كم من محن ومآس وأوقات عصيبة تمر علينا, فتجعلنا نري الدنيا كالثقب الأسود أمام أعيننا, ثم نكتشف فجأة أن هذه الشدائد نفسها هي سبب السعادة التي تملأ حياتنا دون أن ندري. ولعلك تسألني كيف؟ فأقول لك: إنني أم لطفلة معاقة أو مصابة بما يسمي مرض التوحد, وحالتها مرتبطة بشدة الحركة.. وعندما أخبرني الطبيب بهذه الحقيقة المؤلمة, عشت أياما لم أذق فيها طعم النوم, ولم تجف عيناي من الدموع.. وقتلني القلق علي ابنتي التي أصبح علي ألا أتركها بمفردها أبدا, ولم تكن تنام سوي ساعتين فقط, فإن غفلت عنها لحظة واحدة من الممكن أن يحدث لها أي شيء غير متوقع.. وكتمت أحزاني, ولا أستطيع أن أصف لك كيف كان قلبي يحترق عندما نكون في مكان, وابنتي إلي جواري تؤدي بعض الحركات التكرارية وكلما رآها الأطفال علي هذه الحال ينفرون منها, ويبعدون عنها ويهمسون في آذان بعضهم الطفلة دي مجنونة.. وهي عبارة قاسية, لكن الناس ليست لديهم دراية بهؤلاء الأطفال.. وكم من لحظات قاسية تمر بي عندما تنتابها نوبات غضب وصراخ, فأجثم فوقها وأشل حركتها حتي لا تؤذي نفسها.. لكنها تواصل الصراخ بأعلي صوتها فيسمعنا الجيران ويدعون الله لها بالشفاء. لقد كانت ومازالت تحتاج مني إلي مجهود عضلي كبير, بالإضافة إلي عذابي النفسي وأنا أري ابنتي ثائرة, ولا ندري ماذا ستفعل في اللحظة التالية! ووسط هذه الحياة القاسية اكتشفت فجأة أن هذه الطفلة التي سميتها سارة منحة أعطاها لي الرب, ومعها عطايا أخري كثيرة, فبعد ولادتها انتقل زوجي إلي عمل آخر در عليه ربحا وفيرا نعيش به في مستوي مادي معقول.. واكتشفت أيضا أن كل من يحاول مساعدة سارة باخلاص يكافئه الله بما يتمناه. كانت أشياء كثيرة تحدث معي, فتجعلني أشعر من أعماق قلبي بأن الله يحمينا من كوارث كثيرة بسبب وجود هذه الطفلة بيننا.. وأيقنت أن بداخلها حنانا وحبا كبيرين لمن يخدمها ولو بشيء بسيط, حيث تقابله بود طفولي.. وهكذا تبين لي أنني أخطأت كثيرا عندما تصورت أن الحياة معها ثقب أسود, فهي سبب سعادتي وإحساسي بالرضا في الحياة. ولعلك أدركت الآن ماذا أعني؟.. فعندما أخدمها تنتابني فرحة داخلية, وقد أصبحت محور حياتي, وأغلي إنسانة عندي في الوجود.. وكم صليت لإلهي شاكرة أنه أعطاني هذا الملاك, وهذه البركة الشديدة التي لا أستحقها. إن كل من يقترب من سارة يحس بهذه المشاعر, وكل من تعامل معها شعر بحب شديد, وحاولت اخضاعها للعلاج الطبي, لكني لم أجد علاجا لمرض التوحد في مصر, وإنما هناك مراكز تخاطب متواضعة المستوي.. وتوجهت إلي وزارة التربية والتعليم, وعرفت أنه لا مدارس لهؤلاء المرضي, وحتي وزارة التضامن الاجتماعي ليس لديها أي اهتمام بهم. وخلال رحلة ترددي علي الأطباء تعرفت علي عائلتين لديهما أبناء مصابون بالتوحد فتبادلنا خبراتنا وخلاصة بحثنا عن ذلك المرض, وقسمنا أنفسنا علي الجهات المختلفة أملا في البحث عن حل لمشكلة أبنائنا بلا جدوي.. ثم اختمرت في ذهني فكرة شجعني عليها زوجي ووالدي, حيث يمتلك زوجي شقة في مدينة نصر, ويمتلك والدي باعا كبيرا من الخبرة في مجال العمل التطوعي, ولذلك فكرنا في إنشاء مركز لعلاج أطفال التوحد في مصر, وبدأنا تجهيزه بجهودنا الذاتية, وجمعنا بعض الأموال لشراء بعض المعدات والأدوات البسيطة وتجهيز الفصول لاختلاف حالات التوحد.. وتوافد علينا أطفال مصابون بالمرض, فتوسعنا في الفصول, وأصبحنا نتشارك جميعا في رواتب العاملين, وشراء مستلزمات الأطفال, ومازال ينقصنا الكثير.. إن لدينا فناء خلف الشقة التي يقع بها المركز, ووافق ملاك العمارة مشكورين علي منح جزء منه للمركز حتي يتنفس الأطفال خارج المكان, بالإضافة إلي وجود علاج بالحركة والوثب يتطلب مكانا مفتوحا وواسعا, ولم نستطع تجهيزه حتي الآن, وحاولنا الحصول علي دعم من الوزارات التي لها علاقة بمشكلة التوحد, ولكن لا أحد يهتم بهم, وليست لهم أي مخصصات مالية, وباختصار فإنهم ليسوا موجودين علي خريطة ذوي الاحتياجات الخاصة. إنني أناشدك من هذا المنبر العظيم بريد الأهرام أن توجه كلمة إلي الدولة بأن تهتم بهذه الفئة الخاصة من الأطفال.. فكم عانيت من عدم وجود مرشد لي من الأطباء, ومن وجدته منهم كان ينظر إلي حالة ابنتي من باب التجارة, وكم عانيت من عدم وجود مدرسة واحدة ألحق بها ابنتي, وكم أحسست أني وحيدة, لا أجد من يساندني في رعاية ابنتي سوي الله وجارة لي في عمر ابني الأكبر تحن علي سارة وتحبها جدا, وأتمني لها كل الخير لأنها فتاة عظيمة تساندني في تعبي, وتأخذ سارة عدة ساعات بعيدا عني, فبدونها أكاد أموت من التعب, وذلك برغم اختلاف أدياننا, فنحن شعب عظيم نحب بعضنا بعضا. إن أطفالنا المصابين بالتوحد ليسوا مجانين, بل هم ملائكة.. منهم من يعيش علي الأرض.. ومنهم من يجلس قعيدا علي كرسي.. إنهم يحتاجون إلي العطف والحنان والحب, فكم ظلمتهم الحياة, فلا تقسوا عليهم, ولا تجرحوا مشاعرهم.. إذ تسعدهم لفتة صغيرة من الحب والحنان.. وما أكثر ما جلست إلي نفسي ووجهت نظري إلي ابنتي, وأنا أسأل نفسي عما تخفيه في رأسها من أفكار؟.. وما هو احساسها وهي تري أقرانها من الأطفال الطبيعيين يختلفون عنها في كل شيء. إنني أقترح عمل دراما تليفزيونية تقوم فيها الفنانة القديرة يسرا بدور الأم, وتكون ابنتها سارة.. لكي يفهم الناس ما يجهلونه عن هؤلاء المرضي ويتحول الثقب الأسود إلي طاقة نور يستضئ بنورها الجميع. * ما أحلي أن يشعر الإنسان بالسعادة برغم ما يكابده من آلام ومشاق, وما أروع أن تتولد الراحة والطمأنينة من كبد المعاناة, وأنت ياسيدتي مثال حي ينبغي أن يتخذه قدوة كل من تعصف به رياح الحياة, ويجد نفسه مكبلا بالهموم والأحزان. لقد بذلت كل مافي وسعك لراحة ابنتك وإدماجها وسط الأصحاء وواصلت سعيك معها بإصرار دون كلل أو ملل, فكانت هدية السماء لك هي الروح الطيبة لجيرانك وللفتاة الرائعة التي أحاطت ابنتك بالرعاية والحنان, وخففت عن كاهلك الكثير من المتاعب التي تسببها لك طفلتك المعاقة. وكان التطور الطبيعي أن يلتئم شمل من يعانون نفس الظروف فأصبحتم جماعة واحدة تسعي إلي علاج أبنائها المصابين بهذا المرض النادر.. وتوالت النتائج المبهرة لهذا التجمع الهادف, فتوسعتم في مشروعكم النبيل بدرجة ملحوظة, ولكن تبقي عقبات كبيرة تحتاج إلي تدخل الوزارات المختلفة للأخذ بأيدي هؤلاء الأبرياء, وأيضا علي الأجهزة والهيئات المهتمة بشئون المعاقين أن تسعي لتوفير ماينفعهم وأن تدعم مؤسستكم الخيرية. ولو تخيل كل إنسان قادر أنه قد يرزق ذات يوم بمولود مصاب بالتوحد لسارع إلي مؤازرتكم وأؤيدك تماما في ضرورة انتاج أعمال فنية تتناول مشكلات هذه الفئة المظلومة بما يكشف للجميع متاعبهم, ويدفعهم إلي تقديم العون إليهم. ياسيدتي.. واصلي دورك الاجتماعي في رعاية هؤلاء الأطفال, وأنت سعيدة مطمئنة بعد أن تحول الثقب الأسود في حياتك إلي طاقة نور.. وامتلأت حياتك بالبشر والسرور.