لم يكن الهدف من المقال السابق بأي حال من الاحوال تبرير ظاهرة الاسلاموفوبيا التي تجتاح الغرب والتي كان آخر مظاهرها الاستفتاء السويسري علي حظر بناء مآذن جديدة. كان الهدف هو البحث عن تفسير للظاهرة. وثمة فارق بطبيعة الحال بين التقييم وبين التفسير. وسواء كان الخوف الغربي من الاسلام مبررا أو غير مبرر, وسواء كانت مبررات هذا الخوف مردها واقع الاسلام والمسلمين في اللحظة الراهنة ام كان مبعثها التحامل الغربي والتوظيف السياسي للظاهرة, فالمؤكد ان الاسلاموفوبيا تبدو نتيجة لجملة معقدة ومتشابكة من العوامل. كان اول هذه العوامل ماسبق الاشارة اليه من الحضور الاسلامي في الغرب بنموه الديموجرافي المتزايد وصعوبات اندماجه الثقافي والاجتماعي في البيئة الجديدة التي يعيش فيها. ربما يبدو النمو الديموجرافي لمسلمي أوروبا هو الأكثر قلقا لمجتمعات أوروبية يكاد يتجمد نموها الديموجرافي عند النقطة صفر, حيث تتعادل المواليد الجديدة مع الوفيات في العديد من هذه الدول رغم سياسات التحفيز علي الانجاب. وربما تخشي اوروبا من انتشار الجيتوهات الاسلامية المغلقة مع مايرتبط بذلك من مخاوف العنف. لكن المؤكد ان اوروبا تعيش حالة من الحيرة وهي موزعة بين ثقافتها وواقعها. ثقافة تفرض عليها احترام حقوق وحريات الانسان بما فيها حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية وحظر التمييز علي أساس عرقي او ديني وواقع يثير مخاوفها نتيجة انتشار مظاهر التعبير عن الهوية الاسلامية علي اراضيها. يعمق من هذه الحيرة الأوروبية الجدل الدائر حول ارتفاع معدلات البطالة وزيادة مخصصات التأمين الصحي والرعاية الاجتماعية, والمسلمون في قلب هذا الجدل الدائر. الدولة في أوروبا تدرك أنها لايمكن ان تدير ظهرها للحقوق القانونية لهؤلاء لاسيما وهي ملزمة بذلك بموجب تشريعات ومواثيق واتفاقيات دولية تحظر التمييز. لكن المجتمع في اوروبا اقل ادراكا من الدولة بذلك لاسيما وان هذا المجتمع يضم شرائح عديدة من البسطاء والعاطلين والاقل تعليما الذين يعتقدون ان هؤلاء المسلمين الذين يقيمون بين ظهرانيهم لا يلتصقون فقط بديانتهم وشعائرهم ومآذنهم بل إنهم يأخذون فرصهم ووظائفهم ويزاحمونهم في نظم ومزايا الرعاية الاجتماعية والتعليم وغير ذلك. ولعل هذه الرؤية من جانب بعض المجتمع الاوروبي لكي لانقع في شرك التعميم لاتخلو من انتقائية وتحامل. فالمسلمون المقيمون في أوروبا ليسوا وحدهم الذين ينافسونهم علي الفرص والوظائف ونظم الرعاية الاجتماعية بل هناك ايضا مهاجرون ومقيمون اخرون من جنسيات وأديان وثقافات اخري, فلماذا كان المسلمون وحدهم هم موضع الضيق والشكوك والمخاوف؟ مرة اخري ليس هناك من اجابة سوي الشعور الاوروبي الكامن في العقل الباطن باختلاف وربما تناقض الحضور الاسلامي عن غيره من مظاهر الحضور الديني والثقافي والاجتماعي لأقليات اخري. وهو اختلاف يجسده مظهران أولهما ان الانتماء الاسلامي يتجاوز المبادئ الفلسفية والتفسيرات النظرية للكون والحياة ويشكل نظاما سلوكيا ونسقا قيميا واقتصاديا وقانونيا وربما سياسيا لدي البعض. هذه مسألة تثير مخاوف الغرب الذي يقبل الاختلاف الديني والثقافي والاجتماعي كنوع من الفولكلور لا أكثر! اما ان يتجاوز الامر ذلك فالمخاوف تزداد بالضرورة. والعامل الثاني ولعله الاهم هو ان العيش المشترك لمهاجري الجيلين الثاني والثالث من ابناء المسلمين في اوروبا يبدو اقل في تأثيره علي انتمائهم الديني والثقافي والاجتماعي فيما لو قورن لدي المنتمين لديانات وثقافات اخري. الامر المؤكد علي أي حال ان الاسلاموفوبيا تجد احد تفسيراتها في مسألة الحضور الاسلامي في المجتمع الاوروبي والهوية المتصاعدة لهذا الحضور والتي لم يروضها حتي الان زخم العيش في مجتمع يوفر الكثير من مظاهر الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية قدر مايكفل حياة آمنة ومناخا سياسيا وثقافيا يكفل الي حد بعيد وبأكثر مما هو متوافر في المجتمعات الاصلية لمسلمي اوروبا الكرامة الادمية. لكن ظاهرة الاسلاموفوبيا وبما تجد تفسيرا آخر إضافيا يكمن في محاولات توظيفها السياسي من جانب الاحزاب اليمينية المتطرفة في العديد من البلدان الاوروبية. فالحاصل اليوم ان هذه الاحزاب في سعيها الحثيث للحصول علي أصوات انتخابية تحاول اثارة الغرائز العنصرية لدي بعض شرائح المجتمع الاوروبي ضد الاجانب المقيمين والمسلمين من بينهم بطبيعة الحال. ولعل هذا التوظيف السياسي بما له من حريات في الرأي والتعبير والتنظيم والحركة, وبما يملك ان يتداوله وينشره من معلومات وبيانات حول اوضاع الاجانب واعدادهم ومخصصاتهم يسهم ولا شك في زيادة مخاوف الاوروبيين من الاجانب عموما والمسلمين علي وجه الخصوص بحيث يتم تصوير هؤلاء وكأنهم المسئولون عن ارتفاع معدلات البطالة وزيادة العنف وتهديد الامن والاستقرار. ويضاف لكل ما سبق محاولات توظيف المناخ العالمي وامتطاء الحملة الغربية لمكافحة الارهاب بحيث يترسخ في روع المواطن الاوروبي اكثر فأكثر مسألة الاقتران الشرطي بين الاسلام والارهاب. ولعله من الامانة والشجاعة ان نعترف اننا نتحمل قدرا من المسئولية عن هذا الاقتران الشرطي الذي وقر في أذهان العالم بين المسلمين والارهاب منذ احداث الحادي عشر من سبتمبر, وهي احداث لو وقع مثلها في بلد اسلامي او عربي لما كان موقفنا اقل من الموقف الغربي في حملته علي الإرهاب. لكن علي الاخرين ايضا ان يعترفوا بامانة وشجاعة ان هناك دولا كإسرائيل تمارس ارهاب الدولة. وان الغزو الامريكي للعراق كان احتلالا غير مشروع يخالف احكام القانون الدولي, وكان اشبه بالانتقام الجماعي. فهل كانت تتصور امريكا حين قررت غزو العراق ان تنظيم القاعدة يسكن في خيمة علي ضفاف دجلة والفرات؟ هكذا تبدو اذا مناطق التعقيد والالتباس في تفسير ظاهرة الاسلاموفوبيا. الجزء الطافي من الظاهرة علي سطح الماء يمثل مخاوف ثقافية واجتماعية في مواجهة الهوية الاسلامية داخل المجتمعات الاوروبية وردود فعل علي نجاح توظيف الاحزاب والقوي اليمينية المتطرفة لحملة مكافحة الارهاب. اما الجزء الغاطس من ظاهرة الاسلاموفوبيا تحت الماء فيختزن مجموعة مخاوف نفسية متجمدة لاتريد الذوبان كالجليد وأطماع وحسابات سياسية. النفسي من الجزء الغاطس خلاصته بايجاز ان الغرب مازال يتذكر الوجود الطويل للمسلمين في الاندلس لنحو ثمانمائة عام وما زال يتذكر موقعة بواتييه التي وصل فيها المسلمون الي غرب أوروبا وكأن ذلك كله قد حدث بالأمس القريب. انها ازمة ماض من الذكريات الاليمة وحاضر من الشكوك المقلقة بين المسلمين والغرب. فالمسلمون ايضا يتذكرون الحروب الصليبية والماضي الاستعماري لاوروبا في المنطقة العربية وكأنه حدث ايضا بالأمس. اما السياسي من الجزء الغاطس فمؤداه ان الغرب مازال يعتقد ان المشروع الاسلامي وليس المشروع القومي العربي هو مصدر الخطر الحقيقي علي المصالح الغربية في المنطقة الغرب الذي لايترك شيئا للمصادفة ويحاول دائما استياق الاحداث يري في بساطة ان الاسلام السني يمكن ان يصبح يوما مثل الاسلام الشيعي مشروعا للمانعة يهدد مصالحه والمثال الايراني حاضر في العقل الغربي يثير لديه حواس الشعور بالخطر, ويوقظ مخاوفه وتساؤلاته حول مستقبل العلاقة بين المسلمين والغرب.. وهذا بحق سؤال كبير. [email protected]