نشر علي مدي خمسة عشر يوما ماضية, خمسة مقالات رئيسية عن حالة العمران المصري, بدأها الأستاذ أسامة سرايا في6/25 بالحديث عن اشتباكات الأراضي. وحديث المحليات, تلاه د. عبدالمنعم سعيد في7/3 برسالة العمران, عقب عليها استاذنا الكبير د. علي رأفت بحديث عن الغفران لرسالة العمران في7/8, إلا أنه يبدو أن آراء د. رأفت لم ترق للدكتور سعيد فأعاد الكرة في7/10 بمقال البعض يفضلونها بائرة.. أخيرا أورد الأستاذ سرايا في حديثه عن سائق النقل الجماعي في7/11 أسباب الحدث الخطير بالتكدس العمراني الذي انعكس علي سلوكيات المجتمع المسالمة.. بداية.. علينا أن نحدد هدف العمران.. هل هو عمران كمي يرد علي احتياجات البشر العاجلة في الاستيطان بأي وسيلة؟.. أم إنه عمران نوعي يهدف إلي تحقيق استقرار آمن وسكنية للمجتمع الانساني واستثمارا متواصلا للموارد الطبيعية والبشر.. ينتشر في ربوع البلاد بطولها وعرضها.. إن العمران ليس في واقع الأمر أرضا جرداء تكسوها البنايات والطرقات, إنما معناه أوسع من ذلك بكثير, فهو ذلك الوعاء الكبير الذي صنعه الانسان ليحتضن عموم أفراد المجتمع, بخصائصه وممارساته الشتي المتنوعة, وما العمران هنا ليس سوي مرآة تعكس حال ذلك المجتمع.. وفي مصر.. لاشك في أن العمران هو نتاج ميراث طويل من الأحداث الكبار والأنشطة الإنسانية بتوافقاتها وتناقضاتها, كما أنه يحتل موقعا هاما في سجل التاريخ الإنساني العالمي, رغما عن الهزات والتغيرات الهائلة التي تعرض لها المجتمع المصري علي مدي التاريخ, خاصة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية, التي استمرت حتي يومنا هذا, تلك الفترة التي أفرزت في النهاية توجها عمرانيا يراه البعض انه إنجاز كمي كبير, لكن البعض الآخر يراه تضخما عمرانيا مرضيا... لايحقق أفضل ظروف الاستقرار للتجمعات البشرية, كما أنه لايحقق توازنا في خريطة جغرافيا السكان أو جغرافيا التنمية للمجتمع المصري, يحدث كل ذلك في ظل عالم جديد متسارع متنام متنافس متطاحن.. يغلب عليه طغيان المادة والسلطة.. وتهدف الطموحات العمرانية الكبري التي تبديها الدولة من خلال مخططات عمرانية إلي معالجة أمراض العمران, مازالت تفتقد الإقناع بمضمونها, أو بقدرتها علي تحقيق انتشارا أوسع لعمران نوعي.. خارج نطاق الوادي والدلتا, في إطار الحفاظ علي قيم مجتمعية وتراثية.. وتوازن بيئي يحقق التواصل عبر الزمن, بسبب عدم وضوح وموضوعية جدواه أو للافتقاد إلي آليات تحقق أهداف هذه الطموحات.. الآفة الكبري للعمران المصري هي التكدس الفوضوي في البناء والاستخدام والحركة والبشر, ذلك التكدس المتنامي يفترس أمامه قيم وتراث المجتمع.. وعلي سبيل المثال فإن إقليمالقاهرة الكبري يأوي ربع عدد سكان مصر يحتلون أراضي مساحتها0.006% من مساحة البلاد, هذه العلاقة المختلة بين تركز توزيع السكان وحيز الأراضي المتاح, أدت من بين ما أدت إليه إلي تحول العاصمة إلي مأوي لكل صاحب مصلحة أو غرض, ومقر للهاربين والمهاجرين من مناطق أخري مهمشة أو أقل شأنا, بالتوازي مع توغل أعمال البناء العشوائي في جميع الأرجاء علي مدي عقود, دون ضابط أو رابط وبدون الالتزام بالضوابط التي حكمت نمو العمران حتي ماض قريب, لقد إنعكس ذلك بطبيعة الحال علي مجتمع وعمران عاصمة مصر.. تراثها وآدائها وكفاءتها المحلية والإقليمية, وأدي إلي صعوبات هائلة في حياة واستقرار وأمن مجتمع العاصمة, وعلاقاتهم البينية التي شابها التوتر الشديد والعدائية... ولاشك أن معالجة تلك الآفة ليس بالأمر المستحيل, حيث يمكن باتخاذ تدابير واجراءات شجاعة, إعادة الاتزان النوعي والجغرافي تدريجيا إلي العمران, والتوجه نحو انتشار توطينه خارج نطاق الوادي والدلتا, في أنوية عمرانية إنتاجية.. صغيرة ومتوسطة, في مجالات الزراعة والحرف والصناعات الصغيرة والمتوسطة, التي هي حتما قواعد التنمية العمرانية المستقبلية, يمكنها من استيعاب أجيال قادمة من العمالة الشابة بعد تأهيلها, في إطار تفعيل برامج تحفيز الهجرة العكسية للاستثمار والبشر, كل ذلك بطبيعة الحال يتطلب إدارة واعية تتمتع برؤية ثاقبة وعلم وفير وخبرة واسعة.. إنها حقا قضية حيوية ومحورية في سبيل حماية حاضر ومستقبل البلاد, لذلك فهي تستحق المشاركة الجماعية في حوار شفاف دون تأجيل.. يقوده علماء وحكماء, فهو أمر لايخص السلطة التنفيذية بمفردها بل يخص مستقبل عموم المصريين عبر الزمان.. ولنراجع معا قصة التنمية السياحية الشاطئية في مصر, حيث اقتصر مفهومها علي استغلال القشرة السياحية في بناء فنادق ومنتجعات خاصة, لاتقوم علي أساس قاعدة عمرانية مجتمعية, تتكامل مع التجمعات والمراكز السياحية وتوافر الاستقرار للعمالة والكوادر والخدمات الحيوية الأساسية للتنمية السياحية.. بعض هذه البنايات السياحية اقتطعت أجزاء من البحر وشعبه المرجانية, واقترب معظمها من الساحل دون ترك حرم كاف للشاطئ, كما اتصلت فيما بينها علي مساحات طولية شاسعة لتكون حائطا بنائيا هائلا, فصل البحر عن الأرض لمئات الكيلو مترات مخالفة بذلك أبسط قواعد حماية البيئة, مما أهدر فرص الأجيال المستقبلية في الاستثمار والاستخدام المشروع للسواحل والشواطئ.. بطبيعة الحال فإنه لم يدرج في حسابات المتسرعين باستغلال المناطق الساحلية, بديهية استكمال واستقرار البنية السياحية المتكاملة, قبل الشروع في بناء وتشغيل المنشآت السياحية وأن توطين المشروعات السياحية يجب أن يتم من خلال مراكز تفصلها نطاقات حماية كافية, بالإضافة إلي مناطق بأكملها تخصص لاستخدام الأجيال القادمة.. إن منظومة التنمية السياحية المتكاملة.. هي منظومة شديدة التعقيد, فهي مرتبطة بتوازنات فيما بين قطاعات البيئة والمجتمع والتراث والاقتصاد والخدمات والمرافق العامة والأمن والصحة العامة.. إلخ, حيث أن المستهدف قبل الشروع في الاستثمار السياحي للشواطئ إقامة بنية سياحية متكاملة متوازنة, وليس التخلص من الأراضي لكل من هب ودب لتحقيق وفورات مالية للخزانة العامة, وإقامة منشآت سياحية منعزلة عن بعضها لاتتواصل مع المجتمع المحلي.. حالها هنا يشبه حال المعتقلات السياحية.. ماذا كانت نتيجة كل ذلك؟ إن مصر ذات المقومات السياجية منقطعة النظير, تحتل درجة متدنية للأسف في سلم السوق السياحية العالمية, والدليل علي ذلك أنها تباع بقروش زهيدة, فهي مصنفة سوقا سياحية رخيصة تناسب المجموعات السياحية محدودة الدخل, ويري ذوو الخبرة في هذا المجال أن مصر لا تحقق عائدا من هذا النشاط رغم الزيادة الكمية السياحية المعلنة. إن حوار العمران لاينتهي, فمن الحديث حول تقنين البناء علي الأراضي الزراعية بعد توسعة الحيز العمراني للقري, إلي الجدوي المحققة لمشروعات المدن والمجتمعات الجديدة, ثم حتمية إقامة نظام فاعل لادارة العمران, كذلك معالجة مشاكل التكدس العمراني وحماية التراث, بالإضافة إلي كيفية تناول مشاكل العمل قبل السكن, ثم قضايا أخري لها علاقة بالعمران مثل المياه والطاقة وإدارة المخلفات.