يحدث عالميا، ارتفاع سعر الذهب والنفط بسبب تراجع الدولار وترقب لقمة ترامب وبوتين    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الخميس 14 أغسطس 2025    سعر البصل والبطاطس والخضار بالأسواق اليوم الخميس 14 أغسطس 2025    500 مليون جنيه لتمويل المشروعات متناهية الصغر بالمحافظات    القاهرة الإخبارية: الاحتلال يواصل التعنت في التعامل مع قوافل المساعدات    التايمز: بريطانيا تتخلى عن فكرة نشر قوات عسكرية فى أوكرانيا    بسبب انتشار حرائق اليونان.. اشتعال مئات المركبات    شقيقة زعيم كوريا الشمالية تنفي إزالة مكبرات الصوت على الحدود وتنتقد آمال سيول باستئناف الحوار    سموتريتش يعطى الضوء الأخضر لبناء 3400 وحدة استيطانية    تفاصيل القبض على «أم ملك وأحمد» صانعة المحتوى    ياسين السقا يروي كواليس لقائه الأول مع محمد صلاح وأول تواصل بينهم    أدعية مستجابة للأحبة وقت الفجر    طريقة عمل مكرونة بالبشاميل، لسفرة غداء مميزة    أروى جودة تطلب الدعاء لابن شقيقتها بعد تعرضه لحادث سير خطير    موعد مباراة مصر والسنغال والقنوات الناقلة مباشر في بطولة أفريقيا لكرة السلة    «زيزو اللي بدأ.. وجمهور الزمالك مخرجش عن النص».. تعليق ناري من جمال عبد الحميد على الهتافات ضد نجم الأهلي    موعد مباراة بيراميدز والإسماعيلي اليوم والقنوات الناقلة في الدوري المصري    الاَن.. رابط تقليل الاغتراب 2025 لطلاب تنسيق المرحلة الأولى والثانية (الشروط وطرق التحويل بين الكليات)    درجة الحرارة تصل ل49.. حالة الطقس اليوم وغدًا وموعد انتهاء الموجة الحارة    أزمة نفسية تدفع فتاة لإنهاء حياتها بحبة الغلة في العياط    الأحزاب السياسية تواصل استعداداتها لانتخابات «النواب» خلال أسابيع    ترامب: الجيش الأمريكي "سيحرر" واشنطن    بعد إحالة بدرية طلبة للتحقيق.. ماجدة موريس تطالب بلجنة قانونية داخل «المهن التمثيلية» لضبط الفن المصري    اغتيال الحقيقة    في ميزان حسنات الدكتور علي المصيلحي    باريس سان جيرمان بطلًا ل كأس السوبر الأوروبي على حساب توتنهام بركلات الترجيح    الصين تفتتح أول مستشفى بالذكاء الاصطناعي.. هل سينتهي دور الأطباء؟ (جمال شعبان يجيب)    العدوى قد تبدأ بحُمى وصداع.. أسباب وأعراض «الليستيريا» بعد وفاة شخصين وإصابة 21 في فرنسا    توب وشنطة يد ب"نص مليون جنيه"، سعر إطلالة إليسا الخيالية بمطار القاهرة قبل حفل الساحل (صور)    أصيب بغيبوبة سكر.. وفاة شخص أثناء رقصه داخل حفل زفاف عروسين في قنا    كمال درويش: لست الرئيس الأفضل في تاريخ الزمالك.. وكنت أول متخصص يقود النادي    لحق بوالده، وفاة نجل مدير مكتب الأمن الصناعي بالعدوة في حادث صحراوي المنيا    بالقليوبية| سقوط المعلمة «صباح» في فخ «الآيس»    بأكياس الدقيق، إسرائيليون يقتحمون مطار بن جوريون لوقف حرب غزة (فيديو)    "سيدير مباراة فاركو".. أرقام الأهلي في حضور الصافرة التحكيمية لمحمد معروف    كواليس تواصل جهاز منتخب مصر الفني مع إمام عاشور    انطلاق بطولتي العالم للشباب والعربية الأولى للخماسي الحديث من الإسكندرية    تفاصيل استقبال وكيل صحة الدقهلية لأعضاء وحدة الحد من القيصريات    بدائل الإيجار القديم.. فرصة ذهبية قبل الطرد و90 يومًا فاصلة أمام المستأجرين    محافظ قنا ووزير البترول يبحثان فرص الاستثمار التعديني بالمحافظة    سعد لمجرد يحيي حفلًا ضخمًا في عمان بعد غياب 10 سنوات    تحذير بسبب إهمال صحتك.. حظ برج الدلو اليوم 14 أغسطس    وداعًا لرسوم ال 1%.. «فودافون كاش» تخفض وتثبت رسوم السحب النقدي    محافظ الغربية يعلن حصول مركز طب أسرة شوبر على شهادة «جهار»    الجامعة البريطانية في مصر تستقبل الملحق الثقافي والأكاديمي بالسفارة الليبية لتعزيز التعاون المشترك    البحيرة: ضبط المتهمين بقتل شخصين أخذا بالثأر في الدلنجات    تحديد هوية المتهمين بمضايقة فتاة على طريق الواحات.. ومأمورية خاصة لضبطهم (تفاصيل)    شيخ الأزهر يدعو لوضع استراتيجية تعليمية لرفع وعي الشعوب بالقضية الفلسطينية    انتهاء تصوير «السادة الأفاضل» تمهيدًا لطرحه في دور العرض    المركز الإفريقي لخدمات صحة المرأة يحتفل باليوم العالمي للعمل الإنساني تحت شعار "صوت الإنسانية"    في ذكراها ال12 .. "الإخوان": أصحاب رابعة العزة، "قدّموا التضحيات رخيصة؛ حسبةً لله وابتغاء مرضاته وحفاظًا على أوطانهم    تداول طلب منسوب ل برلمانية بقنا بترخيص ملهى ليلي.. والنائبة تنفي    حنان شومان: "كتالوج تناول نادر لفقد الزوج زوجته.. وأجاد في التعبير عن مشاعر دقيقة"    أحمد صبور: تحديات متعددة تواجه السوق العقارية.. ومصر قادرة على جذب الاستثمارات الأجنبية    ما قبل مجازر (الفض).. شهادات لأحياء عن "مبادرة" محمد حسان والمصالحة مع "الإخوان"    ما حكم من يحث غيره على الصلاة ولا يصلي؟.. أمين الفتوى يجيب    خالد الجندي يوضح أنواع الغيب    خالد الجندي ل المشايخ والدعاة: لا تعقِّدوا الناس من الدين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شيخ الوقت
نشر في الأهرام اليومي يوم 13 - 08 - 2010

لا يذكر متي ترامت النصيحة إلي سمعه‏.‏ ربما في نصف الدائرة حول إمام جامع علي تمراز وهو يلقي عظة ما بعد صلاة المغرب وربما عند انفراط حلقة الذكر من فوق رصيف البوصيري‏,‏ وربما كان سماعه لها وهو ينزل درجات السلم في طريقه إلي داخل السيالة‏.‏
التقط الكلمات‏,‏ تأملها‏,‏ تدبر معانيها‏,‏ أزمع أن تكون خطواته التالية في اتجاهه‏.‏ في باله الزمن القديم للطرق الصوفية‏,‏ يرتدون الجلابيب‏,‏ فوقها الأوشحة الخضراء‏,‏ يمضون من ميدان أبو العباس قبل أن يعاد انشاء الجامع إلي سراي رأس التين‏.‏ يطل الملك من أعلي السور ذي المقرنصات في نهاية الحديقة الهائلة‏,‏ تعلو أصواتهم بالأدعية والدعوات‏,‏ يلوح لهم بيده يأمر للجميع بمنح وعطايا‏,‏ وإن ميز مشايخ الطرق بما يؤكد مكانتهم‏.‏
عرف أن المريد الحقيقي لابد أن يكون له في زمنه شيخ يأخذ العهد علي يديه‏,‏ يبصره بحقائق الدنيا‏,‏ وما ينبغي أن يعد العبد به نفسه للحياة الآخرة‏,‏ صورة ما يطلبه متناثرة في الجوامع والمساجد والزوايا والموالد وحلقات الذكر والجلوات‏.‏ الصورة الحقيقية‏,‏ شيخ الوقت الذي يسعي اليه يختلف عن كل هؤلاء‏,‏ يعني بترتيب المقامات والأحوال‏,‏ بما يبصر أتباع الطريقة بخطواتهم التالية‏,‏ تؤهله قدرات الزهد والتقشف والطاعة وتربية النفس والحرمان والتقرب إلي الله‏,‏ يمتلك من قوة الفراسة ونفاذ البصيرة‏,‏ ما يتيح التعرف إلي دخائل النفوس‏,.‏
‏(2)‏
أحزنه أن غالبية مريدي الصوفية لا يعرفون الطريقة التي ينتسبون اليها‏.‏ غابت عهود الأولياء الأربعة ابن حنبل والشافعي وأبي حنيفة ومالك اختلطت الاجتهادات والآراء‏,‏ وتشابكت فنسي الناس إلا أنهم سنة‏,‏ فرق الصوفية في الجوامع والموالد والجلوات‏,‏ الشاذلية والأحمدية والنقشبندية والرفاعية والقادرية والخلوتية والبرهامية والقادرية والشعرانية والبسطامية والطيلسان والرداء وغيرها‏,‏ لكل فرقة خليفتها وعلمها وبيارقها وشعائرها وطقوسها‏.‏ كيف يعيشها الناس دون أن يتبينوا الفوارق بينها‏.‏
مايهمه ويسعي إليه‏,‏ أن يحصل علي اعتراف بانتسابه إلي طريقة لها شيخها ونقباؤها ومريدوها وموالدها وطقوسها‏.‏
‏(3)‏
لو أن وليا اختار مجلسا في جامع الشيخ إبراهيم‏,‏ القريب من بيته في السكة الجديدة‏,‏ المطل علي زحام السوق‏,‏ ربما كان شيخه اخترق زحام شارع الميدان إلي الموازيني‏.‏ طالعه ميدان الأئمة بسرادقاته وخيامه وأعلامه وبيارقه وإنشاده وأذكاره‏.‏
مال إلي الدحديرة خلف الجامع‏.‏ أبطأت خطواته أمام زاوية الست مدورة‏.‏ مضي يغالب ارتباكه إلي داخل الزاوية‏.‏
تردد في الذهاب إلي خلوة الشيخ‏.‏ يعرف أنها مكان عكوفة علي نفسه‏,‏ يأخذ منها ويعطي‏,‏ يقرأ ويتأمل ويتهدج بالأدعية‏,‏ استغرقته الرياضات والمجاهدات‏,‏ اجتذبته المشاهدات والمكاشفات‏.‏
أول مايذكره منه‏,‏ جولاته في شوارع بحري ودكاكينه ومقاهيه ومساجده وزواياه‏,‏ يأخذ من الناس ويعطي‏,‏ يسألهم ويجيب عن أسئلتهم‏,‏ ييسر أمور الدنيا‏,‏ ويشرح ما غمض من شأن الآخرة‏.‏
اختار زاوية الست مدورة‏,‏ زاوية تخصه‏,‏ ينفرد فيها بأوراده وقراءاته وتأملاته‏,‏ لايدخل أحد إلا بإذنه‏,‏ وللمثول في مجلسه‏.‏
زهد فيما يقبل عليه الناس من لذة ومال وجاه‏,‏ انفرد عن الخلق في الخلوة والعبادة‏.‏
وروي أنه كان يبيت طاويا‏,‏ لايأكل‏,‏ ولايشرب‏,‏ أياما متوالية قد تجاوز الأسابيع والأشهر‏.‏ وجد في قرب الزاوية من زحام الناس‏,‏ وانشغالهم بالبيع والشراء‏,‏ مايصرفهم عن خلوته بسط السجادة‏,‏ يؤدي الصلاة في أوقاتها‏,‏ يكثر من الأدعية والابتهالات‏.‏
روي أن موضع الزاوية لم يكن علي حاله حين اختارها ولي الله لاعتكافه‏.‏ كانت الأرض حولها خلاء‏.‏ بني الناس البيوت‏,‏ وكثر المتصوفة وأرباب الأشاير‏,‏ عمر المكان بالبيوت والناس‏,‏ سكنوا بالقرب من مقام ولي الله‏,‏ ليعيشوا بالبركات الربانية‏.‏ صار شيخ مشايخ زمانه‏.‏
لم يغلق الشيخ خلوته في وجه أحد‏.‏ بابها مفتوح أمام الخلق‏,‏ من يطلب اللقاء فإنه يظل في الصمت حتي يفرغ الشيخ من قراءاته‏,‏ أو تأملاته‏.‏ تشجعه ابتسامة عينيه علي أن يعرض ما يعانيه‏.‏
عرف عنه القدرة علي الشفاعة للراحلين‏,‏ وتحقيق الرغائب‏,‏ واستحضار ملوك الجان‏,‏ وتزويج العانس‏,‏ وإعادة الغائب‏,‏ وشفاء المريض‏,‏ والإصلاح بين الزوجين‏,‏ ورفع الحسد والعمل والسحر والمس بالجن والعفاريت‏.‏ روي أن الأسماك كانت تطلب غوثه‏,‏ لايلقي الصيادون شباكهم ذات الثقوب الضيقة‏,‏ فتصعد بالأسماك من كل الأحجام‏.‏ جعل الله صيد البحر حلالا‏,‏ لكن المعني يغيب في صيد الأسماك الصغيرة‏,‏ نصح صيادي الجرافة والطراحة أن تقتصر شباكهم علي الثقوب الضيقة‏,‏ فلاتجرف الأسماك الصغيرة قبل الأوان‏.‏
أفاض عليه الناس مالاحصر له من الهدايا والنذور‏.‏
لاحظ المريدون أنه يتبسط في أمور الطريقة‏,‏ يأخذ من أموالها ما قد لايحتاجه ولا يستحقه‏,‏ وينفق في مخالفة للقواعد المشروعة‏.‏
حاولوا الفهم‏,‏ ملأوا حياتهم بالأسئلة‏,‏ عرفوا أنه يدعي العمل علي تصفية نفسه‏,‏ وتجريدها من علائق الجسد‏,‏ والزهد في الدنيا‏,‏ والاستهانة بملاذها‏,‏ لكنه في الحقيقة يرغب في الدنيا‏,‏ يتمني نعيمها‏.‏
‏(4)‏
اندس في نصف الدائرة حول دكة المبلغ‏,‏ اجتذبته كلمات الإمام عن جسر الحياة إلي الآخرة‏,‏ وقصص الرسل‏,‏ ومناقب الصحابة والتابعين‏.‏
لاحظ وجود عدد من أكابر العصر في مجلس وعظه‏,‏ فاطمأن إلي صدق دعوته‏.‏
بعد صيته بالتقوي والصلاح‏.‏ تحركت القلوب إلي الله بتأثير كلماته‏.‏ نسب إليه العديد من الكرامات والأحوال المشهورة‏.‏
يقضي معظم وقته في صحن الجامع‏,‏ بالقرب من مقام السلطان‏,‏ اقتصرت حياته علي الصلاة والذكر والاعتكاف‏,‏ يتجه بعينيه إلي الباب الرئيسي‏,‏ فلا تقع النظرات علي النسوة القادمات بالمقام‏.‏
لم يكن يختار مريديه بالمصادفة‏,‏ إنما يدقق في الاختيار‏,‏ يسأل عن الأصل والبيئة والسن والتعليم والمهنة‏,‏ وما إذا كان أعزبا أو متزوجا‏,‏ يحفظ القرآن كله‏,‏ أم يكتفي بأجزاء‏,‏ أو سور قصيرة‏,‏ يصطفي من يشاء‏,‏ يقربه‏,‏ ويخلص في تعليمه‏.‏
عزف عن السير في الأسواق‏,‏ ومخالطة الناس‏.‏ لايأذن لأتباعه‏,‏ ولا لأي مريد‏,‏ أن يمثل بين يديه‏.‏ جلساء القطب من أكابر أهل الحضرة‏.‏ منع دخول حضرته إلا لمن كانوا خاصة مريديه‏,‏ لايرفض الاتصال بسائر الناس‏,‏ وإن خص بقطبيته وجهاء القوم وأعيانهم‏.‏
اعتزت الطريقة بمن كانت تضمه من فقهاء ومحدثين ومفسرين وقراء وزهاد ونساك‏.‏ أيقنوا من اتصاله بالله‏,‏ تزلفوا إليه‏,‏ يطلبون الرضا والشفاعة‏.‏
لاحظ في الناس انشغالهم بالدنيا أخذ عليهم تهافتهم عليها‏,‏ وإهمالهم القيام بفروض الدين وضع لمريديه قواعد السلوك الصوفي الصحيح‏,‏ قال ان سبب كل المشكلات التي تحيق بنا وتستغرقنا‏,‏ هو البعد عن الله‏,‏ وقال ان الحل لايأتي إلا بالعودة الي الله‏,‏ الي منهج الذات الإلهية‏,‏ وقال ان الحياة الأخري هي الباقية‏.‏
ذكر الشيخ اتباعه بقول الجنيد ان اللحظة التي يعرضون فيها عن الله‏,‏ لايمكن تعويضها بألف سنة من الطاعة والحضور‏.‏
واتته جرأة فسأل الشيخ بما أثاره‏.‏
شوح البشيخ بيد غاضبة فغادر المسجد‏.‏
‏(5)‏
لم يكد يستقر به الحال في جامع سيدي خضر‏,‏ حتي أخذه انصراف المريدين عن الصلاة خلف الشيخ وحضور مجالسه‏,‏ تناقصوا فلم يزيدوا عن آحاد‏,‏ عاب المريدون علي الشيخ أنه يحرم ويحلل علي هواه‏,‏ قدر ماتريده مصلحته‏,‏ اشترط علي مريديه ألا يزوروا وليا أو صالحا من أهل الزمان الا بإذنه‏,‏ ولا يحضرون مجلسا غير مجلسه‏,‏ ولا يستمعون الي سواه‏..‏ وضع أبوابا‏,‏ ألزم بها كل من سلك علي يديه‏,‏ لا يأذن لأحد ممن يسلكون علي يديه أن يقرأ ورد غيره‏:‏ من سلك علي أيدينا لايجوز له أن يهجر أورادنا‏,‏ ويقرأ أوراد غيرنا‏,‏ يعاقب المريد الذي يتغيب عن تلاوة الورد الذي رتبه شيخه‏,‏ يشتد في محاسبة من يتغيب عن مجالس الذكر‏,‏ يعنفه بكلمات قاسية‏,‏ وربما منعه رضاه‏,‏ وقد يطرده من حضرته ويرفض عودته إلا بإظهار التأسف والمسكنة‏.‏
إذا تغيرت نفسه‏,‏ وانقلب مزاجه‏,‏ فإن الكدر يتملكه‏,‏ ويركن الي الاحتجاب‏,‏ وعدم المخالطه‏,‏ من يقتحم عليه خلوته يواجه ما لايقوي علي صده من الغضب‏.‏
حين تأخر عن موعد الدرس‏,‏ قال الشيخ في لهجة تمزج بين الإشفاق والحسم‏,‏ إنه قد اشترط في مريديه الا يتغيبوا عن حضور دروسه‏,‏ طرده من جامع سيدي خضر‏,‏ حيث كان يلقي دروسه‏.‏
تمرد أتباعه علي أوامره‏,‏ وثاروا علي أحكامه‏,‏ توزعوا في فرق وطرق أخري‏,‏ وفضلت أعداد ان تنسي التصوف بالكلية‏.‏
‏(6)‏
سعي اليه الآلاف من الاتباع والمريدين‏,‏ ملكهم‏,‏ برع في اجتذابهم الي دنياه‏,‏ يعرف ما يجذب الأسماع الي حكاياته‏,‏ أقبلوا علي مجلسه في زاوية خطاب‏,‏ تكدسوا في الزاوية‏,‏ تزايدت أعدادهم حتي امتلأ بهم الميدان الصغير أمام الزاوية‏.‏
قال انه أخذ العهد علي سيدي أحمد الشاذلي جاءه في المنام‏,‏ اطمأن الي علو همته قبل ان يوافق علي تلقي عهده‏.‏
من يقصد قطبيته‏,‏ فإن عليه في البداية أن يتوضأ‏,‏ ويصلي ركعتين بنية التوبة‏,‏ والإنابة‏,‏ ثم يزحف علي مقعدته الي حيث نصف الدائرة أن زادت اللمة فهي دائرة كاملة يجد لنفسه موضعا‏,‏ ويصيخ سمعة للكلمات المحلقة في النورانية‏.‏
تكاثر الناس علي مجلسه‏,‏ ينصتون الي أحاديثه وعظاته‏,‏ يتأثرون بها يقرأون دلائل الخيرات في حلقات الحضرة‏.‏
كان له وقار وهيبة في أعين مريديه‏,‏ لم يقدم المريدون علي أي فعل‏,‏ مالم يفيدوا من رأيه ومشورته‏,‏ وتنفيذ مايقضي به‏.‏ أشد ما هم الشيخ تلاوة
القرآن وحلقات الذكر والانشاد الديني‏,‏ قال‏:‏ لن أقبل في طريقتي أحد‏,‏ مالم يكن حفظ القرآن كله‏,‏ وقرأ من الأحاديث الشريفة‏,‏ وسيرة النبي‏,‏ وقصص الصحابة والتابعين‏,‏ مايصح به انتسابه الي الصوفية‏.‏
لاحظ في تلاوة العديد من المريدين للقرآن انها لاتجاوز حناجرهم‏,‏ عاب مظهرية الأداء يثيره التطوح بلا معني‏,‏ عني بدقة حركات الذكر‏,‏ طريقة الاهتزاز‏,‏ وتناغم أصوات الذاكرين‏,‏ والناحية التي يميل ناحيتها في نطق كل كلمة‏,‏ عامل المتهاونين والخارجين علي أوامره بالحساب العسير‏.‏
أخذ عليه المريدون تشبثه برسوم الدين وطقوسه‏,‏ وإهماله قواعد الدين وأسبابه‏,‏ هو عاجز عن فهم نظرتهم الي الأمور‏,‏ ومعني الطقوس التي يمارسونها‏.‏
أعادوا النظر في ماجري‏,‏ قلبوه‏,‏ ناقشوه‏,‏ تقصوا أسبابه ونتائجه أدركوا مابدا غامضا‏,‏ أو غاب عن تصوراتهم رفض المريدون كل أفكاره إنهم استغنوا عن القطبية‏,‏ فلا إمام لهم ولا ولي‏.‏
‏(7)‏
قال لنفسه‏:‏ هذا شيخي‏:‏علق به قلبه‏,‏ أزمع أن يأخذ عنه الطريقة‏,‏ عرف صحة طريقته من وقائع‏,‏ قيل إنها ظهرت علي لسانه ويديه‏.‏
أخلص العبادة لله دون أن تكون له زاوية يستقبل فيها مريديه‏,‏ أخذ الطريق‏,‏ سار فيه شوطا‏,‏ ثم صار صاحب زاوية‏,‏ فيها العشرات من المريدين‏,‏ يذكر مريديه بالإمام النوري‏,‏ عندما يجلس اليهم في بقعة مظلمة‏,‏ كان النور ينبعث من فمه وهو يتكلم‏,‏ فيضئ المكان‏.‏
فشت الطريقة في بحري‏,‏ وافتتن بها الناس‏,‏ اجتذبت الآلاف من المريدين‏,‏ حتي هؤلاء الذين لايدرون بالصوفية‏,‏ ولا بأحكامها‏,‏ أو طقوسها‏,‏ خضعوا له‏,‏ ساروا تحت رعايته‏.‏
أسرار الحقيقة لايفهمها غير العلماء الواصلين‏,‏ هو قطع المنازل‏,‏ ترقي في المقامات‏.‏
تعلم علوم الظاهر والباطن‏,‏ جمع بين الفقه ورواية الحديث‏,‏ حفظ سائر مايوصف به الله تعالي من معاني الرحمة والعدل والعلم والقدرة والمحبة والعشق والحكمة والعظمة والجمال والجلال‏.‏
أعرض عن زخرف الحياة وزينتها زهد فيما أقبل عليه الناس من المال وعلائق الجسد‏,‏ قطع المعاملة مع الخلق‏,‏ وفتح المعاملة مع الله سبحانه‏,‏ صان قلبه من الاتساع لغير حب الذات الإلهية‏,‏ روي مريدوه ان قربه من الحق سبحانه بلغ حد التدلل‏,‏ والأنس‏,‏ ورفع الكلفة‏.‏
عرف عنه كثرة تصدقه علي فقراء الطريقة‏,‏ يرفض أن يكون بينهم معوز أو محتاج‏.‏
وكان يجري الأرزاق علي طلبة معهد المسافر خانة الديني‏,‏ حتي الدراويش الذين بلا عمل‏,‏ كان يقربهم إليه‏,‏ ويحاول إلحاقهم باشغال يتكسبون منها‏,‏ لاتقتصر حياتهم علي مايصل الي أيديهم وأفواههم‏,‏ ومن الصدقات والزكوات‏,‏ وفي موالد الأولياء‏.‏
ذات يوم‏,‏ لم يره الناس يصلي‏,‏ قيل انه رفع التكليف‏,‏ وقيل انه يحرص علي الصلاة في خفاء عن الناس‏,‏ أو يؤدي أوقاتها في البقاع المقدسة‏,‏ استغرقته أحوال الجذب والمحو والسكر والفناء‏.‏
أخذ عليه الناس أنه يسقط عنه كل مايأمر به‏,‏ ويفعل كل ماينهي عن فعله‏.‏
قال ان الولاية تعفيه من تكاليف الدين‏,‏ ترفعه عن سائر البشر‏,‏ تجعله فوق قواعد الدين‏,‏ وأوضاع العرف‏,‏ ومقتضيات التقاليد‏.‏
أضاف وعيناه تفحصان المريدين الذين امتلأت بهم القاعة‏:‏ ان من آداب المريد نحو شيخه ان يؤثر طاعته‏,‏ ولو كان فيها ما لايتفق مع قواعد الدين‏.‏
قنع المريدون بلبس الزي‏,‏ دون ان تكون لهم صلة بفروض الدين من وضوء وصلاةوصوم وتقيد بالكتاب والسنة‏,‏ يطيعون أوامر الشيخ دون مناقشة‏,‏ ولا مراجعة‏.‏
أخذ الناس الذهول حين منع أداء الشعائر في المسجد‏,‏ فلا أذان ولا إقامة ولا صلاة‏.‏
حذر الشيخ مريديه من الغلو في طلب الآخرة ينسون دنياهم‏,‏ وينسون أنفسهم دعاهم الي زينة النفس‏,‏ ونعيم الدنيا‏,‏ أذن لهم بالانسلاخ من التكاليف التي فرضها الدين‏,‏ أن يقولوا كل مايخطر لهم‏,‏ يفعلوا كل مايتشهوا منه‏.‏
أهمل أصوات المريدين التي علت دون تدبر تتهمه بأنه أساء استخدام علمه
‏(8)‏
المولد‏..‏
الناس علي الغاية في الزحام‏.‏
استولت كل طريقة علي جانب من الميدان‏,‏ أو شارع جانبي‏,‏ أو قطعة خلاء قريبة‏,‏ أو خرابة تقيم سرادقا يضم اتباعها‏,‏ من تضيق به سعة السرادق يجد الملاذ في خيام الميدان وأكشاكه‏,‏ حتي الدحديرة الصاعدة والنازلة مابين ميدان أبوالعباس وأول الموازيني‏,‏ شغلتها فرق صوفية‏,‏ ميزت كل واحدة نفسها بعلمها الخاص‏,‏ وان اختلط المداحون وأرباب الأشاير والمنشدون والمغنون والسبح الكبيرة والملاحف والألعاب والملاهي والحواة والنذور والشموع والخراف والعجول‏,‏ تعالت دقات الطبول والدربكات والدفوف‏,‏ ونقرات الأصابع‏,‏ وأصوات العود والناي والربابة والمزمار والنقارة‏,‏ تداخلها ابتهالات القراء والذاكرين وأورادهم وانشادهم وتهليلهم وصيحات الوجد والصلاة علي النبي‏,‏ ومزيج البخور من الصندل والمسك والعنبر والزعفران‏.‏
أخذته الحيرة‏,‏ لايدري الي أين يسير بدا الناس علي الغاية في الزحام‏,‏ السرادقات والخيام والأكشاك في جوانب الميدان‏,‏ رفعت كل طريقة ما يعلن سطوتها من السيوف الخشبية والاعلام والأشاير ومزاريق الجريد والرايات والخرق الملونة‏.‏
لم يحاول اختراق الزحام الي موضع طريقة ما‏,‏ أزمع التعرف الي الشيخ الذي يرجو أخذ العهد علي يديه‏,‏ الطريقة التي يزمع الانتساب اليها‏,‏ من يريده هو شيخ الوقت‏,‏ يخضع له الدراويش بصرف النظر عن المهن التي ينتسبون اليها‏,‏ هو ماض يجد الحاضر في إيمان كل الدراويش به‏.‏
طال تردده‏,‏ ثم مال الي الموازيني
تهيأ لزحام شارع الميدان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.