لم نتعود في مصر علي محاسبة المقصرين في القيام بمسئولياتهم العامة كما ينبغي, حتي أن التشريعات نفسها لا توفر الإطار القانوني الضروري لمثل هذه المحاسبة القوية التي يمكن أن تشكل محفزا لموظفي العموم علي القيام بمسئولياتهم التي تنتظر الدولة والأمة منهم القيام بها. ورادعا يمنعهم من التكاسل والإهمال. لكننا ينبغي أن نغير هذه العادة لأن الأمم الكبيرة والتي لديها إرادة النهوض والتطور لابد أن تكون لديها آليات صارمة للمحاسبة والمساءلة بصورة نزيهة وعادلة وشفافة وتطبق علي الجميع علي قدم المساواة من أكبر مسئول الي أصغر موظف عام, وأمامي نموذج مروع للتقصير آمل أن تقوم الدولة وأعلي السلطات فيها بتقصي المسئولين المباشرين عنه ومحاسبتهم بصورة صارمة تعطي نموذجا للأمة علي الجدية في تنفيذ الأهداف العامة والتعهدات المقطوعة لها بتحقيق أهداف محددة. وهذا النموذج يتعلق بتعهد الرئيس خلال حملته الانتخابية الماضية باستصلاح مليون فدان علي مدي السنوات الست للولاية الحالية له, منها700 ألف فدان توزع علي70 ألف حيازة ويتم تمليكها للشباب بواقع10 أفدنة لكل شاب, ونحو300 ألف فدان توزع علي كبار المستثمرين, وهذا يعني استصلاح نحو166.7 ألف فدان سنويا, أما تمويل هذا الاستصلاح بالنسبة للشباب فيتم من خلال قرض قيمته100 ألف جنيه لكل حيازة تضم10 أفدنة لتمويل الاستصلاح وبناء منزل. وبرغم الصعوبة الشديدة في تنفيذ البرنامج علي ضوء معدلات الاستصلاح في السنوات السابقة علي إعلانه والتي بلغت نحو24 ألف فدان سنويا خلال السنوات العشر السابقة عليه, مقارنة بنحو60 ألف فدان سنويا خلال سبعينيات القرن العشرين, ونحو70 ألف فدان سنويا في المتوسط خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين وفقا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.. برغم هذه الصعوبة, فإن تنفيذه لم يكن مستحيلا شرط التعامل معه بجدية وصرامة كمشروع قومي عملاق للتوسع الزراعي الأفقي ولتمليك شباب الخريجين لأراض زراعية, يمكن ريها بأساليب حديثة موفرة للمياه, ويمكن أن ينمو ويتطور علي انتاجها عدد كبير من الوحدات الصناعية الصغيرة لتصنيع المنتجات الزراعية لإنقاذ الفوائض الموسمية من الخضر والفاكهة والتي تتعرض للتلف, ولتشغيل اعداد كبيرة من العاطلين ولزيادة طاقة الجهاز الانتاجي وقدراته علي الوفاء بالاحتياجات الاجتماعية والتصدير. وللعلم فإن تنفيذ هذا البرنامج كان يتطلب حشد طاقات وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي والبنوك التي ستسهم في إقراض شباب الخريجين بشروط ميسرة, حتي يمكن تحقيق تقدم حقيقي في تنفيذ برنامج كبير بهذا الشكل يمكنه إذا تم انجازه بنجاح, أن يقدم نموذجا لبرامج مماثلة في الزراعة والصناعة والخدمات. لكن الذي حدث هو أن أجهزة الحكومة والدولة المعنية بتنفيذ هذا البرنامج, قصرت في تنفيذه لدرجة أن مجموع ما تم تنفيذه خلال السنوات الثلاث الأولي من عمر البرنامج البالغ ستة أعوام, لم يتجاوز وفقا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء( في كتابه الإحصائي السنوي الصادر في سبتمبر2009, ص126) نحو12.1 ألف فدان فقط, بواقع7.8 ألف فدان عام2006/2005, ونحو2.2 ألف فدان عام2007/2006, ونحو2.1 ألف فدان عام2008/2007, وهذه ال12.1 ألف فدان توازي نحو2.4% فقط من ال500 ألف فدان التي كان من المفترض استصلاحها خلال السنوات الثلاث المذكورة. وهذا التقصير يعني أن حلم70 ألف شاب من الخريجين, في ملكية10 أفدنة لكل منهم تمثل الأصل الانتاجي الذي يمكن ان يبدأ من خلاله حياته العملية, أو140 ألف شاب لو تم تمليك كل شاب خمسة أفدنة, كما كان يحدث من قبل.. هذا الحلم قد تبخر, بسبب هذا التقصير الحكومي الفادح الذي تسأل عنه جهات متعددة في الحكومة وأجهزة الدولة, ولابد من استنهاض طاقات الدولة من أجل انقاذ ما يمكن انقاذه من برنامج الاستصلاح. والحقيقة أنه لو لم تقم الحكومة بمنح مئات الآلاف من الأفدنة لرأسماليين عرب, لكان من الممكن ان تنفذ برنامج الاستصلاح في الأراضي التي منحتهم اياها دون أن يقوموا بالاستصلاح والاستزراع أو تنفيذ الوعود الاستثمارية الأخري التي حصلوا علي الأرض ضمن صفقة القيام بها, ولأن الشيء بالشيء يذكر, فإن مصر أنفقت علي البنية الأساسية لمشروع توشكا من أموال اقتطعتها من قوت الشعب المصري, ما يوازي11 ألف جنيه لكل فدان, بينما حصل المستثمر العربي علي100 ألف فدان من الأرض بسعر50 جنيها للفدان وبمجموع5 ملايين جنيه فقط, وارتضي علي نفسه أن يستفيد من نحو مليار جنيه اقتطعت من قوت المصريين لتمويل البنية الأساسية الضرورية للأرض التي حصل عليها في مشروع توشكا, دون أن يزرع تلك الأرض التي مازالت معطلة حتي الآن, وكان من الممكن ان يستفيد منها نحو20 ألفا من شباب الخريجين وأسرهم, باجمالي نحو70 ألف نسمة, كان من الممكن ان يتم توطينهم في تلك البقعة من أرض مصر. ومن الضروري التأكيد علي انه لم يكن هناك أي مبرر أو ضرورة لمشاركة أي رأسمالي غير مصري في تنمية المنطقة, حيث قامت الدولة المصرية بتنفيذ استثمارات هائلة لإقامة البنية الأساسية في تلك المنطقة, ومولت تلك الاستثمارات من الموازنة العامة للدولة, أي من أموال الشعب بما يجعل المنطق والمشروعية يقتضيان منح الأراضي في تلك المنطقة لأبناء الشعب المصري من الفلاحين المعدمين ومن صغار المزارعين سواء كانوا فلاحين أو من خريجي النظام التعليمي المتوسط وبالذات الدبلومات الزراعية, أو خريجي التعليم الزراعي العالي بالذات من أبناء المحافظات الريفية, مع اعطاء أولوية مطلقة لأبناء النوبة الذين توجد منطقة توشكا في موطنهم التاريخي. المزيد من مقالات احمد السيد النجار