مع تفاقم الأزمة الاقتصادية تلجأ الحكومات الأوروبية إلي التقدم بسياسات تقشف تمس ما كان مستقرا للأفراد في مجتمع الرفاة الأوروبي خلال العقود اللاحقة لنهاية الحرب العالمية الثانية. . بالإضافة إلي فرض الضرائب وتجميد الأجور والمعاشات وخفض الإنفاق الحكومي علي الخدمات الاجتماعية العامة لجأت هذه الحكومات إلي رفع سن الإحالة إلي التقاعد للنساء العاملات كما للذكور, بطبيعة الحال, غير مبالية بما نسميه بمستويات العمل وظروفه ومعاييره التي كانت مستقرة طوال تلك الفترة. وقد تنبأ الكثيرون بهذه الهجمة المجتمعية علي حقوق الأجراء في مجتمعات الرفاة والديمقراطية الليبرالية طوال فترة العقدين السابقين. فمع سقوط حائط برلين, رمز سقوط التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي ومجموعة بلدان شرق أوربا, سقطت فكرة التنافس والتباري بين النظامين السياسيين القديمين, الاشتراكية من جانب والرأسمالية من الجانب الآخر. فالتاريخ لا يمكن إلا أن يذكر أن منظمة العمل الدولية المعنية بوضع معايير العمل نشأت عام1918 أي بعد عام واحد من وصول الاشتراكية إلي روسيا القيصرية القديمة عام.1917 ولم تكن نشأتها في ذلك العام مجرد صدفة أرادت بها الدول تطوير معايير وعلاقات العمل. كما أن استمرار هذه المنظمة قائمة وفاعلة رغم سقوط عصبة الأمم التي أسست بعد الحرب العالمية الأولي لتأتي بعدها منظمة الأممالمتحدة بعد الحرب الثانية لم يكن صدفة ثانية. فقد استمرت منظمة العمل الدولية قائمة طوال الفترة منذ إنشائها وتعمل علي وضع معايير العمل وتطويرها كما تهتم بالحريات النقابية وتراقبها حتي خلال الحرب العالمية الثانية. وعادة ما يقال أنها الوكالة الدولية الابنة التابعة للمنظمة الأم ولكن التي تكبرها سنا وخبرة. ولاشك أن وجود منظومتين سياسيتين في مواجهة بعضهما البعض, دفع كل منظومة منهما علي تقديم أفضل مستويات العمل,كما تراها, للإبقاء علي أجرائها في إطار نظمها السياسية. فمن جانب الاشتراكية حصل الأجراء علي العمل والعلاج والتعليم والمعاش والحياة الأكثر أمنا اجتماعيا أما الرأسمالية فقد قدمت الحريات النقابية ومعايير عمل أكثر عدلا من تلك التي كانت قبل الحرب العالمية الأولي. فأقرت نظم التقاعد والتأمين الصحي والضمان الاجتماعي وحق الإضراب. واستمرت تتمايز علي الاشتراكية بالحريات النقابية العامة, حق التنظيم والإضراب والتظاهر وعقد اتفاقيات العمل الجماعية.استفاد الأجراء من المنافسة الحادة. وكان أكثر المستفيدين أجراء أوروبا الرأسمالية. الآن لم يعد هناك نظامان ولا منافسة ولا مباراة, الموجود الآن هو أزمة اقتصادية. فانتهي الأمر. فالذي تسعي إليه حكومات بلدان منطقة اليورو الآن بجانب حزمة التقشف هو رفع سن التقاعد للجميع للتخفيف من إنفاقها العام. تسعي اليونان لرفعه من سن60 إلي65 للنساء ومن60 إلي68 للذكور. في فرنسا تناضل الحكومة الفرنسية منذ فترة لرفعه من60 إلي62 للجميع. مع حكومة المحافظينالأحرار الجديدة خرج اقتراح لرفع السن الإحالة إلي التقاعد إلي السبعين. في إيطاليا تسعي الحكومة إلي الوصول بسن التقاعد إلي65 للنساء وللذكور. وهكذا.. هل يعارض كل الأجراء هذه الاقتراحات؟ يوافق عليها البعض, كما في إيطاليا مثلا. ولكن يعارضها الكثيرون. وللحكومات منطق وللموافقين منطق ثان وللمعارضين منطق ثالث. تستند الحكومات علي عدد من الحقائق, منها أن معدلات الحياة قد ارتفعت. فعندما حدد سن التقاعد ببلوغ الستين كان متوسط العمر يدور حول هذه المرحلة. ولكن مع تطور علوم الطب فقد ارتفعت المعدلات الحياة إلي ما يزيد علي ال88 سنة مما يعني أن الإنسان سيقضي عددا طويلا من سنوات عمره خارج العملية الإنتاجية فترتفع معدلات الإعالة علي القائمين من الشباب علي هذه العملية. وتأتي الحقيقة الثانية في أن أوروبا, بالتحديد, تشكو من الخلل الديمغرافي. فعدد من هم في سن التقاعد يتزايد عاما بعد عام فحين ينخفض عدد الشباب والشابات من المواطنين الأصليين الداخلين إلي سوق العمل مما يزيد من اعتماد هذه الدول علي العمالة الخارجية. خلال العشرين عاما القادمة ستكون نسبة25% من مجمل تعداد الأوربيين ممن هم فوق سن الخامسة والستين أي من المستحقين للمعاشات. الحقيقة الثالثة التي تستند عليها الحكومات هي أن فنون وأدوات الإنتاج التي حدد علي أساس وجودها في مواقع العمل, سن الستين كسن مناسب للتقاعد تطورت وتقدمت تقنيا ولم تعد تلك الفنون والأدوات القديمة التي كانت تحتاج إلي الجهد الجثماني والقدرات العضلية العالية خاصة بالنسبة لعمال الصناعة والإنشاءات, مما يساعد هؤلاء العمال علي الاستمرار في العمل الإنتاجي لسنوات ما بعد سن الستين. يوافق علي هذه الآراء العاملون في مجالات العمل القائمة علي التقنية الحديثة كوحدات الاتصالات علي سبيل المثال. يقولون أن أعمالهم الآن لم تعد تحتاج إلي الجهد القديم كما أنها لا تعتمد علي التقسيم العضلي القديم, لذا يمكن الاستمرار في العمل حتي إلي ما بعد سن السبعين. ويأتي معظم المعارضين من شرائح العاملين في المجالات التقليدية خاصة في الصناعة التحويلية. فالعاملون في الصناعات الهندسية والميكانيكية والكهربائية, وخاصة محطات توليد الكهرباء, وكذلك العاملين في صناعة الاستخراج, كما في منصات وحقول استخراج البترول أو المناجم, بجانب العاملون في بعض المهن كالتعليم والخدمات العامة يعارضون فكرة التمادي في رفع سن الإحالة علي المعاش بحجة التخفيف في الإنفاق الحكومي. فمن رأيهم أن التقنيات الحديثة قد دخلت بالفعل غالبية قطاعات العمل ولكنها لم تلغي الجهدين العضلي والعصبي بشكل كامل. ودليلهم علي ذلك ارتفاع عدد حالات الانتحار التي وقعت في فرنسا وفي الصين في وحدات عمل عالية التقنية كنتيجة للجهد العصبي, بالتحديد, الذي يتحمله العاملون. كما يستند العاملون المعارضون لفكرة مد سنوات العمل وتأخير سن الإحالة علي المعاش علي المعايير التي أقرتها منظمة العمل الدولة الخاصة بالعمالة في الأعمال الشاقة, كالأعمال التي تتطلب العمل في أعماق أرضية أو مرتفعات شاهقة أو درجات حرارة عالية أو ورديات ليلية مستمرة ومتواصلة. أقرت المنظمة علي مدي تاريخ عملها حق العاملين في كل تلك الظروف إلي الإحالة علي التقاعد في فترة ما بين سن الخامسة والخمسين وسن الستين. كان ذلك اعترافا من المجتمع الدولي بالأخطار الصحية والمهنية التي يتعرض لها العاملون في هذه الأعمال طوال فترة نشاطهم الإنتاجي. يدور الجدل الآن بين النقابات وبين أجهزة الدولة حول هذا الموضوع.. ونعود ونذكر أنه حوار أوروبي ساخن لأن أوروبا نعاني من عكس ما نعاني نحن منه. تعاني أوروبا من تراجع أعداد من هم في سن العمل. ونحن نعاني من زيادة أعداد من هم في سن العمل وانتشار البطالة في صفوفهم.