ما بعد الولادة، هل تحظى الموظفة الأم بالدعم الكافي؟ القانون يجيب    البابا تواضروس يستقبل وكيل أبروشية الأرثوذكس الرومانيين في صربيا    القومي للمرأة ينظم ورشة عمل تفاعلية لخريجات برنامج المرأة تقود    بدء توافد طلائع الحجاج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة    الرئيس السيسي يشيد بالمشاورات الناجحة والبناءة مع رئيس وزراء اليونان    كشف حساب بيسيرو مع الزمالك بعد رحيله عن الفريق    تعرف على وضع صلاح بين منافسيه في الدوري الإنجليزي بعد 35 جولة    الرياضية: مدرب فولام يوافق على تدريب الهلال    عمر طلعت مصطفى: الجولف ليست لعبة للأثرياء    إحباط ترويج 41 كيلو مخدرات و59 قطعة سلاح ناري ب3 محافظات    بسبب الفلوس.. إصابة شخصين في مشاجرة بالوراق    تعليم دمياط تكشف حقيقة واقعة تسلق شخص سور مدرسة    مصرع شخصين في حريق نشب داخل مركز صيانة سيارات بالهرم    ب12 هاتفًا.. عصابة تخترق حساب سيدة من ذوي الاحتياجات وتنهب أموالها    القبض على 3 طلاب حاولوا الاعتداء جنسيا على طفلة في كرداسة    أوبرا الإسكندرية تقيم حفل ختام العام الدراسي لطلبة ستوديو الباليه آنا بافلوفا    مهرجان أسوان يسدل الستار عن دورته التاسعة بإعلان الجوائز    "نجوم الساحل" يعلنون بداية فصل الصيف بطريقتهم الخاصة مع منى الشاذلي غدًا    منها «السرطان».. 5 أبراج تجيد الطبخ بالفطرة وتبتكر وصفات جديدة بكل شغف    كندة علوش: شعري وقع ولوعمرو يوسف خاني هضربه    تنظيم عدد من الأنشطة بقصور الثقافة بالشرقية    قطاع الفنون التشكيلية يعلن أسماء المشاركين في المعرض العام في دورته 45    منتج "سيد الناس" يرد على الانتقادات: "كل الناس كانت بتصرخ في المسلسل"    لأول مرة، مناقشة رسالة ماجستير حول الطب الدفاعي بحضور نقيب أطباء مصر (صور)    إطلاق صندوق لتحسين الخدمة في الصحة النفسية وعلاج الإدمان    حزنا على زواج عمتها.. طالبة تنهي حياتها شنقا في قنا    سحب 49 عينة سولار وبنزين من محطات الوقود بالإسكندرية لتحليلها    فيديو.. خالد أبو بكر للحكومة: مفيش فسخ لعقود الإيجار القديم.. بتقلقوا الناس ليه؟!    آخر تطورات مفاوضات الأهلي مع ربيعة حول التجديد    السنغال بالزي الأبيض والكونغو بالأزرق في كأس إفريقيا للشباب    هبوط مؤشرات البورصة بختام تعاملات الأربعاء بضغوط مبيعات أجنبية    مدبولي يُكلف الوزراء المعنيين بتنفيذ توجيهات الرئيس خلال احتفالية عيد العمال    طلعت مصطفى تعلن تحقيق 70 مليار جنيه من «ساوث ميد» خلال يوم.. وإجمالي مبيعات المجموعة يرتفع إلى 160 مليار خلال 2025    مجدي البدوي: عمال مصر رجال المرحلة.. والتحديات لا تُحسم إلا بسواعدهم    وائل غنيم في رسالة مطولة على فيسبوك: دخلت في عزلة لإصلاح نفسي وتوقفت عن تعاطي المخدرات    وزارة الأوقاف تعلن أسماء المقبولين لدخول التصفيات الأولية لمسابقة القرآن الكريم    وظيفة قيادية شاغرة في مصلحة الجمارك المصرية.. تعرف على شروط التقديم    «العمل» تطلق حزمة برامج تدريبية لتطوير قدرات العاملين    المراجعات النهائية للشهادة الإعدادية بشمال سيناء    التايكوندو يتوجه للإمارات للمشاركة في بطولة العالم تحت 14 عام    إصابة ضباط وجنود إسرائيليين في كمين محكم نفذته المقاومة داخل رفح الفلسطينية    وكالة الأنباء الفلسطينية: ارتفاع حصيلة القصف الإسرائيلي لمدرستين في مخيم البريج ومدينة غزة إلى 49 قتيلا    كيف يتم انتخاب البابا الجديد؟    بدء اجتماع "محلية النواب" لمناقشة عدد من طلبات الإحاطة    زيادة قدرتها الاستيعابية.. رئيس "صرف الإسكندرية يتفقد محطة العامرية- صور    الداخلية: ضبط 507 دراجة نارية لعدم ارتداء الخوذة    هل انكشاف أسفل الظهر وجزء من العورة يبطل الصلاة؟.. الإفتاء توضح    مصر ترحب باتفاق وقف إطلاق النار في اليمن مع الولايات المتحدة    المستشار الألماني الجديد يبدأ أول جولة خارجية بزيارة فرنسا    «مستقبل التربية واعداد المعلم» في مؤتمر بجامعة جنوب الوادي    بتكلفه 85 مليون جنيه.. افتتاح مبنى امتداد مركز الأورام الجديد للعلاج الإشعاعي بقنا    أحمد سليمان: هناك محاولات ودية لحسم ملف زيزو.. وقد نراه يلعب خارج مصر    صندوق مكافحة وعلاج الإدمان يعلن عن وظائف شاغرة    أسامة ربيع: توفير الإمكانيات لتجهيز مقرات «الرعاية الصحية» بمواقع قناة السويس    اليوم.. الرئيس السيسي يتوجه إلى اليونان في زيارة رسمية    ما حكم إخراج المزكى زكاته على مَن ينفق عليهم؟.. دار الإفتاء تجيب    الأزهر يصدر دليلًا إرشاديًا حول الأضحية.. 16 معلومة شرعية لا غنى عنها في عيد الأضحى    عاجل- مصر وقطر تؤكدان استمرار جهود الوساطة في غزة لوقف المأساة الإنسانية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شيخ الوقت
نشر في الأهرام اليومي يوم 13 - 08 - 2010

لا يذكر متي ترامت النصيحة إلي سمعه‏.‏ ربما في نصف الدائرة حول إمام جامع علي تمراز وهو يلقي عظة ما بعد صلاة المغرب وربما عند انفراط حلقة الذكر من فوق رصيف البوصيري‏,‏ وربما كان سماعه لها وهو ينزل درجات السلم في طريقه إلي داخل السيالة‏.‏
التقط الكلمات‏,‏ تأملها‏,‏ تدبر معانيها‏,‏ أزمع أن تكون خطواته التالية في اتجاهه‏.‏ في باله الزمن القديم للطرق الصوفية‏,‏ يرتدون الجلابيب‏,‏ فوقها الأوشحة الخضراء‏,‏ يمضون من ميدان أبو العباس قبل أن يعاد انشاء الجامع إلي سراي رأس التين‏.‏ يطل الملك من أعلي السور ذي المقرنصات في نهاية الحديقة الهائلة‏,‏ تعلو أصواتهم بالأدعية والدعوات‏,‏ يلوح لهم بيده يأمر للجميع بمنح وعطايا‏,‏ وإن ميز مشايخ الطرق بما يؤكد مكانتهم‏.‏
عرف أن المريد الحقيقي لابد أن يكون له في زمنه شيخ يأخذ العهد علي يديه‏,‏ يبصره بحقائق الدنيا‏,‏ وما ينبغي أن يعد العبد به نفسه للحياة الآخرة‏,‏ صورة ما يطلبه متناثرة في الجوامع والمساجد والزوايا والموالد وحلقات الذكر والجلوات‏.‏ الصورة الحقيقية‏,‏ شيخ الوقت الذي يسعي اليه يختلف عن كل هؤلاء‏,‏ يعني بترتيب المقامات والأحوال‏,‏ بما يبصر أتباع الطريقة بخطواتهم التالية‏,‏ تؤهله قدرات الزهد والتقشف والطاعة وتربية النفس والحرمان والتقرب إلي الله‏,‏ يمتلك من قوة الفراسة ونفاذ البصيرة‏,‏ ما يتيح التعرف إلي دخائل النفوس‏,.‏
‏(2)‏
أحزنه أن غالبية مريدي الصوفية لا يعرفون الطريقة التي ينتسبون اليها‏.‏ غابت عهود الأولياء الأربعة ابن حنبل والشافعي وأبي حنيفة ومالك اختلطت الاجتهادات والآراء‏,‏ وتشابكت فنسي الناس إلا أنهم سنة‏,‏ فرق الصوفية في الجوامع والموالد والجلوات‏,‏ الشاذلية والأحمدية والنقشبندية والرفاعية والقادرية والخلوتية والبرهامية والقادرية والشعرانية والبسطامية والطيلسان والرداء وغيرها‏,‏ لكل فرقة خليفتها وعلمها وبيارقها وشعائرها وطقوسها‏.‏ كيف يعيشها الناس دون أن يتبينوا الفوارق بينها‏.‏
مايهمه ويسعي إليه‏,‏ أن يحصل علي اعتراف بانتسابه إلي طريقة لها شيخها ونقباؤها ومريدوها وموالدها وطقوسها‏.‏
‏(3)‏
لو أن وليا اختار مجلسا في جامع الشيخ إبراهيم‏,‏ القريب من بيته في السكة الجديدة‏,‏ المطل علي زحام السوق‏,‏ ربما كان شيخه اخترق زحام شارع الميدان إلي الموازيني‏.‏ طالعه ميدان الأئمة بسرادقاته وخيامه وأعلامه وبيارقه وإنشاده وأذكاره‏.‏
مال إلي الدحديرة خلف الجامع‏.‏ أبطأت خطواته أمام زاوية الست مدورة‏.‏ مضي يغالب ارتباكه إلي داخل الزاوية‏.‏
تردد في الذهاب إلي خلوة الشيخ‏.‏ يعرف أنها مكان عكوفة علي نفسه‏,‏ يأخذ منها ويعطي‏,‏ يقرأ ويتأمل ويتهدج بالأدعية‏,‏ استغرقته الرياضات والمجاهدات‏,‏ اجتذبته المشاهدات والمكاشفات‏.‏
أول مايذكره منه‏,‏ جولاته في شوارع بحري ودكاكينه ومقاهيه ومساجده وزواياه‏,‏ يأخذ من الناس ويعطي‏,‏ يسألهم ويجيب عن أسئلتهم‏,‏ ييسر أمور الدنيا‏,‏ ويشرح ما غمض من شأن الآخرة‏.‏
اختار زاوية الست مدورة‏,‏ زاوية تخصه‏,‏ ينفرد فيها بأوراده وقراءاته وتأملاته‏,‏ لايدخل أحد إلا بإذنه‏,‏ وللمثول في مجلسه‏.‏
زهد فيما يقبل عليه الناس من لذة ومال وجاه‏,‏ انفرد عن الخلق في الخلوة والعبادة‏.‏
وروي أنه كان يبيت طاويا‏,‏ لايأكل‏,‏ ولايشرب‏,‏ أياما متوالية قد تجاوز الأسابيع والأشهر‏.‏ وجد في قرب الزاوية من زحام الناس‏,‏ وانشغالهم بالبيع والشراء‏,‏ مايصرفهم عن خلوته بسط السجادة‏,‏ يؤدي الصلاة في أوقاتها‏,‏ يكثر من الأدعية والابتهالات‏.‏
روي أن موضع الزاوية لم يكن علي حاله حين اختارها ولي الله لاعتكافه‏.‏ كانت الأرض حولها خلاء‏.‏ بني الناس البيوت‏,‏ وكثر المتصوفة وأرباب الأشاير‏,‏ عمر المكان بالبيوت والناس‏,‏ سكنوا بالقرب من مقام ولي الله‏,‏ ليعيشوا بالبركات الربانية‏.‏ صار شيخ مشايخ زمانه‏.‏
لم يغلق الشيخ خلوته في وجه أحد‏.‏ بابها مفتوح أمام الخلق‏,‏ من يطلب اللقاء فإنه يظل في الصمت حتي يفرغ الشيخ من قراءاته‏,‏ أو تأملاته‏.‏ تشجعه ابتسامة عينيه علي أن يعرض ما يعانيه‏.‏
عرف عنه القدرة علي الشفاعة للراحلين‏,‏ وتحقيق الرغائب‏,‏ واستحضار ملوك الجان‏,‏ وتزويج العانس‏,‏ وإعادة الغائب‏,‏ وشفاء المريض‏,‏ والإصلاح بين الزوجين‏,‏ ورفع الحسد والعمل والسحر والمس بالجن والعفاريت‏.‏ روي أن الأسماك كانت تطلب غوثه‏,‏ لايلقي الصيادون شباكهم ذات الثقوب الضيقة‏,‏ فتصعد بالأسماك من كل الأحجام‏.‏ جعل الله صيد البحر حلالا‏,‏ لكن المعني يغيب في صيد الأسماك الصغيرة‏,‏ نصح صيادي الجرافة والطراحة أن تقتصر شباكهم علي الثقوب الضيقة‏,‏ فلاتجرف الأسماك الصغيرة قبل الأوان‏.‏
أفاض عليه الناس مالاحصر له من الهدايا والنذور‏.‏
لاحظ المريدون أنه يتبسط في أمور الطريقة‏,‏ يأخذ من أموالها ما قد لايحتاجه ولا يستحقه‏,‏ وينفق في مخالفة للقواعد المشروعة‏.‏
حاولوا الفهم‏,‏ ملأوا حياتهم بالأسئلة‏,‏ عرفوا أنه يدعي العمل علي تصفية نفسه‏,‏ وتجريدها من علائق الجسد‏,‏ والزهد في الدنيا‏,‏ والاستهانة بملاذها‏,‏ لكنه في الحقيقة يرغب في الدنيا‏,‏ يتمني نعيمها‏.‏
‏(4)‏
اندس في نصف الدائرة حول دكة المبلغ‏,‏ اجتذبته كلمات الإمام عن جسر الحياة إلي الآخرة‏,‏ وقصص الرسل‏,‏ ومناقب الصحابة والتابعين‏.‏
لاحظ وجود عدد من أكابر العصر في مجلس وعظه‏,‏ فاطمأن إلي صدق دعوته‏.‏
بعد صيته بالتقوي والصلاح‏.‏ تحركت القلوب إلي الله بتأثير كلماته‏.‏ نسب إليه العديد من الكرامات والأحوال المشهورة‏.‏
يقضي معظم وقته في صحن الجامع‏,‏ بالقرب من مقام السلطان‏,‏ اقتصرت حياته علي الصلاة والذكر والاعتكاف‏,‏ يتجه بعينيه إلي الباب الرئيسي‏,‏ فلا تقع النظرات علي النسوة القادمات بالمقام‏.‏
لم يكن يختار مريديه بالمصادفة‏,‏ إنما يدقق في الاختيار‏,‏ يسأل عن الأصل والبيئة والسن والتعليم والمهنة‏,‏ وما إذا كان أعزبا أو متزوجا‏,‏ يحفظ القرآن كله‏,‏ أم يكتفي بأجزاء‏,‏ أو سور قصيرة‏,‏ يصطفي من يشاء‏,‏ يقربه‏,‏ ويخلص في تعليمه‏.‏
عزف عن السير في الأسواق‏,‏ ومخالطة الناس‏.‏ لايأذن لأتباعه‏,‏ ولا لأي مريد‏,‏ أن يمثل بين يديه‏.‏ جلساء القطب من أكابر أهل الحضرة‏.‏ منع دخول حضرته إلا لمن كانوا خاصة مريديه‏,‏ لايرفض الاتصال بسائر الناس‏,‏ وإن خص بقطبيته وجهاء القوم وأعيانهم‏.‏
اعتزت الطريقة بمن كانت تضمه من فقهاء ومحدثين ومفسرين وقراء وزهاد ونساك‏.‏ أيقنوا من اتصاله بالله‏,‏ تزلفوا إليه‏,‏ يطلبون الرضا والشفاعة‏.‏
لاحظ في الناس انشغالهم بالدنيا أخذ عليهم تهافتهم عليها‏,‏ وإهمالهم القيام بفروض الدين وضع لمريديه قواعد السلوك الصوفي الصحيح‏,‏ قال ان سبب كل المشكلات التي تحيق بنا وتستغرقنا‏,‏ هو البعد عن الله‏,‏ وقال ان الحل لايأتي إلا بالعودة الي الله‏,‏ الي منهج الذات الإلهية‏,‏ وقال ان الحياة الأخري هي الباقية‏.‏
ذكر الشيخ اتباعه بقول الجنيد ان اللحظة التي يعرضون فيها عن الله‏,‏ لايمكن تعويضها بألف سنة من الطاعة والحضور‏.‏
واتته جرأة فسأل الشيخ بما أثاره‏.‏
شوح البشيخ بيد غاضبة فغادر المسجد‏.‏
‏(5)‏
لم يكد يستقر به الحال في جامع سيدي خضر‏,‏ حتي أخذه انصراف المريدين عن الصلاة خلف الشيخ وحضور مجالسه‏,‏ تناقصوا فلم يزيدوا عن آحاد‏,‏ عاب المريدون علي الشيخ أنه يحرم ويحلل علي هواه‏,‏ قدر ماتريده مصلحته‏,‏ اشترط علي مريديه ألا يزوروا وليا أو صالحا من أهل الزمان الا بإذنه‏,‏ ولا يحضرون مجلسا غير مجلسه‏,‏ ولا يستمعون الي سواه‏..‏ وضع أبوابا‏,‏ ألزم بها كل من سلك علي يديه‏,‏ لا يأذن لأحد ممن يسلكون علي يديه أن يقرأ ورد غيره‏:‏ من سلك علي أيدينا لايجوز له أن يهجر أورادنا‏,‏ ويقرأ أوراد غيرنا‏,‏ يعاقب المريد الذي يتغيب عن تلاوة الورد الذي رتبه شيخه‏,‏ يشتد في محاسبة من يتغيب عن مجالس الذكر‏,‏ يعنفه بكلمات قاسية‏,‏ وربما منعه رضاه‏,‏ وقد يطرده من حضرته ويرفض عودته إلا بإظهار التأسف والمسكنة‏.‏
إذا تغيرت نفسه‏,‏ وانقلب مزاجه‏,‏ فإن الكدر يتملكه‏,‏ ويركن الي الاحتجاب‏,‏ وعدم المخالطه‏,‏ من يقتحم عليه خلوته يواجه ما لايقوي علي صده من الغضب‏.‏
حين تأخر عن موعد الدرس‏,‏ قال الشيخ في لهجة تمزج بين الإشفاق والحسم‏,‏ إنه قد اشترط في مريديه الا يتغيبوا عن حضور دروسه‏,‏ طرده من جامع سيدي خضر‏,‏ حيث كان يلقي دروسه‏.‏
تمرد أتباعه علي أوامره‏,‏ وثاروا علي أحكامه‏,‏ توزعوا في فرق وطرق أخري‏,‏ وفضلت أعداد ان تنسي التصوف بالكلية‏.‏
‏(6)‏
سعي اليه الآلاف من الاتباع والمريدين‏,‏ ملكهم‏,‏ برع في اجتذابهم الي دنياه‏,‏ يعرف ما يجذب الأسماع الي حكاياته‏,‏ أقبلوا علي مجلسه في زاوية خطاب‏,‏ تكدسوا في الزاوية‏,‏ تزايدت أعدادهم حتي امتلأ بهم الميدان الصغير أمام الزاوية‏.‏
قال انه أخذ العهد علي سيدي أحمد الشاذلي جاءه في المنام‏,‏ اطمأن الي علو همته قبل ان يوافق علي تلقي عهده‏.‏
من يقصد قطبيته‏,‏ فإن عليه في البداية أن يتوضأ‏,‏ ويصلي ركعتين بنية التوبة‏,‏ والإنابة‏,‏ ثم يزحف علي مقعدته الي حيث نصف الدائرة أن زادت اللمة فهي دائرة كاملة يجد لنفسه موضعا‏,‏ ويصيخ سمعة للكلمات المحلقة في النورانية‏.‏
تكاثر الناس علي مجلسه‏,‏ ينصتون الي أحاديثه وعظاته‏,‏ يتأثرون بها يقرأون دلائل الخيرات في حلقات الحضرة‏.‏
كان له وقار وهيبة في أعين مريديه‏,‏ لم يقدم المريدون علي أي فعل‏,‏ مالم يفيدوا من رأيه ومشورته‏,‏ وتنفيذ مايقضي به‏.‏ أشد ما هم الشيخ تلاوة
القرآن وحلقات الذكر والانشاد الديني‏,‏ قال‏:‏ لن أقبل في طريقتي أحد‏,‏ مالم يكن حفظ القرآن كله‏,‏ وقرأ من الأحاديث الشريفة‏,‏ وسيرة النبي‏,‏ وقصص الصحابة والتابعين‏,‏ مايصح به انتسابه الي الصوفية‏.‏
لاحظ في تلاوة العديد من المريدين للقرآن انها لاتجاوز حناجرهم‏,‏ عاب مظهرية الأداء يثيره التطوح بلا معني‏,‏ عني بدقة حركات الذكر‏,‏ طريقة الاهتزاز‏,‏ وتناغم أصوات الذاكرين‏,‏ والناحية التي يميل ناحيتها في نطق كل كلمة‏,‏ عامل المتهاونين والخارجين علي أوامره بالحساب العسير‏.‏
أخذ عليه المريدون تشبثه برسوم الدين وطقوسه‏,‏ وإهماله قواعد الدين وأسبابه‏,‏ هو عاجز عن فهم نظرتهم الي الأمور‏,‏ ومعني الطقوس التي يمارسونها‏.‏
أعادوا النظر في ماجري‏,‏ قلبوه‏,‏ ناقشوه‏,‏ تقصوا أسبابه ونتائجه أدركوا مابدا غامضا‏,‏ أو غاب عن تصوراتهم رفض المريدون كل أفكاره إنهم استغنوا عن القطبية‏,‏ فلا إمام لهم ولا ولي‏.‏
‏(7)‏
قال لنفسه‏:‏ هذا شيخي‏:‏علق به قلبه‏,‏ أزمع أن يأخذ عنه الطريقة‏,‏ عرف صحة طريقته من وقائع‏,‏ قيل إنها ظهرت علي لسانه ويديه‏.‏
أخلص العبادة لله دون أن تكون له زاوية يستقبل فيها مريديه‏,‏ أخذ الطريق‏,‏ سار فيه شوطا‏,‏ ثم صار صاحب زاوية‏,‏ فيها العشرات من المريدين‏,‏ يذكر مريديه بالإمام النوري‏,‏ عندما يجلس اليهم في بقعة مظلمة‏,‏ كان النور ينبعث من فمه وهو يتكلم‏,‏ فيضئ المكان‏.‏
فشت الطريقة في بحري‏,‏ وافتتن بها الناس‏,‏ اجتذبت الآلاف من المريدين‏,‏ حتي هؤلاء الذين لايدرون بالصوفية‏,‏ ولا بأحكامها‏,‏ أو طقوسها‏,‏ خضعوا له‏,‏ ساروا تحت رعايته‏.‏
أسرار الحقيقة لايفهمها غير العلماء الواصلين‏,‏ هو قطع المنازل‏,‏ ترقي في المقامات‏.‏
تعلم علوم الظاهر والباطن‏,‏ جمع بين الفقه ورواية الحديث‏,‏ حفظ سائر مايوصف به الله تعالي من معاني الرحمة والعدل والعلم والقدرة والمحبة والعشق والحكمة والعظمة والجمال والجلال‏.‏
أعرض عن زخرف الحياة وزينتها زهد فيما أقبل عليه الناس من المال وعلائق الجسد‏,‏ قطع المعاملة مع الخلق‏,‏ وفتح المعاملة مع الله سبحانه‏,‏ صان قلبه من الاتساع لغير حب الذات الإلهية‏,‏ روي مريدوه ان قربه من الحق سبحانه بلغ حد التدلل‏,‏ والأنس‏,‏ ورفع الكلفة‏.‏
عرف عنه كثرة تصدقه علي فقراء الطريقة‏,‏ يرفض أن يكون بينهم معوز أو محتاج‏.‏
وكان يجري الأرزاق علي طلبة معهد المسافر خانة الديني‏,‏ حتي الدراويش الذين بلا عمل‏,‏ كان يقربهم إليه‏,‏ ويحاول إلحاقهم باشغال يتكسبون منها‏,‏ لاتقتصر حياتهم علي مايصل الي أيديهم وأفواههم‏,‏ ومن الصدقات والزكوات‏,‏ وفي موالد الأولياء‏.‏
ذات يوم‏,‏ لم يره الناس يصلي‏,‏ قيل انه رفع التكليف‏,‏ وقيل انه يحرص علي الصلاة في خفاء عن الناس‏,‏ أو يؤدي أوقاتها في البقاع المقدسة‏,‏ استغرقته أحوال الجذب والمحو والسكر والفناء‏.‏
أخذ عليه الناس أنه يسقط عنه كل مايأمر به‏,‏ ويفعل كل ماينهي عن فعله‏.‏
قال ان الولاية تعفيه من تكاليف الدين‏,‏ ترفعه عن سائر البشر‏,‏ تجعله فوق قواعد الدين‏,‏ وأوضاع العرف‏,‏ ومقتضيات التقاليد‏.‏
أضاف وعيناه تفحصان المريدين الذين امتلأت بهم القاعة‏:‏ ان من آداب المريد نحو شيخه ان يؤثر طاعته‏,‏ ولو كان فيها ما لايتفق مع قواعد الدين‏.‏
قنع المريدون بلبس الزي‏,‏ دون ان تكون لهم صلة بفروض الدين من وضوء وصلاةوصوم وتقيد بالكتاب والسنة‏,‏ يطيعون أوامر الشيخ دون مناقشة‏,‏ ولا مراجعة‏.‏
أخذ الناس الذهول حين منع أداء الشعائر في المسجد‏,‏ فلا أذان ولا إقامة ولا صلاة‏.‏
حذر الشيخ مريديه من الغلو في طلب الآخرة ينسون دنياهم‏,‏ وينسون أنفسهم دعاهم الي زينة النفس‏,‏ ونعيم الدنيا‏,‏ أذن لهم بالانسلاخ من التكاليف التي فرضها الدين‏,‏ أن يقولوا كل مايخطر لهم‏,‏ يفعلوا كل مايتشهوا منه‏.‏
أهمل أصوات المريدين التي علت دون تدبر تتهمه بأنه أساء استخدام علمه
‏(8)‏
المولد‏..‏
الناس علي الغاية في الزحام‏.‏
استولت كل طريقة علي جانب من الميدان‏,‏ أو شارع جانبي‏,‏ أو قطعة خلاء قريبة‏,‏ أو خرابة تقيم سرادقا يضم اتباعها‏,‏ من تضيق به سعة السرادق يجد الملاذ في خيام الميدان وأكشاكه‏,‏ حتي الدحديرة الصاعدة والنازلة مابين ميدان أبوالعباس وأول الموازيني‏,‏ شغلتها فرق صوفية‏,‏ ميزت كل واحدة نفسها بعلمها الخاص‏,‏ وان اختلط المداحون وأرباب الأشاير والمنشدون والمغنون والسبح الكبيرة والملاحف والألعاب والملاهي والحواة والنذور والشموع والخراف والعجول‏,‏ تعالت دقات الطبول والدربكات والدفوف‏,‏ ونقرات الأصابع‏,‏ وأصوات العود والناي والربابة والمزمار والنقارة‏,‏ تداخلها ابتهالات القراء والذاكرين وأورادهم وانشادهم وتهليلهم وصيحات الوجد والصلاة علي النبي‏,‏ ومزيج البخور من الصندل والمسك والعنبر والزعفران‏.‏
أخذته الحيرة‏,‏ لايدري الي أين يسير بدا الناس علي الغاية في الزحام‏,‏ السرادقات والخيام والأكشاك في جوانب الميدان‏,‏ رفعت كل طريقة ما يعلن سطوتها من السيوف الخشبية والاعلام والأشاير ومزاريق الجريد والرايات والخرق الملونة‏.‏
لم يحاول اختراق الزحام الي موضع طريقة ما‏,‏ أزمع التعرف الي الشيخ الذي يرجو أخذ العهد علي يديه‏,‏ الطريقة التي يزمع الانتساب اليها‏,‏ من يريده هو شيخ الوقت‏,‏ يخضع له الدراويش بصرف النظر عن المهن التي ينتسبون اليها‏,‏ هو ماض يجد الحاضر في إيمان كل الدراويش به‏.‏
طال تردده‏,‏ ثم مال الي الموازيني
تهيأ لزحام شارع الميدان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.