لم يضع أسطول الحرية الذي اتجه من تركيا إلي غزة القضية الفلسطينية ككل في الواجهة وفي بؤرة الاهتمام الدولي لأن منظميه ركزوا علي تحرير سكان القطاع من الحاجة, وليس علي التحرر من الاحتلال, وعلي جزء من المشكلة وليس علي كل المشكلة, برغم أن الأسطول حمل اسم الحرية التي لا تتجزأ. وفي قلب أزمة الأسطول ودموية القوة المحتلة الفاشية لم يفكر المنظمون باستثمار التغطية الإعلامية الغربية الكثيفة للحديث عن جوهر القضية وجذورها بدلا من أحد أعراضها, لأن البعض أراد تجنب إلقاء أي ضوء علي الشطر الآخر من فلسطين المحاصر أيضا, والمقطعة أوصاله بجدار فصل للكراهية عنصري بطبيعته وبستمائة نقطة تفتيش وقتل واعتقال للمقاومين فيه لم يتوقف. انتفاضة البحر خصمت من رصيد إسرائيل السياسي والأخلاقي, وكان بعض المقصود منها تذكير العالم وقواه المهيمنة التي فقدت حساسيتها السياسية وحاستها الإنسانية في خضم عمي الانحياز لمقولة الأمن الإسرائيلي المطلق مهما يكن الثمن الذي يدفعه الضحية, والانتهاك الفظ للقانون الدولي بأن هناك بشرا يعانون حصارا غير مسبوق في تاريخ أي استعمار. ودماء ضحايا الحرية لم تجف, قال مبعوث الرباعية توني بلير للقناة العاشرة الإسرائيلية انه مع إسرائيل مائة في المائة. هنا تتجلي النظرة الاستعلائية العنصرية العابرة للقارات غير القاصرة علي الإسرائيليين بأن قيمة الفلسطيني وأمنه وحقوقه أقل من حقوق الإسرائيلي. لم يتحدث أحد من منظمي الأسطول قبل انطلاقه وحتي مأساته الدامية وعودته عن أن المشكلة هي في الاحتلال وأن الحصار عرض لمرض, وأنه بانتهائه ستنتهي عذابات الفلسطيني وحرمانه من حقوقه, ويعيش هو والمواطن الغربي في أمان أكثر. ملحمة الأسطول أعادت طرح سؤال قديم عن الإصرار علي عزل قضية غزة عن مشكلة الاحتلال الشاملة. أما كان الأفضل إظهار أن فلسطين هم كل الفلسطينيين, وانتهاز فرصة تاريخية ليقول المنظمون للعالم المتجهة أنظاره إلي الأسطول نحن الشعب المحتل منذ43 عاما موحدون ونريد عونكم لتحقيق السلام كطريق وحيد لإنهاء معاناتنا من الاحتلال, ومن وحشية تعامله معنا, ولإدانة إسرائيل لرفضها لليد العربية الممدودة للسلام منذ عام1967, وليس فقط منذ تبني المبادرة العربية عام2002. ما حدث في الأسطول أظهر الانقسام الفلسطيني علي الملأ, وأظهر استغناء عن العرب. بعيد الحرب الإسرائيلية علي غزة نهاية2008 وبداية2009 وجد طرفها وأشقاؤه أنفسهم في وضع يمكنهم من تقديم أنفسهم كبديل ليس لفتح وحدها بل لكل الأنظمة العربية وتجلي ذلك في خطبهم وخطاباتهم التي قيلت في مساجد ووسائل إعلام وساحات تظاهر بأن حماس انتصرت, بينما بالمقارنة كان تاريخ كل الأنظمة بكل ما تملكه من قوات جوية وبرية وبحرية تاريخ هزائم متلاحقة. والرسالة هي أننا جنود النصر وغيرنا جنود هزيمة, فراهنوا علينا وفوضونا شئونكم, وطلقوا أي أمل لكم في أنظمة الهزيمة. التقط رئيس عربي الرسالة وأجل زيارة لزعيم حركة حماس كانت مقررة لعاصمته في16 فبراير2009 ليخاطب الجماهير في أكبر ميادين العاصمة, وقبل أيام عبر الرئيس السوري بشار الأسد عن فهم دقيق لطبيعة علاقة سوريا مع حماس وحزب الله بقوله إنها ليست علاقة حب, وأنه حريص علي الحفاظ علي الطابع العلماني لسوريا. غزة أصبحت نقطة لجمع الحشد والاستقطاب السياسي علي امتداد الساحة العربية وخارجها, ولتحقيق هذا الهدف قد لا تكون هناك عجلة للخلاص من الاحتلال. وبالنتيجة تضحي الضفة والقدس قضيتين ملحتين بغزة. من ناحية أخري أضحت غزة كرمز للمقاومة وللمعاناة مكانا لبناء القوة الذاتية والتميز عن المتخاذلين فلسطينيين وعربا تنطق بشرعية تنازع ليس فقط شرعية السلطة, بل كل الشرعيات العربية. الهدف هو التأكيد علي أن البديل ليس في ساحة المواجهة مع المحتل, بل في الساحة العربية علي اتساعها وهو ما يتأكد عندما يغيب علم فلسطين ويظهر علم الحزب وترفع في غزة وعواصم عربية صورتين بديلتين لصورة قائد فلسطين التاريخي علي حد تعبير الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران وأبو المقاومة كما نعرف. أما الفرصة التي لم تفوت, فكانت العزف علي لحن الخلافة, وعودتها الشبيهة بعودة المهدي المنتظر, وقد برزت خلال مذبحة الأسطول, وهنا نقول لإخواننا الأتراك ألا تتفاءلوا بأن أمر الخلافة الجديدة سيوكل لباب عال جديد في أنقرة لأن من سيتولاها هم من يرون في أنفسهم من بيننا البديل الكامل لليسار والليبراليين والمحافظين والمعتدلين والأقليات والعلمانيين والعجم. هؤلاء هم محتكرو الحقيقة المطلقة الجدد الذين لم تخل أدبياتهم وأنشطتهم من محاربة القومية العربية وإعطاء أولوية للجامعة الإسلامية علي الرابطة العربية, ونقد الجامعة العربية والصمت عن منظمة المؤتمر الإسلامي. أما دوليا فقضية حماس الأهم هي أنها تريد اعترافا مجانيا أمريكيا بها بدون تلبية الشرط الأمريكي بأن تعترف بإسرائيل. وفي أكثر من مقابلة مع وسائل إعلام غربية عبر زعيم حماس عن رغبته بفتح حوار مباشر مع الولاياتالمتحدة وهي من هي في تأييدها المطلق لإسرائيل الذي لن يتزعزع نتيجة حوار قد تجريه مع حماس. وفي حديث مع الصحفية الأمريكية تشارلي روز انتقد مشعل الولاياتالمتحدة لعدم إجرائها حوارا مباشرا مع حماس وقال إنه ليس لدي حماس مشكلة مهما تكن مع الولاياتالمتحدة أو المصالح الأمريكية, وعبر عن إدانته لأي عنف ضد المدنيين في أي مكان في العالم, واتهم إسرائيل بأنها هي العقبة في طريق السلام( كما نقول تماما) وقال أيضا وهو الرافض للحوار غير المباشر بين إسرائيل والسلطة كيف سينجح ميشيل بدون الحوار مع حماس. القضية الفلسطينية بدون العرب تخسر وتخسر, وينبغي إدراك هذه الحقيقة.