كان الوقت ظهرا.. والسيارات أمامي لا تتحرك.. فتحت الراديو.. أبحث عن أغنية تخفف من وطأة نشرات الأخبار وصراعات وحماقات البشر.. وتقلل من ضراوة الحر والزحام والضوضاء.. فسمعت من يغني لعلمك أنا مش حموت عليك.. أنا عندي خمسة ستة يضايقوا فيك.. يشفوهم جانبي يقولوا راحت عليك.. فجأة توقفت الأغنية لإعلان عن شركة لبناء حمامات السباحة!!!. فانتهزت الفرصة وحركت المؤشر.. فانطلقت في وجهي أغنية لمطرب لا أعرف اسمه.. لم أفهم من كلماتها سوي الباب أهو علي الناحيتين مفتوح.. اتفضل ياللار وح.. بعدها جاء من يغني أو بالأصح يصرخ أنت ناسي لما شفتك كنت إيه. بعد فاصل من الإعلانات عن كماليات لا لزوم لها مع أزمة اقتصادية عالمية أجبرت دولا كبري علي إعلان حالة التقشف.. طلب أحد المستمعين أغنية كلماتها مستوحاة من خناقات الحواري والأزقة حيث كان ضمن عباراتها أنت تطلع مين. هنا تنبهت الي أن هناك شيئا ما غريبا حدث للأغنية المصرية وفاتني معرفته.. أنا القادمة من زمن كان أقصي ما يقوله الحبيب في ثورة غضبه هجرتك يمكن أنسي هواك وأودع قلبك القاسي. وانا ابحث عن مكان أترك فيه سيارتي كانت هناك مشاجرة صاخبة بين أثنين من قائدي السيارات تضمنت عبارة أنت فاكر نفسك مين التي كان يغنيها المطرب منذ دقائق وذلك قبل أن يتطور الأمر بينهما ويلجأن الي استخدام كمية هائلة من كلمات قاموس الشتائم. استعدادا للخروج من السيارة اغلقت الراديو بينما كان المغني يقول أنا غيرت خلاص عنواني. تذكرت أنني قرأت منذ فترة ان في مصر تقع حالة طلاق كل6 دقائق و15 ثانية مما يعني أن هناك طرفا يترك البيت ويغير عنوانه كما تقول الأغنية. إذن نحن أمام أغان تعكس صورة مجتمع هربت منه الرومانسية وانتشرت فيه سلوكيات عنف.. كما تعكس لغة جديدة للغزل.. فلم يعد المرء يري المعشوق واثق الخطوة يمشي ملكا ظالم الحسن شهي الكبرياء.. بل يراه وسطه مز يكة ويمسح الكل باستيكه.. كما أ دركت أنني كنت استشف مستقبل الغناء حين كتبت يوم رحيل الموسيقار محمد عبد الوهاب أننا نودعه. والخوف يملأنا من الألحان المفزعة التي سنسمعها. والأصوات النشاز التي ستنقض علينا.. فقد أصبحنا لا نعرف ماذا سيفعلون بنا.. وأية كلمات رديئة سيمطرون بها أذاننا. المشكلة الآن. أن كثيرين من الموجودين في ساحة الغناء لا يعرفون ما معني أن يكون الانسان مغنيا.. معناه أن يكون عاشقا عظيما للمعاني النبيلة والكلمات الجميلة.. ومعناه ان يكون مهموما بقضايا وطنه.. مؤمنا بأن الفن رسالة سامية وليس طريقا سريعا للثراء ولا ميدانا للتناحر والقتال بين الزملاء.. ومعناه أن يكون قدوة.. يعرف من يجالس وأين.. لقد رفضت أم كلثوم التي سحرت خلق الله بروعة أدائها وأجبرت العامة والبسطاء علي ترديد اشعار ابي فراس الحمداني وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم الذهاب مع أنور وجدي وزملاء العمل في فيلم فاطمة للعشاء في مكان عام خوفا من حدوث شئ لا يليق بمن تغني ولد الهدي أي رهافة حس هذا واي ألتزام. منذ سنوات رأيت عبد الحليم حافظ في برنامج في ذكري رحيله يكتب رسالة ذكر فيها كلمات بديعة كالوطن والعمل والاجتهاد.. في المشهد الثاني ظهر مع فريد الأطرش و يقول أحلف لك بشرفي وعروبتي. وفي المشهد الثالث كان يشدو لا أعرف ابدا يا ولدي احزانا تشبه أحزانك.. حين انتهي البرنامج تأكدت أننا سننتظر طويلا طويلا لكي نسمع يا ولدي غناء يشبه غناءك.. أننا ابدا ابدا لن نسمع من يحلف بعروبته او من يتكلم عن الوطن. اما المدهش حقا فهو وجود جائزة في ثلاثينيات القرن الماضي أسمها جائزة الغناء الكبري كانت تمنحها وزارة الاشغال المسئولة حينئذ عن النشاط الثقافي لأحسن مغن ومغنية.. وحصلت عليها منيرة المهدية عام1926 حين كانت الدولة تدرك واجبها إزاء حماية هذا الفن الجميل من أنصاف المواهب والباحثين عن الشهرة. قبل ان انهي هذا المقال تأكدت تماما أننا نعيش في غابة أو ربما في خرابة حيث ترامي الي مسامعي صوت يغني عو عو عو الي يخاف من العفريت يطلع له ينزل له يقعد له.. بعد هذه الأغنية لن نندهش إذا سمعنا من يقول أرعبكم إذا غنيت.. وعزاءنا أننا سمعنا من قالت اسحركم إذا غنيت. ولم يخطئ من قال أن لكل شعب الغناء الذي يستحقه. aidarizk@gmailcom