تضمن المقال السابق في نفس ذلك الموضوع رصد بعض السمات أو الخصائص السلبية التي طغت علي سطح الشخصية المصرية بشكل يدعو للقلق ووجوب التحذير، وها نحن نستكمل الآن الذي انقطع، حيث نوالي استعراض بعض تلك السمات، وذلك بغرض إلقاء الضوء عليها، والدعوة بإخلاص لاستثارة اهتمام كل من يهمه تدارك ذلك الأمر، حتي نتخلص أو علي الأقل نحجم ذلك الابتلاء الذي لا يمكن أن نتنصل من مسئوليتنا عنه. أولا : البيروقراطية والانتهازية: تبدد البيروقراطية طاقة المجتمع وميزانية مؤسساته دون عائد انتاجي مفيد، ولنا أن نتأمل ما نعايشه من مختلف أصناف ودروب البيروقراطية المصرية في تعاملاتنا اليومية مع أجهزة الحكومة علي اختلاف أشكالها وأغراضها ومسمياتها، ومن هنا يبرز التساؤل المحزن: هل هانت طاقة المصري وجهده ووقته وأعصابه، حتي تمارس الإدارات الحكومية عليه مثل هذا التعذيب دون مبرر منطقي؟ أم هي هواية تعذيب الذات والآخرين؟ لقد وصلت البيروقراطية الي حد تسلط بعضنا علي بعض، مما نخشي معه أن يتحول الأسوياء منا "غير البيروقراطيين" الي بيروقراطيين اقتصاصا لأنفسهم مما يقع عليهم من البيروقراطيين باستخدام نفس سلاحهم، وبذلك يتبادل المواطنون عدوانا مقصودا لتعطيل مصالحهم وتدمير أعصابهم! أما الانتهازية، فهي صفة يتحين الفرد فيها الظروف لكي يحقق لنفسه مصلحة أو منفعة دون اعتبار لأية مثل أو قيم أو أعراف فالانتهازي لا يهمه الا استغلال الظروف لصالحه، حتي وإن أضرت بغيره أو بمجتمعه. ولقد بلغ الأمر بنا لأن يعتبر بعض الانتهازيين حولنا، أن انتهازيتهم تلك، حق لا ينبغ لأحد أن يجادلهم فيه أو يسائلهم عنه! ثانيا : اللامسئولية وتبلد العواطف: وفيها يستهين الفرد بالمسئولية الملقاة علي عاتقه وينقص إحساسه بها، كما يضعف سعيه للوفاء بها علي خير وجه، في هذا الصدد لدينا مثال حي حاضر، إذ يكفي أن نقارن بين مدي جدية قيام مدرس اليوم والتزامه بواجباته التعليمية والتربوية، بما كان عليه مدرس الأمس، وان نقارن بين مدي جدية قيام مسئولي التنظيم والإنشاءات والنظافة في أحياء مصر المختلفة ومدنها بمسئولياتهم وواجباتهم بين الأمس واليوم أيضا، لنري مدي سرعة وخطورة تفشي ذلك الداء الخطير. ويري علماء التحليل النفسي أن هناك دافعين نفسيين أساسيين يحكمان سلوك البشر وانفعالاتهم، وأن بقية الدوافع الأخري يمكن أن تندرج تحت أيهما، هذان الدافعان هما دافع الحب ودافع العدوان، وعلي الرغم مما كان معروفا قديما من تمتع الشخصية المصرية بالدفء العاطفي، إلا أننا نلاحظ الآن غير ذلك، فالعلاقات قد تقطعت حتي بين الإخوة لا بين الأقارب، كما أن الأبناء يرسلون بوالديهم أو أيهما الآن الي دور المسنين بنفس المدينة التي يقيمون بها تخلصا منهم، دون ضرورات ملحة، بل ودون زيارتهم إلا نادرا في أحسن الأحوال! أما الطامة الكبري، فهي إقدام بعضهم علي سبهم والإساءة إليهم وربما قتلهم والأمثلة متعددة في صفحات القضايا والحوادث، مما يدل علي المدي الواسع لتبلد العواطف الأسرية، وعلي نمو دوافع العدوان المتبادل بين أعضاء الأسرة الواحدة، والذي يصل أحيانا الي حد التدمير كما ذكرنا من قبل. ثالثا : افتقاد القدوة "وتليف الضمير" : يؤثر عاملا التقليد Limitation والتوحد Identification علي نمو شخصية الفرد والجماعة في نفس الوقت، ويقصد بالتقليد أو المحاكاة، أن يقوم الفرد أو الجماعة "مع وعيها وقصدها" بتقليد شخص أو محاكاته في طريقة سلوكه وعاداته وتفكيره، ويعني ذلك أن يصبح الشخص الذي نقوم بتقليده قدوة لنا، نقتدي به فيما نفعل أو نسلك أو نفكر، ويشير ذلك بطبيعة الحال الي أنه كلما كان الشخص الذي نقتدي به، أو المثال الذي نحاول محاكاته، يجسم صفات المواطن السيئ، الساعي بكل جهده لإشاعة الشر أو الظلم أو الانتهازية بين أبناء وطنه، كلما كان ذلك أسوء ما يمكننا رفضه، إذا كان ما نبغيه هو صالح الوطن أو المجتمع، وترجع الخطورة الكامنة من انتشار تلك القدوة السيئة، الي تبني أفراد آخرين مقلدين لمثل هذه النماذج السلبية. أما في التوحد فإن الشخص يلجأ بشكل لا شعوري ودون وعي منه للاندماج مع اتجاهات ودوافع وسمات شخص اخر، بحيث تصبح اتجاهات ودوافع وسمات أصلية فيه تضرب بجذورها في أعماق بنائها الأساسي وهكذا.. إذن فإن من نتوحد بهم أو معهم هم قدوتنا في السلوك والاتجاهات والأفكار والقيم، ومن هنا كان من الأهمية بمكان أن تكثر في المجتمع تلك الشخصيات الجادة قوية البناء لا الشخصيات الفاسدة والمفسدة، التي طغت كثيرا في الآونة الأخيرة علي سطح المجتمع، وأصبحت - بكل أسف - هي نجوم المجتمع في الثروة والمراكز والجاه! وإذا كان "الضمير" يعتبر أحد المكونات الأساسية للشخصية الإنسانية، أو أحد أهم عناصرها الضرورية، وذلك نظرا لأنه يمثل ويعكس المبادئ الخلقية، كما أنه يدعو لانضباط السلوك وعدم الخروج علي القواعد والأعراف والقيم الأخلاقية التي تواضع عليها المجتمع، فإن ما نلحظه الآن فيما نعايشه من أحداث يومية، وفيما نقرأ ونسمع وفيما يرويه لنا الأهل والمعارف والأصدقاء، إنما يؤكد علي الخروج بانطباع عام لا نكاد نجد منه مفرا، وهو أن الشخصية المصرية "في قطاع كبير منها" قد أصيبت بما أسماه د.فرج طه "بتليف الضمير" كمصطلح مقابل لعرض أو مرض "تليف الكبد" الذي يدمر خلاياه بحيث تضمر وتتحلل وتفقد قدرتها علي أداء وظائفها الحيوية! وهو يري في ذلك الخصوص، أن ضمير الإنسان عندما يفسد، فإنه يتحلل ويصبح كالليفة المملوءة بالثقوب، بحيث يمر منها كل أشكال السلوك التي تهوي نفس الفرد الخبيثة أن تأتيها أو أن تمررها، فيتم ذلك دون رقيب من شخصية الفرد، يقاومه ويمنعه، ويرشده الي ما ينبغي من فضائل ومكارم، وما لا ينبغي من مفاسد وآثام. وفي ظل مثل تلك الظروف غير المنضبطة، يبدو لنا أن كثيرا من المصريين الذين يفترض أن يكونوا قدوة لنا ولغيرهم، قد فسدت قيمهم وانحطت أخلاقهم، حيث لم يعودوا يفرقون بين الكسب الحلال وبين النهب الحرام، ولم يعد يهمهم التزام السلوك الرشيد القويم، الذي تدعو إليه الشرائع والأعراف والأخلاق والمثل العليا، فتكون النتيجة التي لا تكاد تخفي الآن علي أحد، أن الكثيرين ممن كانوا يفترض أنهم النماذج القدوة لعامة الناس، قد ألهتهم الرغبة في الكسب السريع والثراء الفاحش، واستبدلوا ما تمليه عليهم المثل العليا والشرائع أيضا، بسلوك آخر منحرف ومعوج وغير مشروع! وفي هذا السياق، فإننا لا نملك في ظل كل الذي ذكرناه من قبل، إلا أن نكرر نفس التساؤلات التي انهي بها د.فرج طه دراسته المنشورة منذ ما يزيد علي "12" سنة كاملة، فلنا أن نتساءل معه عن العوامل المختلفة والمتجادلة والمتشابكة والمتفاعلة، سواء أكانت اجتماعية أم تربوية أم تاريخية أم اقتصادية أم سياسية أم نفسية، تلك التي أدت الي ابتلاء الشخصية المصرية الآن بتلك السمات السلبية التي ذكرناها وبغيرها مثل ضعف الولاء الوطني ومراعاة الخواطر والمصالح الذاتية، والأنانية الضيقة، والاهتمام بالمظاهر دون مراعاة الجوهر، وانخفاض الانتاجية كما وكيفا "الكروتة أو الكلفتة حسب إطلاق العامة عليها"، فالذي لا شك فيه، أن الإجابة عن التساؤلات السابق ذكرها بشكل دقيق - والتي لم نتوصل إليها حتي الآن فيما يبدو - إنما تحتاج بالضرورة الي اهتمام مجتمعي عام بها، يحاول فيه باحثون من تخصصات علمية مختلفة وممن ينطبق عليهم وصف المهتمين بحلول مشكلات بلدهم وأزماته، أن يتوصلوا الي إجابات علمية شفافة تعكس الحقيقة في كل ذلك، ولا شيء آخرا غيرها.