أعترف أني لا أجد إجابة واضحة أو محددة عن هذا السؤال, فما يقوله الرئيس مبارك ويؤكده, غير مرة, أننا دولة مدنية يحكمها دستور(1970) من صنع البشر, وهي دولة قائمة علي الفصل بين السلطات, وعلي احترام حقوق المواطنة وعدم التمييز بين المواطنين, علي أساس من دين أو عرق أو ثروة..الخ, فالجميع أمام القانون والدستور سواء, وأن حرية الرأي والتعبير والعقيدة وحرية الصحافة والإعلام الخاص مكفولة للجميع بلا استثناء, ولا يملك منصف إنكار حقيقة أن عهد الرئيس مبارك تميز بدرجة عالية من الحرية غير المسبوقة التي تمتعت بها الصحافة وأجهزة الإعلام المستقلة عن الدولة, وذلك الي الدرجة التي دفعتها الي التفوق علي الإعلام الحكومي في حالات كثيرة, وأظهرت فرسانا للكلمة, ومدافعين عن الحرية بكل معانيها والعدل الاجتماعي بكل صوره, كل هذا صحيح ولا ينكره إلا مكابر أو معاند. ولكن الواقع الذي نعيشه فعليا يدعو الي الشك في أننا نعيش في ظل دولة مدنية بكل معني الكلمة حقا وصدقا, ومصدر شكي الذي لا أجد له اجابات شافية حاسمة يطمئن لها قلبي يرجع الي ظواهر عديدة ولافتة, أهمها المادة الثانية من الدستور الذي فصله ترزية قوانين السادات, استجابة لرغباته, وتعبيرا عن واقع التحالف بينه والجماعات المتأسلمة التي أطلق سراحها من السجون الناصرية ليدعم موقفه في مواجهة قوي اليسار والناصرية القومية علي السواء, وكانت النتيجة أن أصبحت المادة الثانية من الدستور علي النحو التالي: الإسلام دين الدولة, واللغة العربية لغتها الرسمية, ومباديء الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع, وكان من الطبيعي أن يتحدث ممثلو التأسلم السياسي, من حلفاء السادات, عن أسلمة القوانين, وعن أسلمة الدولة وعن تغيير مواد القانون لتطابق الشريعة الإسلامية, ووصل الأمر الي درجة الحديث, أحيانا, عن ضرورة العودة الي رجم الزاني والزانية, وقطع يد السارق, فضلا عن شيوع تهمة التكفير التي أصبحت سهلة, شائعة علي ألسنة مكفراتية جدد, يتربصون بالمخالفين لهم في الرأي, وهو الأمر الذي أدي الي اتهام السادات نفسه لأنه خان العهد الذي عاهد المتأسلمين عليه فيما زعموا, وتبع ذلك اغتيال فرج فودة ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ, والحكم علي نصر أبوزيد بالردة, ووصل الأمر بواحد ممن كفروه الي درجة الافتاء بعدم جواز دفنه في مقابر المسلمين, علي الرغم من أن نصر صرح بالشهادة عشرات المرات, وعلي الرغم من أن الحكم بردته والتفريق بينه وزوجه قد أوقف بحكم مضاد, فظل نصر, رحمه الله, مسلما في نظر القانون والشرع, ولم يحدث تفريق قط. واذا قارنا بين هذه المادة ونظيرتها في دستور1923( دستور الليبرالية المصرية العظيمة) وجدنا المادة(149) تنص علي أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية, وكان وضع هذه المادة بناء علي اقتراح الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية, في ذلك الزمان البعيد, وعضو لجنة الدستور المكونة من ثلاثين عضوا, وقد علقت صحيفة الوطن في ذلك الوقت بأن هذا النص يؤدي الي تمييز لا محل له, وأنه يبتعد بالدستور عن الأنظمة الحديثة التي تفصل بين الدين والسياسة, وأضافت أنه يثير إشكالا مهما, وهو أنه اذا كانت هناك سلطة تشريعية, أوجد لها الدستور مصدرا هو البرلمان, وسلطة تنفيذية هي الملك والوزارة, وسلطة قضائية مصدرها القضاء والقانون, فإن النص علي دين الدولة قد يوجب إيجاد مصدر له, ومن ثم الاعتراف بسلطة دينية هي الخلافة التي هي مصدر يخرج عن دائرة السلطات التي يجب أن ينص عليها الدستور, ويتناقض مع مبدأ أن الأمة كل الأمة هي مصدر السلطات, وفي ذلك خروج علي أهداف الدستور, من حيث هو تأسيس لدولة مدنية حقا, ولكن عقلاء اللجنة من مسلمين وأقباط لم يقبلوا بهذا الرأي, ورأوا أن النص علي أن دين الدولة الإسلام هو تحصيل حاصل, لأن الإسلام دين الأغلبية التي لم تمايز بين حقوقها والأقباط في معني المواطنة ولوازمها قط, وقد أضاف عقلاء الأقباط استبعاد مبدأ التمثيل النسبي للأقليات, وذلك حتي لا يتسرب التمييز الي الدولة التي لا تعرف تمييزا في مفهوم المواطنة ولوازمها. وكان دستور1923 علي هذا النحو تعبيرا صادقا عن ثورة1919 التي رفعت شعار الدين لله والوطن للجميع, وعلي الرغم من أن الوفد لم يكن ممثلا في لجنة إعداد الدستور التي أطلق عليها سعد زغلول اسم لجنة الأشقياء, فقد جاء الوفد الي الحكم مكتسحا, في ظل إعلان هذا الدستور, وتولي الحكم مع الأحرار الدستوريين سنة1926 في ظل هذا الدستور الذي أنقذ طه حسين من مصير زميله علي عبدالرازق, عندما أصدر كتابه في الشعر الجاهلي في مارس1926, وكان ذلك علي النقيض من انقلاب صدقي باشا علي الدستور, ومحاولة اختراع دستور جديد سرعان ما سقط, لكنه قبل أن يسقط ليعود دستور1923, صدر حكم قضائي علي الشيخ محمد أبوزيد( ليس من عائلة نصر أبوزيد) وأعدم التفسير الذي نشره, ولم يعد له وجود حتي في دار الكتب. والواقع أن الفارق بين المادة الثانية من دستور السادات والمادة(149) من دستور1923 فارق هائل, يتمثل في أن الدستور القديم من صنع الليبرالية المصرية التي عمدتها ثورة1919 وإلحاحها علي أن الدين لله والوطن للجميع, ولذلك صاغت دستورها(1923) علي شاكلة شعارها الذي يؤكده النص علي أن المصريين بلا استثناء سواء لدي القانون, وأنهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية, وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة, لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين( المادة الثالثة) وحرية الاعتقاد مطلقة( مادة12) وتحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان( مادة13), ومن اللافت حقا أن المادة الخاصة بالدين جاءت في ذيل دستور1923, بعد الباب الأول الذي يحدد نظام الحكم, والباب الثاني الذي يحدد حقوق المواطنين وواجباتهم, والباب الرابع عن المالية, والخامس عن القوة المسلحة, وبعد ذلك كله, يأتي في الذيل باب أحكام عامة وتتضمن( مادة149) التي تنص علي أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية, وتتضمن المادة(153) أن القانون ينظم الطريق التي يباشر بها الملك سلطته فيما يختص بالمعاهد الدينية وتعيين الرؤساء الدينيين..الخ, طبقا للمباديء المقررة بهذا الدستور( المدني). أما دستور السادات فقد وضع المادة المختصة بالدين في صدارته( الثانية مباشرة) وأضاف: مباديء الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع, فضرب واضعو هذه الإضافة شعار الدين لله والوطن للجميع في مقتل, وهي مادة لا أظنها تختلف عن ما يمكن أن يضعه الإسلام السياسي في صدارة دستور لدولة دينية, فضلا عن أن هذه المادة, علي ما هي عليه, تتجاهل وجود ديانات أخري, وكان الأجدر أن يكون نص المادة هو الديانات السماوية مصدر إلهام للتشريعلأنه لا يمكن, عقلا, تصور تشريع يعادي القيم الكلية الكبري للديانات التي تهدف في النهاية, الي إسعاد البشرية, لكن هكذا, شاءت ظروف التحالف بين السادات وتيار الإسلام السياسي, هادفة الي تقويض قوي اليسار والناصرية والقومية والليبرالية بالقدر نفسه, وكانت النتيجة ثلاث كوارث, هي علي وجه التحديد: 1 إشاعة نزعة التديين الإسلامي وفتح الطريق لصعودها بما أدي الي تحولها الي تيارات تطرف وقمع للتيارات المستنيرة المعادية للدولة المدنية. 2 الإسهام في إيجاد مناخ من الاحتقان الطائفي الذي لم تألفه مصر منذ ثورة1919, مما أدي الي اشتباكات وأعمال عنف بين المسلمين والأقباط بما لايزال تهديدا حقيقيا للوحدة الوطنية, وكان ذلك في أماكن عديدة مثل الزاوية الحمراء, والكشح, والعديسات, وملوي, والإسكندرية, ونجع حمادي أخيرا. 3 تضاعف حملات التكفير علي دعاة الدولة المدنية, ابتداء من اغتيال فرج فودة, والاعتداء علي نجيب محفوظ, وتكفير نصر أبوزيد, وعشرات العشرات من دعاوي الحسبة القديمة والجديدة التي تقف أمامها الدولة المدنية( ؟!) عاجزة. والسؤال الذي ينبغي أن نسأله, الآن, للدولة التي نعيش فيها, ونتمسك بصفتها المدنية, وندافع عنها: كيف تحمين هويتك المدنية أيتها الدولة, وتحمينا معك, نحن المثقفين, الذين لا نزال نؤمن بالدولة المدنية وندافع عنها مهما كان الثمن؟ كيف؟! كيف؟! كيف؟!