وفاة شاب مصري في مثل تلك الظروف, التي غيبت عن الحياة شاب الإسكندرية خالد سعيد, جديرة بأن تبعث الأسي والحزن في النفوس. ومثل أي إنسان يهاب جلال الموت, أجدني شديد التعاطف مع أسرة هذا الشاب, الذي رحل في ظروف صعبة وشائكة, ومهما تكن الحقيقة بشأن الملابسات التي أحاطت بموته, فإنني أشعر أيضا بالأسي والأسف إزاء هذا المسلك, الذي سلكه البعض تعبيرا عن القلق أو الاحتجاج. فلقد اتخذت الأحداث مسارا أبعد من أن يسعي إلي بيان الحقيقة وراء وفاة هذا الشاب. فالحقيقة لن تظهر وسط المظاهرات والاحتجاجات والصخب, وكيل الاتهامات. وليست صفحات الصحف وشاشات الفضائيات ومواقع الإنترنت هي الأماكن التي يتم فيها التنقيب عن الحقيقة التي سوف تظهر من خلال إجراءات قضائية كافية لأن تبني عليها الأحكام. وهذه الإجراءات منوطة بهيئات لديها الصلاحيات ولديها وسائل التدقيق, ولابد من الصبر عليها حتي تنتهي من مهامها في هدوء وثقة. أما الفضائيات ومواقع الإنترنت فهي منتديات مفتوحة لكل الآراء الصادق منها والمغلوط. وفي هذه الأماكن تتوه الحقيقة وسط الأكاذيب والادعاءات والرغبات والميول, بل ممارسة البعض الإرهاب وتهديد الصحفيين والصحف, لأنهم أخذوا موقف البحث عن الحقيقة وحماية القيم والحفاظ علي استقرار الوطن.. ولايمكن لأي دولة أن تعتمد علي ما تجود به ساحات الحوار المفتوحة بغير ضابط ولا رابط فتبرئ هذا وتدين ذاك. نحن أمام قضية شائكة تتضمن الكثير من الروايات المتعارضة والمتناقضة, والفصل فيها لن يكون إلا للجهات المختصة, وهي النيابة العامة حتي الآن. وليس أمامنا سوي الانتظار حتي تنتهي من مهمتها, وتكشف لنا الحقيقة وراء مقتل شاب الإسكندرية. أما المظاهرات والاحتجاجات والتعبير عن عدم الثقة في كل تقرير وكل بيان فلن تقدم شيئا, ولن تجدي نفعا بدفع الاتهامات في اتجاه بعينه لخدمة نيات الذين يتصدرون المظاهرات والاحتجاجات. لقد كشفت تلك الوفاة عن حالة تربص بأمن هذا الوطن, والرغبة المحمومة للنيل من هيئاته, والتشكيك في مؤسساته, واستخدام الوفاة قميصا جديدا يتباكون به علي الأمن والسلام والديمقراطية في مصر. في كثير من الأحيان كانت وفاة شاب الإسكندرية مدخلا للهجوم علي كل شيء في مصر, بل ويبحثون فيه عن قوي خارجية أمريكية تارة, وأوروبية تارة أخري, للاستقواء بها في عملية سياسية رخيصة, وتشويه وجه الحياة فيها من كل جوانبها. وهؤلاء الآن يلبسون ثوب الرحمة ويخفون خلفه وجوها لا تحمل الرحمة أوالشفقة, بل تسعي إلي الفوضي والاضطراب خلف جثمان شاب وأسرة مكلوم, ويتكلمون عن اللعنة علي من طغي وتجبر أو يتصورون وهما أن الدولة وشرطتها والطب الشرعي في مأزق, لأن تعاطف الناس مع الشاب خالد سعيد حقيقي, ونحن جميعا متعاطفون وآسفون علي رحيله, لكنه القدر وسوء التقدير من أطراف عديدة. وحتي لو صدقت الادعاءات التي صاحبت حادث شاب الإسكندرية فيجب وضعها في مكانها وحجمها الصحيح وهو أنها جريمة فردية ارتكبها اثنان من قوات الأمن يجب أن يقدما للمحاكمة, ولا شك أن نيابة مصر وقضاءها قادران دائما علي إزالة أي لبس أو غموض في أي قضية معروضة أمامهما. والسجل حافل بتقديم كل مرتكبي جرائم التعذيب للمحاكمات, ولا يمكن للوطن أن يسكت علي مقتل أحد أبنائه, ولكن أن نقسم الوطن إلي فريقين ونتهم كل من يحاول أن يكشف غموض الحادث ونهيل عليه التراب ونخفيه, بل تخرج أقلام لكي تهدد صحفيين وكتابا وصحفا, وكذلك أجهزة الأمن وتصورها علي غير حقيقتها برغم أنه يسقط منهم الكثيرون دفاعا عن استقرار الوطن وكشف المجرمين وتجار المخدرات والبلطجية, أقول إن هذا ما لايمكن قبوله أو السكوت عليه. نحن بحاجة إلي أن نعتاد وسائل البحث عن الحقيقة بعيدا عن الإثارة والفوضي والضغوط التي تأتي من كل اتجاه, فالحقيقة وحدها كافية للحفاظ علي أمن هذا البلد واستقرار العلاقة بين أفراده ومؤسساته, وفي الطريق إلي الحقيقة يلزمنا الاحتفاظ بالحد الأدني من الثقة بدلا من الشك الذي لن يصل بنا حتي إلي نصف الحقيقة. المزيد من مقالات أسامه سرايا