تصاعدت في السنوات الأخيرة نبرة التيار اليميني المتطرف في "أوروبا" و"أمريكا"، الذي تتقاطع مصالحه في نواحٍ عدة مع "أجندة الجاليات الإسلامية" في المجتمعات الغربية، وتتماس بشدة في الوقت نفسه مع موجة من المشاعر الاجتماعية المتبرمة من الأداء الحكومي تجتاح دول العالم سواء في الشمال الغني أو الجنوب الفقير، الأمر الذي أكسب اليمين المسيحي "المتطرف" أصواتاً تتزايد يوماً بعد يوم لا تتورع عن التعبير عن آرائها بالعنف إذا لزم الأمر، أو الاصطدام بالأطر القانونية والدستورية التي أتاحت له التواجد ضمن المؤسسات التنظيمية للدولة، كما ظهر في أزمة حظر "المآذن" السويسرية التي وصلت ذروتها في "جنيف" منذ أيام وقبيل أن يجري الاستفتاء بشأنها في 92 نوفمبر الحالي. تعود وقائع تلك الأزمة إلي عام 2005 عندما تقدمت "الجمعية الثقافية التركية" بطلب إلي الجهات الإدارية في "فانجن باي أولتن" للحصول علي موافقتها علي إنشاء مئذنة ارتفاعها 6 أمتار فوق سقف مبني المركز الإسلامي، وهو الطلب الذي لم يجر النظر فيه بشكل عاجل- من وجهة نظر مسئولي الجمعية آنذاك- مما حدا بهم إلي اتهام مسئولي تراخيص البناء بالتباطؤ وتعطيل سير الإجراءات بشكل تعسفي وبعد سنوات من الصراعات القضائية استطاعت "الجمعية الثقافية التركية" انتزاع موافقة قانونية علي بناء المئذنة التي انتهي العمل منها وصارت ملحقة رسمياً بالمركز منذ يوليو الماضي! طيلة فترة التقاضي ظلت لجنة "ايجر كنجر" المؤلفة من "حزب الشعب السويسري" و"الاتحاد الفيدرالي الديموقراطي" تضغط من أجل تمرير مبادرة تحظر بناء "المآذن"- وليس المساجد- في "سويسرا" قياساً علي حالة المركز الإسلامي الموجود بحي صغير في ضاحية "فانجن" شرق "سويسرا"، إلا أن تحرك "الجالية الإسلامية" أحبط تلك المحاولات إلي أن تقرر طرحها للتصويت في 29 نوفمبر الجاري، بعد أن صاغتها اللجنة في شكلها النهائي بعد محاولات عديدة "لحزب الشعب" و"الاتحاد الفيدرالي" لوضع مبادرات مختلفة منذ عام 2006 قوبلت بالتجاهل من قبل برلمانات المقاطعات التي اعتبرتها غير دستورية ومن ثم باطلة؛ إلا أن لجنة "ايجر كنجر" قررت طرح "مبادرة فيدرالية شعبية"، بما يزيد فرصها في القبول ويخرجها من خانة "مبادرات المقاطعات" التي لابد لها من مراجعة تشريعية أولاً، والمبادرة الفيدرالية الشعبية تنص بعبارات واضحة علي "منع بناء المآذن" وحال تم إجازتها وتفعيلها فسيجري إلحاقها بالفقرة 3 من بند 72 للدستور الفيدرالي السويسري! اللجنة تضم 16 سياسيا منهم: و"أولريس شولر" الذي يروج للمبادرة بشتي الطرق وهو صاحب مقولة "إن المئذنة لا علاقة لها بالإسلام كدين، وإنما هي شكل من أشكال تفعيل الشريعة والقانون الإسلامي"، وهو كذلك أول من أشار في مساندته للقضية إلي نص خطاب سابق لرئيس وزراء تركيا- رجب طيب أردوغان- جاء فيه "إن المساجد هي ثكناتنا، والقباب خوذاتنا، والمآذن حرابنا؛ والمؤمنون جنودنا؛ وإن هذا الجيش المقدس لهو ما يحرس ديني"! وفي هذا السياق عبر"شولر" عن تخوفه من المغزي السياسي لعبارات "أردوجان" والمردود الشعبي لها بالنظر إلي المآذن كأحد العناصر التي لا تعكس فريضة دينية حقيقية! نتيجة لموقف "شولر" وغيره من المنتمين للتيار "اليميني" المعارض لحكم المحكمة السويسرية، فقد جري طرح المبادرة الشعبية في شكلها النهائي الذي يمنع السلطات المحلية من الموافقة المستقبلية علي بناء مآذن مماثلة؛ كما جري أكثر من استطلاع رأي وإحصائية حول المسألة برمتها أكبرها الإحصائية التي أعدتها صحيفة "لو ماتان" العام الماضي، وأكدت أن 43٪ من مواطني "سويسرا" الناطقين بالفرنسية الذين شملتهم الاحصائية وافقوا علي حظر بناء المآذن؛ أما أهم اقتراع بشأن القضية فهو ذلك الذي تم إجراؤه منذ أقل من شهر في أحد أهم معاهد استطلاع الرأي المستقلة في "سويسرا" وأكد أن نحو 34٪ من "السويسريين" يؤيدون المبادرة المناهضة للمآذن، و53٪ رفضوها فيما لم يقرر 13٪ من أولئك الذين شملهم الاقتراع! أما فيما يخص تأييد المنظمات الدينية لمبادرة الحظر فحتي الشهر المنصرم لم تبد منظمة دينية واحدة موافقتها علي مبادرة "إيجركنجر" بل إن منظمة "جيش الخلاص" المسيحية أعلنت بوضوح رفضها لرأي "كريستيان فابر" أبرز أعضائها وأبرز مؤيدي المبادرة وعضو لجنة "إيجركنجر" المحركة للمبادرة كلها، وهو تناقض يشي بانقسام داخلي وسط المنظمة، اللافت هو تكتل الحكومة السويسرية ومجلس العموم السويسري أو البرلمان العام وعدد لا يستهان به من المنظمات الأهلية والدينية من أجل رفض مبادرة الحظر المطروحة تماما حتي إن "البرلمان" رفضها في جلسة صاخبة ومثيرة للجدل منذ نحو4 أشهر بأغلبية 120 إلي 50 صوتا، وفارق التصويت في حد ذاته يشي بتوجه منفتح وغير منحاز بالمرة وموقف إيجابي للغاية من المسلمين هناك وكذلك الحكومة ممثلها في المجلس الفيدرالي الذي يري أن طرح المبادرة يتفق شكلا مع الأعراف والقواعد التنظيمية المعمول بها لكنه يختلف موضوعا بشكل كلي مع حقوق الإنسان ويتناقض مع جوهر قيم الدستور السويسري؛ وهي مبادرة من شأنها زعزعة السلام والمساهمة في نشر المعتقدات الإسلامية الأصولية المتطرفة، وقد أوصي المجلس برفض المبادرة علي المستوي الشعبي فيما انتقدت المفوضية الفيدرالية المناهضة للعنصرية المبادرة بشدة ورفضتها جملة وتفصيلا واعتبرتها تشويها للمسلمين وإساءة بالغة لهم وانتهاكا واضحا لحرية العقيدة!! منظمات المجتمع المدني - وهي لا تنتمي بالضرورة للتيار الإسلامي ولايشكل المسلمون أغلبية بين أعضائها بالمناسبة - شنت هجوما ضاريا علي المبادرة وعلي التيارات اليمينية التي تقف وراءها، فجمعية الأقليات علي سبيل المثال بدأت بالفعل منذ أشهر حملة إليكترونية لجمع أكبر قدر ممكن من التوقيعات علي بيان شديد اللهجة يحذر من تفعيل مبادرة حظر بناء المآذن ويطالب برفضها؛ وبالنسبة لمنظمة العفو الدولية، فإن رئيس مكتبها في "سويسرا" النشط "دانييل بولومي" أكد في أكثر من مناسبة أن المبادرة تسعي لزعزعة الثقة في المسلمين وتعمل علي تشويه صورتهم بشكل محض وواضح في الوقت الذي يزعم فيه واضعوها أنهم "يعملون للدفاع عن سويسرا ضد تيار كاسح من الأسلمة"! أما جمعية "إيكونوميسواز" المعنية بمتابعة النواحي الاقتصادية فقد رأت أن قرار الحظر من شأنه الإضرار بالغ السلبية بالمصالح السويسرية الخارجية وأشارت الجمعية إلي أن مجرد الإشارة لمبادرة من هذا النوع من شأنها إثارة غضب العالم الإسلامي كله؛ بينما تناولت جمعية "أونسر ريشت" المبادرة في أكثر من مقال ضمن إصداراتها الدورية وأكدت عدم جدواها وحذرت من مغبة آثارها السلبية علي المجتمع "السويسري"! فكرة الحظر نفسها وجدت معارضة قوية بين رجال الدين "الكاثوليك" الذين أصدروا مؤخرا بيانا مشتركا رفضوا فيه إخضاع المآذن الإسلامية لقيود حظر خاصة مؤكدين أن بناء المآذن - شأنه شأن أي عملية بناء أخري - تنظمها قوانين البناء السويسرية المدنية ولاينبغي استثناؤها من ذلك؛ ومن جانبه فإن الاتحاد الكنسي البروتستانتي وصف المبادرة بأنها لا تتعلق بالإسلام والمسلمين، بل بالأحري تعكس قلق أصحابها وخوفهم من الدين الإسلامي واتفقت مع البيان الكاثوليكي بشأن عرقلة المبادرة - حال إجازتها - للحوار بين الأديان وهو ما اتفقت بشأنه أيضا جمعية المجتمعات والكنائس الإنجيلية الحرة، وكذلك الاتحاد السويسري الإنجيلي والكنيسة الكاثوليكية الأقدم في "سويسرا" والمجمع المعمداني السويسري ومنظمة جيش الخلاص واتحاد الكنائس اللوثرية الإنجيلية، والبطريركية والإبراشية الأرثوذكسية بالقسطنطينية، والكنيسة الأرثوذكسية الصربية في "سويسرا"! كما تناول الأمر أكثر من خبير قانوني "سويسري" وحرصوا علي بحثه ودراسته ونشرت عدة مقالات في الصحف المحلية توضح موقف المبادرة القانوني وتحذر من الضغط من أجل تمريرها"! ومنذ عام ,2006 حتي الآن لا تخلو صحيفة محلية أو موقع إليكتروني "سويسري" من تعقيب أو مقال أو تعليق لرجل قانون يصب رأيه في اتجاه رفض الحظر من منطلق "ليبرالي" بحت . المواجهات بين "المسيحيين المتطرفين" وبين الجاليات الإسلامية بلغت أوجها مع بدء العد التنازلي للتصويت علي المبادرة المؤسفة في أواخر الشهر الحالي، حيث عمد "حزب الشعب السويسري" ذو التوجه اليميني المتعصب إلي شن حملة إعلامية بالغة القسوة ضد المجتمع الإسلامي هناك، والحزب الذي اشترك مع الاتحاد الفيدرالي الديمقراطي في وضع المبادرة لم يتورع عن إصدار بوستر أو ملصق إعلاني فظ يمثل سيدة منقبة تقف وسط مجموعة من المآذن أشبه برؤوس الصواريخ علي خلفية تمثل العلم السويسري وعليه عبارة أوقفوا بناء المآذن، والملصق حصل علي موافقة السلطات المحلية في "زيوريخ" التي أجازته من منطلق أنه لا يتعارض مع حرية التعبير؛ ورد المسلمون بما أسموه "سياسة الأبواب المفتوحة" حيث قرر "يحيي باسلامة" - رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية بجنيف مع ممثلي المنظمات الإسلامية هناك فتح المراكز الإسلامية للجمهور من أجل التعرف علي المسلمين عن كثب ومعرفة الدين الإسلامي وممارساته وعقائده بشكل معلن ومفتوح تماما للمناقشة، فيما قام هؤلاء بتصميم ملصق إعلاني مضاد يحمل علم "سويسرا" وعبارة "نحو تآخ سويسري" ليعلم الآخر رغبة المسلمين الغربيين في الاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها وسعيهم نحو ترسيخ وجودهم في إطار من الاحترام والالتزام بقوانين ودساتير هذه المجتمعات!؟