أسامة كمال: الحكومة المستقيلة لهم الاحترام.. وشكل الوزارة الجديدة "تكهنات"    سعر الدينار الكويتي في البنوك اليوم الأحد 9 يونيو 2024    ارتفاع سعر الفراخ.. أسعار الدواجن والبيض في الشرقية اليوم الأحد 9 يونيو 2024    10 سنوات إنجازات | طرق وكباري و3 محاور رئيسية لإحداث طفرة تنموية في قنا    واشنطن: إسرائيل لم تستخدم الرصيف البحري لإنقاذ الرهائن الإسرائيليين في غزة    كيف يشكل قرار الحكومة الإسرائيلية إخلاء الشمال هدية لحزب الله؟ وكيف هي الصورة الآن؟    هيئة التجارة البحرية البريطانية تعلن عن هجوم استهدف سفينة في السواحل اليمنية    بايدن مخاطبًا ماكرون: شراكة الولايات المتحدة وفرنسا «لا تتزعزع»    ترتيب مجموعات تصفيات كأس العالم لقارة افريقيا 2026    بيلينجهام الأعلى قيمة سوقية بين لاعبي أمم أوروبا 2024    ننشر أوائل الشهادات الإعدادية والإبتدائية الأزهرية بالوادي الجديد    أطول إجازة للموظفين في مصر خلال 2024.. عدد أيام عطلة عيد الأضحى    حبس 8 مسجلين خطر بينهم سيدة ضبط بحوزتهم 13 كيلو مخدرات بالقاهرة    قرار صادم من نقابة المهن الموسيقية بشأن واقعة صفع عمرو دياب ل معجب    دعا لمقاطعة أعمال «الهضبة».. عمر هريدي: ابناء الصعيد يتضامنون مع الشاب «سعد» الذي صفعه عمرو دياب    كوميديا وإثارة وظهور مُفاجئ ل السقا وحمو بيكا..شاهد برومو «عصابة الماكس» (فيديو)    ليلى عبد اللطيف تكشف حقيقة توقعها بعيد أضحى حزين في مصر    تحرك عاجل من السعودية بشأن الحج بدون تصريح    مقتل 45 شخصا على الأقل جراء صراع عشائري في الصومال    استشهاد 3 فلسطينيين وإصابة آخرين جراء استهداف طيران الاحتلال لشقة في غزة    ياسر إدريس: لا ينقصنا لاستضافة الأولمبياد سوى إدارة الملف    طارق سليمان: كنت مع مشاركة شوبير في نهائي إفريقيا على حساب الشناوي    خلال الربع الأول.. 129% نموًا بصافى أرباح بنك القاهرة والإيرادات تقفز إلى 7.8 مليار جنيه    استمرار الموجة الحارة.. الأرصاد تكشف عن حالة الطقس المتوقعة اليوم    خبير مائي: سد النهضة على وشك الانتهاء من الناحية الخرسانية وسيولد كهرباء خلال سنتين    جامعة العريش تطلق مبادرة شاملة لتأهيل الخريجين لسوق العمل    «هيكسروا الدنيا».. سيف زاهر يكشف ثنائي جديد في الزمالك    ضبط مصري يسرق أحذية المصلين بمسجد في الكويت وجار إبعاده عن البلاد (فيديو)    مع بدء رحلات الحج.. خريطة حدود الإنفاق الدولي عبر بطاقات الائتمان في 10 بنوك    لميس الحديدي توجه رسالة للحكومة بشأن قطع الغاز الطبيعي عن مصانع الأسمدة    إصابة 6 أشخاص في تصادم سيارة وتروسيكل بالإسماعيلية    مصرع طفل عقب تعرضه للدغ عقرب فى جرجا بسوهاج    "دا مينفعش يتقاله لا".. القيعي يكشف أسرار تعاقد الأهلي مع ميدو    طارق قنديل يتحدث عن.. سر نجاح الأهلي ..البطولة الأغلى له.. وأسعد صفقة بالنسبة له    السعودية تبعد 300 ألف شخص من مكة لعدم حملهم تصاريح الحج    النديم: 314 انتهاك في مايو بين تعذيب وإهمال طبي واخفاء قسري    ليلى عبداللطيف تتسبب في صدمة ل أحمد العوضي حول ياسمين عبدالعزيز (فيديو)    "نيويورك تايمز": قنبلة أمريكية صغيرة تقتل عشرات الفلسطينيين في غزة    ما أهم الأدعية عند الكعبة للحاج؟ عالم أزهري يجيب    وكيل صحة الإسماعيلية تتفقد انتظام سير العمل بعيادة الجلدية ووحدة طوسون الصحية    حظك اليوم برج الجدي الأحد 9-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    أيمن موكا: الجونة لم يبلغني بمفاوضات الزمالك ولم أوقع    زراعة القاهرة تحصل على شهادة الأيزو لجودة المؤسسات التعليمية.. وعميد الكلية: جهد جماعي    ما هي أيام التشريق 2024.. وهل يجوز صيامها؟    دعاء ثالث ليالي العشر من ذي الحجة.. اللهم بشرنا بالفرح    عقوبة تصل ل مليون جنيه.. احذر من إتلاف منشآت نقل وتوزيع الكهرباء    وزير الصحة يتفقد مستشفى رأس الحكمة والضبعة المركزي بمحافظة مطروح    انتصار ومحمد محمود يرقصان بحفل قومي حقوق الإنسان    قومي حقوق الإنسان يكرم مسلسل بدون سابق إنذار (صور)    «تخلص منه فورًا».. تحذير لأصحاب هواتف آيفون القديمة «قائمة الموت» (صور)    وزير الصحة يوجه بسرعة توفير جهاز مناظير بمستشفى الضبعة المركزي    وزير التعليم الفلسطيني: تدمير 75% من جامعاتنا والمدارس أصبحت مراكز للإيواء    حظك اليوم برج العذراء الأحد 9-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    تحرير 40 مخالفة تموينية فى حملة على المخابز والمحال والأسواق بالإسماعيلية    جامعة المنوفية تشارك في مبادرات "تحالف وتنمية" و"أنت الحياة" بقوافل تنموية شاملة    فضل صيام العشر من ذي الحجة 1445.. والأعمال المستحبة فيها    وكيل صحة الشرقية يتفقد سير العمل بمستشفى أبو كبير المركزي    أسماء أوائل الشهادة الابتدائية الأزهرية بشمال سيناء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شيخ الوقت
نشر في الأهرام اليومي يوم 13 - 08 - 2010

لا يذكر متي ترامت النصيحة إلي سمعه‏.‏ ربما في نصف الدائرة حول إمام جامع علي تمراز وهو يلقي عظة ما بعد صلاة المغرب وربما عند انفراط حلقة الذكر من فوق رصيف البوصيري‏,‏ وربما كان سماعه لها وهو ينزل درجات السلم في طريقه إلي داخل السيالة‏.‏
التقط الكلمات‏,‏ تأملها‏,‏ تدبر معانيها‏,‏ أزمع أن تكون خطواته التالية في اتجاهه‏.‏ في باله الزمن القديم للطرق الصوفية‏,‏ يرتدون الجلابيب‏,‏ فوقها الأوشحة الخضراء‏,‏ يمضون من ميدان أبو العباس قبل أن يعاد انشاء الجامع إلي سراي رأس التين‏.‏ يطل الملك من أعلي السور ذي المقرنصات في نهاية الحديقة الهائلة‏,‏ تعلو أصواتهم بالأدعية والدعوات‏,‏ يلوح لهم بيده يأمر للجميع بمنح وعطايا‏,‏ وإن ميز مشايخ الطرق بما يؤكد مكانتهم‏.‏
عرف أن المريد الحقيقي لابد أن يكون له في زمنه شيخ يأخذ العهد علي يديه‏,‏ يبصره بحقائق الدنيا‏,‏ وما ينبغي أن يعد العبد به نفسه للحياة الآخرة‏,‏ صورة ما يطلبه متناثرة في الجوامع والمساجد والزوايا والموالد وحلقات الذكر والجلوات‏.‏ الصورة الحقيقية‏,‏ شيخ الوقت الذي يسعي اليه يختلف عن كل هؤلاء‏,‏ يعني بترتيب المقامات والأحوال‏,‏ بما يبصر أتباع الطريقة بخطواتهم التالية‏,‏ تؤهله قدرات الزهد والتقشف والطاعة وتربية النفس والحرمان والتقرب إلي الله‏,‏ يمتلك من قوة الفراسة ونفاذ البصيرة‏,‏ ما يتيح التعرف إلي دخائل النفوس‏,.‏
‏(2)‏
أحزنه أن غالبية مريدي الصوفية لا يعرفون الطريقة التي ينتسبون اليها‏.‏ غابت عهود الأولياء الأربعة ابن حنبل والشافعي وأبي حنيفة ومالك اختلطت الاجتهادات والآراء‏,‏ وتشابكت فنسي الناس إلا أنهم سنة‏,‏ فرق الصوفية في الجوامع والموالد والجلوات‏,‏ الشاذلية والأحمدية والنقشبندية والرفاعية والقادرية والخلوتية والبرهامية والقادرية والشعرانية والبسطامية والطيلسان والرداء وغيرها‏,‏ لكل فرقة خليفتها وعلمها وبيارقها وشعائرها وطقوسها‏.‏ كيف يعيشها الناس دون أن يتبينوا الفوارق بينها‏.‏
مايهمه ويسعي إليه‏,‏ أن يحصل علي اعتراف بانتسابه إلي طريقة لها شيخها ونقباؤها ومريدوها وموالدها وطقوسها‏.‏
‏(3)‏
لو أن وليا اختار مجلسا في جامع الشيخ إبراهيم‏,‏ القريب من بيته في السكة الجديدة‏,‏ المطل علي زحام السوق‏,‏ ربما كان شيخه اخترق زحام شارع الميدان إلي الموازيني‏.‏ طالعه ميدان الأئمة بسرادقاته وخيامه وأعلامه وبيارقه وإنشاده وأذكاره‏.‏
مال إلي الدحديرة خلف الجامع‏.‏ أبطأت خطواته أمام زاوية الست مدورة‏.‏ مضي يغالب ارتباكه إلي داخل الزاوية‏.‏
تردد في الذهاب إلي خلوة الشيخ‏.‏ يعرف أنها مكان عكوفة علي نفسه‏,‏ يأخذ منها ويعطي‏,‏ يقرأ ويتأمل ويتهدج بالأدعية‏,‏ استغرقته الرياضات والمجاهدات‏,‏ اجتذبته المشاهدات والمكاشفات‏.‏
أول مايذكره منه‏,‏ جولاته في شوارع بحري ودكاكينه ومقاهيه ومساجده وزواياه‏,‏ يأخذ من الناس ويعطي‏,‏ يسألهم ويجيب عن أسئلتهم‏,‏ ييسر أمور الدنيا‏,‏ ويشرح ما غمض من شأن الآخرة‏.‏
اختار زاوية الست مدورة‏,‏ زاوية تخصه‏,‏ ينفرد فيها بأوراده وقراءاته وتأملاته‏,‏ لايدخل أحد إلا بإذنه‏,‏ وللمثول في مجلسه‏.‏
زهد فيما يقبل عليه الناس من لذة ومال وجاه‏,‏ انفرد عن الخلق في الخلوة والعبادة‏.‏
وروي أنه كان يبيت طاويا‏,‏ لايأكل‏,‏ ولايشرب‏,‏ أياما متوالية قد تجاوز الأسابيع والأشهر‏.‏ وجد في قرب الزاوية من زحام الناس‏,‏ وانشغالهم بالبيع والشراء‏,‏ مايصرفهم عن خلوته بسط السجادة‏,‏ يؤدي الصلاة في أوقاتها‏,‏ يكثر من الأدعية والابتهالات‏.‏
روي أن موضع الزاوية لم يكن علي حاله حين اختارها ولي الله لاعتكافه‏.‏ كانت الأرض حولها خلاء‏.‏ بني الناس البيوت‏,‏ وكثر المتصوفة وأرباب الأشاير‏,‏ عمر المكان بالبيوت والناس‏,‏ سكنوا بالقرب من مقام ولي الله‏,‏ ليعيشوا بالبركات الربانية‏.‏ صار شيخ مشايخ زمانه‏.‏
لم يغلق الشيخ خلوته في وجه أحد‏.‏ بابها مفتوح أمام الخلق‏,‏ من يطلب اللقاء فإنه يظل في الصمت حتي يفرغ الشيخ من قراءاته‏,‏ أو تأملاته‏.‏ تشجعه ابتسامة عينيه علي أن يعرض ما يعانيه‏.‏
عرف عنه القدرة علي الشفاعة للراحلين‏,‏ وتحقيق الرغائب‏,‏ واستحضار ملوك الجان‏,‏ وتزويج العانس‏,‏ وإعادة الغائب‏,‏ وشفاء المريض‏,‏ والإصلاح بين الزوجين‏,‏ ورفع الحسد والعمل والسحر والمس بالجن والعفاريت‏.‏ روي أن الأسماك كانت تطلب غوثه‏,‏ لايلقي الصيادون شباكهم ذات الثقوب الضيقة‏,‏ فتصعد بالأسماك من كل الأحجام‏.‏ جعل الله صيد البحر حلالا‏,‏ لكن المعني يغيب في صيد الأسماك الصغيرة‏,‏ نصح صيادي الجرافة والطراحة أن تقتصر شباكهم علي الثقوب الضيقة‏,‏ فلاتجرف الأسماك الصغيرة قبل الأوان‏.‏
أفاض عليه الناس مالاحصر له من الهدايا والنذور‏.‏
لاحظ المريدون أنه يتبسط في أمور الطريقة‏,‏ يأخذ من أموالها ما قد لايحتاجه ولا يستحقه‏,‏ وينفق في مخالفة للقواعد المشروعة‏.‏
حاولوا الفهم‏,‏ ملأوا حياتهم بالأسئلة‏,‏ عرفوا أنه يدعي العمل علي تصفية نفسه‏,‏ وتجريدها من علائق الجسد‏,‏ والزهد في الدنيا‏,‏ والاستهانة بملاذها‏,‏ لكنه في الحقيقة يرغب في الدنيا‏,‏ يتمني نعيمها‏.‏
‏(4)‏
اندس في نصف الدائرة حول دكة المبلغ‏,‏ اجتذبته كلمات الإمام عن جسر الحياة إلي الآخرة‏,‏ وقصص الرسل‏,‏ ومناقب الصحابة والتابعين‏.‏
لاحظ وجود عدد من أكابر العصر في مجلس وعظه‏,‏ فاطمأن إلي صدق دعوته‏.‏
بعد صيته بالتقوي والصلاح‏.‏ تحركت القلوب إلي الله بتأثير كلماته‏.‏ نسب إليه العديد من الكرامات والأحوال المشهورة‏.‏
يقضي معظم وقته في صحن الجامع‏,‏ بالقرب من مقام السلطان‏,‏ اقتصرت حياته علي الصلاة والذكر والاعتكاف‏,‏ يتجه بعينيه إلي الباب الرئيسي‏,‏ فلا تقع النظرات علي النسوة القادمات بالمقام‏.‏
لم يكن يختار مريديه بالمصادفة‏,‏ إنما يدقق في الاختيار‏,‏ يسأل عن الأصل والبيئة والسن والتعليم والمهنة‏,‏ وما إذا كان أعزبا أو متزوجا‏,‏ يحفظ القرآن كله‏,‏ أم يكتفي بأجزاء‏,‏ أو سور قصيرة‏,‏ يصطفي من يشاء‏,‏ يقربه‏,‏ ويخلص في تعليمه‏.‏
عزف عن السير في الأسواق‏,‏ ومخالطة الناس‏.‏ لايأذن لأتباعه‏,‏ ولا لأي مريد‏,‏ أن يمثل بين يديه‏.‏ جلساء القطب من أكابر أهل الحضرة‏.‏ منع دخول حضرته إلا لمن كانوا خاصة مريديه‏,‏ لايرفض الاتصال بسائر الناس‏,‏ وإن خص بقطبيته وجهاء القوم وأعيانهم‏.‏
اعتزت الطريقة بمن كانت تضمه من فقهاء ومحدثين ومفسرين وقراء وزهاد ونساك‏.‏ أيقنوا من اتصاله بالله‏,‏ تزلفوا إليه‏,‏ يطلبون الرضا والشفاعة‏.‏
لاحظ في الناس انشغالهم بالدنيا أخذ عليهم تهافتهم عليها‏,‏ وإهمالهم القيام بفروض الدين وضع لمريديه قواعد السلوك الصوفي الصحيح‏,‏ قال ان سبب كل المشكلات التي تحيق بنا وتستغرقنا‏,‏ هو البعد عن الله‏,‏ وقال ان الحل لايأتي إلا بالعودة الي الله‏,‏ الي منهج الذات الإلهية‏,‏ وقال ان الحياة الأخري هي الباقية‏.‏
ذكر الشيخ اتباعه بقول الجنيد ان اللحظة التي يعرضون فيها عن الله‏,‏ لايمكن تعويضها بألف سنة من الطاعة والحضور‏.‏
واتته جرأة فسأل الشيخ بما أثاره‏.‏
شوح البشيخ بيد غاضبة فغادر المسجد‏.‏
‏(5)‏
لم يكد يستقر به الحال في جامع سيدي خضر‏,‏ حتي أخذه انصراف المريدين عن الصلاة خلف الشيخ وحضور مجالسه‏,‏ تناقصوا فلم يزيدوا عن آحاد‏,‏ عاب المريدون علي الشيخ أنه يحرم ويحلل علي هواه‏,‏ قدر ماتريده مصلحته‏,‏ اشترط علي مريديه ألا يزوروا وليا أو صالحا من أهل الزمان الا بإذنه‏,‏ ولا يحضرون مجلسا غير مجلسه‏,‏ ولا يستمعون الي سواه‏..‏ وضع أبوابا‏,‏ ألزم بها كل من سلك علي يديه‏,‏ لا يأذن لأحد ممن يسلكون علي يديه أن يقرأ ورد غيره‏:‏ من سلك علي أيدينا لايجوز له أن يهجر أورادنا‏,‏ ويقرأ أوراد غيرنا‏,‏ يعاقب المريد الذي يتغيب عن تلاوة الورد الذي رتبه شيخه‏,‏ يشتد في محاسبة من يتغيب عن مجالس الذكر‏,‏ يعنفه بكلمات قاسية‏,‏ وربما منعه رضاه‏,‏ وقد يطرده من حضرته ويرفض عودته إلا بإظهار التأسف والمسكنة‏.‏
إذا تغيرت نفسه‏,‏ وانقلب مزاجه‏,‏ فإن الكدر يتملكه‏,‏ ويركن الي الاحتجاب‏,‏ وعدم المخالطه‏,‏ من يقتحم عليه خلوته يواجه ما لايقوي علي صده من الغضب‏.‏
حين تأخر عن موعد الدرس‏,‏ قال الشيخ في لهجة تمزج بين الإشفاق والحسم‏,‏ إنه قد اشترط في مريديه الا يتغيبوا عن حضور دروسه‏,‏ طرده من جامع سيدي خضر‏,‏ حيث كان يلقي دروسه‏.‏
تمرد أتباعه علي أوامره‏,‏ وثاروا علي أحكامه‏,‏ توزعوا في فرق وطرق أخري‏,‏ وفضلت أعداد ان تنسي التصوف بالكلية‏.‏
‏(6)‏
سعي اليه الآلاف من الاتباع والمريدين‏,‏ ملكهم‏,‏ برع في اجتذابهم الي دنياه‏,‏ يعرف ما يجذب الأسماع الي حكاياته‏,‏ أقبلوا علي مجلسه في زاوية خطاب‏,‏ تكدسوا في الزاوية‏,‏ تزايدت أعدادهم حتي امتلأ بهم الميدان الصغير أمام الزاوية‏.‏
قال انه أخذ العهد علي سيدي أحمد الشاذلي جاءه في المنام‏,‏ اطمأن الي علو همته قبل ان يوافق علي تلقي عهده‏.‏
من يقصد قطبيته‏,‏ فإن عليه في البداية أن يتوضأ‏,‏ ويصلي ركعتين بنية التوبة‏,‏ والإنابة‏,‏ ثم يزحف علي مقعدته الي حيث نصف الدائرة أن زادت اللمة فهي دائرة كاملة يجد لنفسه موضعا‏,‏ ويصيخ سمعة للكلمات المحلقة في النورانية‏.‏
تكاثر الناس علي مجلسه‏,‏ ينصتون الي أحاديثه وعظاته‏,‏ يتأثرون بها يقرأون دلائل الخيرات في حلقات الحضرة‏.‏
كان له وقار وهيبة في أعين مريديه‏,‏ لم يقدم المريدون علي أي فعل‏,‏ مالم يفيدوا من رأيه ومشورته‏,‏ وتنفيذ مايقضي به‏.‏ أشد ما هم الشيخ تلاوة
القرآن وحلقات الذكر والانشاد الديني‏,‏ قال‏:‏ لن أقبل في طريقتي أحد‏,‏ مالم يكن حفظ القرآن كله‏,‏ وقرأ من الأحاديث الشريفة‏,‏ وسيرة النبي‏,‏ وقصص الصحابة والتابعين‏,‏ مايصح به انتسابه الي الصوفية‏.‏
لاحظ في تلاوة العديد من المريدين للقرآن انها لاتجاوز حناجرهم‏,‏ عاب مظهرية الأداء يثيره التطوح بلا معني‏,‏ عني بدقة حركات الذكر‏,‏ طريقة الاهتزاز‏,‏ وتناغم أصوات الذاكرين‏,‏ والناحية التي يميل ناحيتها في نطق كل كلمة‏,‏ عامل المتهاونين والخارجين علي أوامره بالحساب العسير‏.‏
أخذ عليه المريدون تشبثه برسوم الدين وطقوسه‏,‏ وإهماله قواعد الدين وأسبابه‏,‏ هو عاجز عن فهم نظرتهم الي الأمور‏,‏ ومعني الطقوس التي يمارسونها‏.‏
أعادوا النظر في ماجري‏,‏ قلبوه‏,‏ ناقشوه‏,‏ تقصوا أسبابه ونتائجه أدركوا مابدا غامضا‏,‏ أو غاب عن تصوراتهم رفض المريدون كل أفكاره إنهم استغنوا عن القطبية‏,‏ فلا إمام لهم ولا ولي‏.‏
‏(7)‏
قال لنفسه‏:‏ هذا شيخي‏:‏علق به قلبه‏,‏ أزمع أن يأخذ عنه الطريقة‏,‏ عرف صحة طريقته من وقائع‏,‏ قيل إنها ظهرت علي لسانه ويديه‏.‏
أخلص العبادة لله دون أن تكون له زاوية يستقبل فيها مريديه‏,‏ أخذ الطريق‏,‏ سار فيه شوطا‏,‏ ثم صار صاحب زاوية‏,‏ فيها العشرات من المريدين‏,‏ يذكر مريديه بالإمام النوري‏,‏ عندما يجلس اليهم في بقعة مظلمة‏,‏ كان النور ينبعث من فمه وهو يتكلم‏,‏ فيضئ المكان‏.‏
فشت الطريقة في بحري‏,‏ وافتتن بها الناس‏,‏ اجتذبت الآلاف من المريدين‏,‏ حتي هؤلاء الذين لايدرون بالصوفية‏,‏ ولا بأحكامها‏,‏ أو طقوسها‏,‏ خضعوا له‏,‏ ساروا تحت رعايته‏.‏
أسرار الحقيقة لايفهمها غير العلماء الواصلين‏,‏ هو قطع المنازل‏,‏ ترقي في المقامات‏.‏
تعلم علوم الظاهر والباطن‏,‏ جمع بين الفقه ورواية الحديث‏,‏ حفظ سائر مايوصف به الله تعالي من معاني الرحمة والعدل والعلم والقدرة والمحبة والعشق والحكمة والعظمة والجمال والجلال‏.‏
أعرض عن زخرف الحياة وزينتها زهد فيما أقبل عليه الناس من المال وعلائق الجسد‏,‏ قطع المعاملة مع الخلق‏,‏ وفتح المعاملة مع الله سبحانه‏,‏ صان قلبه من الاتساع لغير حب الذات الإلهية‏,‏ روي مريدوه ان قربه من الحق سبحانه بلغ حد التدلل‏,‏ والأنس‏,‏ ورفع الكلفة‏.‏
عرف عنه كثرة تصدقه علي فقراء الطريقة‏,‏ يرفض أن يكون بينهم معوز أو محتاج‏.‏
وكان يجري الأرزاق علي طلبة معهد المسافر خانة الديني‏,‏ حتي الدراويش الذين بلا عمل‏,‏ كان يقربهم إليه‏,‏ ويحاول إلحاقهم باشغال يتكسبون منها‏,‏ لاتقتصر حياتهم علي مايصل الي أيديهم وأفواههم‏,‏ ومن الصدقات والزكوات‏,‏ وفي موالد الأولياء‏.‏
ذات يوم‏,‏ لم يره الناس يصلي‏,‏ قيل انه رفع التكليف‏,‏ وقيل انه يحرص علي الصلاة في خفاء عن الناس‏,‏ أو يؤدي أوقاتها في البقاع المقدسة‏,‏ استغرقته أحوال الجذب والمحو والسكر والفناء‏.‏
أخذ عليه الناس أنه يسقط عنه كل مايأمر به‏,‏ ويفعل كل ماينهي عن فعله‏.‏
قال ان الولاية تعفيه من تكاليف الدين‏,‏ ترفعه عن سائر البشر‏,‏ تجعله فوق قواعد الدين‏,‏ وأوضاع العرف‏,‏ ومقتضيات التقاليد‏.‏
أضاف وعيناه تفحصان المريدين الذين امتلأت بهم القاعة‏:‏ ان من آداب المريد نحو شيخه ان يؤثر طاعته‏,‏ ولو كان فيها ما لايتفق مع قواعد الدين‏.‏
قنع المريدون بلبس الزي‏,‏ دون ان تكون لهم صلة بفروض الدين من وضوء وصلاةوصوم وتقيد بالكتاب والسنة‏,‏ يطيعون أوامر الشيخ دون مناقشة‏,‏ ولا مراجعة‏.‏
أخذ الناس الذهول حين منع أداء الشعائر في المسجد‏,‏ فلا أذان ولا إقامة ولا صلاة‏.‏
حذر الشيخ مريديه من الغلو في طلب الآخرة ينسون دنياهم‏,‏ وينسون أنفسهم دعاهم الي زينة النفس‏,‏ ونعيم الدنيا‏,‏ أذن لهم بالانسلاخ من التكاليف التي فرضها الدين‏,‏ أن يقولوا كل مايخطر لهم‏,‏ يفعلوا كل مايتشهوا منه‏.‏
أهمل أصوات المريدين التي علت دون تدبر تتهمه بأنه أساء استخدام علمه
‏(8)‏
المولد‏..‏
الناس علي الغاية في الزحام‏.‏
استولت كل طريقة علي جانب من الميدان‏,‏ أو شارع جانبي‏,‏ أو قطعة خلاء قريبة‏,‏ أو خرابة تقيم سرادقا يضم اتباعها‏,‏ من تضيق به سعة السرادق يجد الملاذ في خيام الميدان وأكشاكه‏,‏ حتي الدحديرة الصاعدة والنازلة مابين ميدان أبوالعباس وأول الموازيني‏,‏ شغلتها فرق صوفية‏,‏ ميزت كل واحدة نفسها بعلمها الخاص‏,‏ وان اختلط المداحون وأرباب الأشاير والمنشدون والمغنون والسبح الكبيرة والملاحف والألعاب والملاهي والحواة والنذور والشموع والخراف والعجول‏,‏ تعالت دقات الطبول والدربكات والدفوف‏,‏ ونقرات الأصابع‏,‏ وأصوات العود والناي والربابة والمزمار والنقارة‏,‏ تداخلها ابتهالات القراء والذاكرين وأورادهم وانشادهم وتهليلهم وصيحات الوجد والصلاة علي النبي‏,‏ ومزيج البخور من الصندل والمسك والعنبر والزعفران‏.‏
أخذته الحيرة‏,‏ لايدري الي أين يسير بدا الناس علي الغاية في الزحام‏,‏ السرادقات والخيام والأكشاك في جوانب الميدان‏,‏ رفعت كل طريقة ما يعلن سطوتها من السيوف الخشبية والاعلام والأشاير ومزاريق الجريد والرايات والخرق الملونة‏.‏
لم يحاول اختراق الزحام الي موضع طريقة ما‏,‏ أزمع التعرف الي الشيخ الذي يرجو أخذ العهد علي يديه‏,‏ الطريقة التي يزمع الانتساب اليها‏,‏ من يريده هو شيخ الوقت‏,‏ يخضع له الدراويش بصرف النظر عن المهن التي ينتسبون اليها‏,‏ هو ماض يجد الحاضر في إيمان كل الدراويش به‏.‏
طال تردده‏,‏ ثم مال الي الموازيني
تهيأ لزحام شارع الميدان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.