي( الكاتبحين استوزاره في الثقافة و الطليعة حين رئاسته لمجلس إدارة الأهرام). إن إنجاز فاروق حسني في وزارة الثقافة طوال ما يقرب من ربع قرن لا ينبغي أن تذروه رياح غضب النخبة الثقافية, أو الجمهور, لإغلاقه مسرحا وإطفاء نور واجهته, وبذلك المعني بالذات كنت أنتظر من فاروق حسني( الذي أعرفه) موقفا مغايرا لا تكتنفه التباسات شخصية, ولا يعرض النظام السياسي بأكمله في مصر لاتهام إغلاق منابر تعبير معارضة. يعني لا ينبغي للميل الإداري أن يؤدي إلي تعريض صورة الديمقراطية في مصر لتشوه لا مبرر له, علي الأقل في تلك الساحة. ثم إنك ياصديقي الوزير فنان تعرف جيدا معني تمرد المبدع الذي يلازم إبداعه مطيحا بالأشكال المستقرة المختلفة لما تراضت عليه السلطة, أو المجتمع من معان وأفكار, وناموا تحت ظلاله الوارفة, وأنت نفسك متمرد نسخت ارتباطك بشكل أكاديمي في الرسم( كنت أهم مزاوليه في جيلك ومازلت تحتفظ باحدي لوحاته في بيتك) ورحت تتمرد عبر التجريدية وتهشم العالم وتعيد بناءه وفقا لرؤيتك.. فلماذا تنكر علي جلال الشرقاوي حقه في التمرد أو توحي تصرفاتك بأنك تحرمه حقه في تبني مسرحه لأفكار ليست طيعة, أو منصاعة, أو أميرة وبنت حلال؟! أليس هذا هو الأستاذ جلال الشرقاوي الذي تعلمنا في مسرحه عبر نصف قرن تبني فكر التغيير عبر الإبداع؟! أليس هذا هو الأستاذ جلال الشرقاوي الذي قدم اعمالا صاخبة في كل عصور مصر السياسية, واتسعت لها صدور النظم والسلطات, لأن القائمين عليها كانوا يعرفون أن كلا من تلك الأعمال كان درة تزين مفرق أي هاتيك السلطات, وتسمها بالتنور والانفتاح؟! أليس هذا هو جلال الشرقاوي صاحب( ملك الشحاتين) و(آه ياليل ياقمر) لنجيب سرور, و(الجيل الطالع) لنعمان عاشور, و(بلدي يابلدي) و(عيون بهية) و(شهرزاد) لرشاد رشدي, و(الرجل الذي فقد ظله) لفتحي غانم, و(الأرانب) للطفي الخولي, و(عودة الروح) لتوفيق الحكيم, و(الجنزير) لمحمد سلماوي, و(انقلاب) لصلاح جاهين, و(الحصار) لميخائيل رومان, و(عفاريت مصر الجديدة) و(ولا العفاريت الزرق) لعلي سالم, و(إنهم يقتلون الحمير) للينين الرملي, و(كباريه) لوحيد حامد, و(علي الرصيف) لنهاد جاد, و(الخديو) لفاروق جويدة؟! أليس هذا هو الأستاذ جلال الشرقاوي الذي ابتعثته الدولة المصرية( ووزارة الثقافة بالذات) إلي فرنسا ليدرس الدراما في معهد جوليان برتو عام1961, والاخراج السينمائي في المعهد العالي للدراسات السينمائية في فرنسا, والذي رجع ليملأ حياتنا المسرحية بذلك الصخب الجميل الذي ينبغي لنا, ولك أنت بالذات ياسيادة الوزير أن تحتفل به, وتفسح له الطرق كيما يستمر ويتواصل, ويمارس دوره في الإيقاظ والتحريض علي الحوار؟! ....................... فاروق حسني الذي نعرفه هو الذي يبادر بدعوة الأستاذ جلال الشرقاوي إلي فنجان قهوة في مكتبه بشجرة الدر, ويجلس اليه باحثا سبل مساندة يحتاجها, أو وساطة يريدها من أجل إنفاذ أحكام القانون, والإقرار بحقوق أصحاب الحقوق, ومن أجل الانتصار لرسالة المسرح وركائزه وعمده. فاروق حسني الذي نعرفه ينبغي أن يكون المتفرج رقم واحد في أول عرض يتم اطلاقه من مسرح الفن, وأول المعتصمين علي الرصيف أمامه إذا أراد البعض إزالته أو استمرار اغلاقه. وفاروق حسني الذي نعرفه ينحاز إلي جانب الابداع, وليس إلي جانب المواسير والخراطيم, والعسف الاجرائي والإداري. وقد خاطبت وزير الثقافة حتي الآن دون محافظ القاهرة, لأن يقينا وقر أيضا في الضمير العام يشعر بأنه المسئول عن تلك الحكاية التي تنضح بمعني الاستقواء, وهو إن ساد.. انتصرت الشوارعيزم!!