هل نترك الدولة المصرية الحديثة ومؤسساتها وسلطاتها فريسة للتآكل وبعض الإنهاك, وأشكال الفساد الوظيفي والسياسي الذي يكاد يغتال واحدة من أعرق دول العالم قاطبة؟ هل يستمر هذا التداخل بين مفهوم الدولة_ بكل تمايزاته_ وبين بعض أجهزتها البيروقراطية والأمنية والخدمية؟ هل نترك التداخل والخلط بين الدولة والحكومة والسلطة التنفيذية شائعا في وعي الجمهور العام, ولدي غالب المتعلمين, وبعض المثقفين بالمعني العام؟ كيف يمكن تجديد الدولة كمفهوم, وسلطات ومؤسسات وأجهزة؟ هل يمكن تحييد أجهزة الدولة إزاء المنافسات والنزاعات السياسية والتوترات الدينية والمذهبية والطائفية؟ أسئلة نطرحها علي سبيل التمثيل حول حالة الدولة المصرية الحديثة وما أصابها من اختلالات هيكلية, في علاقات سلطاتها, والأخطر علي مستوي الوعي السياسي والاجتماعي بها, وبإنجازاتها التاريخية في مجال الثقافة السياسية, وفي دفع قاطرة التحديث السياسي والمساهمة في بناء وتكوين الأمة المصرية الواحدة. ثمة عديد الأسباب وراء طرح الأسئلة السابقة يمكن إيراد بعضها فيما يلي: 1 تزايد حدة الانتقادات التي توجهها الصفوة السياسية المعارضة_ والحاكمة في أحيان عديدة_ إلي الدولة, وفي غالبية الأزمات التي تواجه بعض الأجهزة التنفيذية أو الوزارات أو الحكومة أيا كانت القطاعات التي أصابها الفشل أو شابها خلل ما. مثلا بعض التراجعات في الدور الإقليمي المصري في التعامل مع ملفات هامة تمس المصالح القومية العليا, منها الملفات الفلسطينية وتمدد الدور الايراني التركي خصما من الدور المصري, والفشل في ادارة ملف المياه,..الخ. ما سبق من وانتقادات تذهب كلها إلي الدولة, وتحاول إضفاء الصفات السلبية عليها بدءا من الفشل والعجز والتدهور إلي صفات قدحية أخري! بينما الدولة كيان معنوي, يتشكل من سلطات وأجهزة وشعب/ أمة, يفترض أنها هي الكائن السياسي المستمر_ إذا جاز التعبير وساغ_ بينما الحكومات والقادة والرؤساء والوزراء متغيرون من مرحلة تاريخية لأخري. توجيه النقد العنيف واللوم الشديد للدولة, يشير إلي تراجع في الوعي شبه الجمعي لغالب المصريين حول التمايز بين الدولة والحكومة, وبين الدولة وسلطاتها وأجهزتها, وبين السلطة التنفيذية. يرجع هذا التدهور في بنية الوعي شبه الجمعي أن ثمة تدهورا أصاب الثقافة الدولتية التي تشكلت عبر قرون حول الدولة النهرية/ المركزية, واستمراريتها التاريخية التي اتسمت بالفرادة والاستثنائية في تاريخ الدول مع الصين واليابان والهند. والأخطر أن الدولة/ الأمة الحديثة في مصر قد أصابها وهن شديد. 2 أدي تراكم المشكلات السياسية والأمنية والاجتماعية, والتغيرات الاقتصادية إلي إعادة تغيير في وظائف الدولة, وإلي تراجع سياساتها الاجتماعية في الصحة والتعليم والإسكان وتوفير الوظائف, وضبط وتنظيم الأسواق السياسية والدينية والاقتصادية والقانونية... إلخ. من هنا جنحت السلطة السياسية إلي الاعتماد المحوري علي أجهزة الدولة الأمنية في مواجهة عديد من الملفات والمشكلات والأزمات المستمرة والطارئة, وذلك بديلا عن الاعتماد علي العمل السياسي والأخيلة الخلاقة, والرؤي العلمية التي تنتظم حول سياسات وبرامج تتكامل فيما بينهما لتواجه الأبعاد المختلقة للأزمات وعبر آليات عمل فعالة علي كل المحاور. السياسة الأمنية وأهدافها والقيم والمصالح التي تدافع عنها_ هي جزء من الدولة وأجهزتها المستمرة, ومن ثم ينبغي أن تتدخل لأعمال مبادئ سيادة القانون' العادل والمتوازن', وقواعده علي المخالفين لأحكام المنظومات القانونية علي اختلافها. من هنا تبدو الأجهزة الأمنية ودورها المهم في تحقيق الاستقرار والكشف عن الجرائم والجناة, ليست مرادفا للحكومة أو السلطة الحاكمة, وإنما هي جزء هيكلي من أجهزة الدولة الدائمة والمستمرة, وعلاقتها بالحكومة لابد أن تنبع من علاقة كليهما بالدولة وسلطاتها ومن الدستور الذي ينيط بالسلطة التشريعية وظيفة إنتاج القوانين وتعديلها وإلغائها.. إلخ ومن ثم يخضع كلاهما للنظام والقانون للدولة. من هنا يفترض أن أجهزة الدولة تتحرك وفق القانون, لا أمزجة وأهواء بعض رجال السلطة. لا شك أن ميل الصفوة السياسية الحاكمة إلي الحلول الأمنية لمشكلات أكثر تعقيدا أدي إلي خلط في إدراك الجمهور بين الدولة والحكومة والأمن, وأصبحت كل الأمور والمشكلات والسياسات والقرارات تبدو لدي شرائح اجتماعية, وقوي سياسية, وكأنها أمنية بامتياز ولا تتجاوز ذلك, وهو ما يشكل خلط شديدا بين السلطة والدولة والأمن. 3 بروز أزمات تواجه تطبيق قانون الدولة وفاعليته, وعلي رأسها التشكيك في مدي شرعيته الدينية من قبل بعضهم, أو لجوء بعضهم لقانون الأعراف, أو الفساد للحيلولة دون أعمال القانون, أو ظاهرة عدم تنفيذ الأحكام القضائية, بما يؤدي إلي إضعاف للسلطة القضائية. يبدو أن ضعف فاعلية القانون الرسمي, يعود أيضا إلي عدم التكامل بين السياسة الاجتماعية والسياسة التشريعية, وعدم التوازن في المصالح الاجتماعية المتنازعة والمتنافسة في المجتمع, والتي لا تراعيها في إنتاج القوانين, وهو ما يؤدي إلي فجوة بين القانون والمخاطبين بقواعده, وبينه وبين الواقع الاجتماعي وتحولاته. لا ينبغي ترك المشكلات والأزمات المتسارعة تتنامي وتتراكم بحيث تؤدي إلي بعض من أشكال الفوضي, والانهيار, لأن فلسفة ومنطق الإصلاح ضد المنطق الراديكالي والانقلابي, الذي يرمي إلي إنتاج حالة من الفوضي كطريق للتغيير. ثمة فارق بين الحركة السياسية التي تنشد الإصلاح السياسي والتغيير السلمي علي عديد من المحاور والقطاعات, وبين الفوضي. الطلب الاجتماعي والسياسي علي التغيير الإصلاحي أمر مشروع ويجب الاستجابة لمقتضياته ضمن الأطر المشروعة. ثمة مخاطر محدقة من اللجوء إلي الفوضي في تفاصيل الحياة اليومية من مثيل المرور, وإشغالات الطريق والفساد في فضاء الوظيفة العامة.. إلخ, أمور تحتاج إلي المواجهة والحسم. الخوف من الفوضي لدي الفئات الوسطي العليا, والوسطي_ الوسطي بات يشكل أحد العقبات ضد تحول نوعي وحركي لمطالب الإصلاح, لأن آليات الفوضي تؤثر علي مصالح وأوضاع هاتين الشريحتين البارزتين في' التركيبة الطبقية' المصرية, لأنها ستؤثر علي وظائفهم وأعمالهم في القطاع الخاص, وممتلكاتهم من السيارات, وأقساطها ومع الوحدات السكنية/ التمليك التي يتم سداد أقساطها.. إلخ, انطلاقا من هذا التصور, لابد من التمييز بين المتغير/ الحكومة/ السلطة, وبين الدولة وأجهزتها, ولابد من إبراز هذا التمييز في الخطاب الإعلامي والسياسي للحكومة ورئيسها ووزرائها. ثمة حاجة موضوعية لإعادة هيكلة التوازن بين السلطات الثلاث والتمايز الوظيفي بينهم, وضرورة صياغة رؤية إصلاحية وتجديدية للسياسة التشريعية, من خلال العودة للتقليد القانوني التاريخي للدولة المصرية الحديثة, من خلال العودة إلي نظم القانون المقارن عالميا, واستصحاب أفضل منظوماته وتطبيقاته القضائية لتطوير أوضاعنا القانونية والاجتماعية, ولاسيما في عالم تسوده العولمة القانونية من خلال شبكات من المنظومات القانونية لحقوق الإنسان بأجيالها المتعددة, والاتفاقيات الدولية المعولمة, وتزايد التشابكات القانونية, وأنظمة التحكيم الدولي... إلخ. التصدي للفساد في المحليات, والوظيفة العامة, وعمليات ترييف المدينة فريضة سياسية وضرورة قانونية لإعادة الهيبة لقانون الدولة. ضرورة رفع أية عوائق قانونية أو إدارية ضد مبدأ المواطنة, ولاسيما في مجال الحريات الدينية, وعدم التمييز بين المواطنين جميعا بناء علي الانتماء الديني أو المذهبي أو العرقي أو المناطقي أو الجنسي( ذكر/ أنثي), وتحرير ثقافة الدولة وسياساتها من الذكورية السياسية, وإعادة دمج المرأة والأقباط في هياكل المشاركة السياسية, وفي أجهزة الدولة وهياكلها القيادية علي اختلافها. ثمة احتياج موضوعي لتجريم التحيز الديني والطائفي والمذهبي وعلاماته وتعاملاته من الموظفين العموميين وغيرهم في التعامل مع المواطنين. من ناحية أخري لابد من حل تشريعي حاسم إزاء ظواهر رفع الدعاوي لمصادرة الأفكار والإبداعات, أو تكفير أصحاب الرأي والفكر, والعقاب علي هذه الأفعال لخطورتها علي حرية الفكر والبحث الأكاديمي, بكل انعكاسات ذلك السلبية ومنها: ركود وتراجع دور مصر الثقافي في الإقليم وعالميا. مواجهة مظاهر وسلوكيات الفوضي, وتفعيل العمليات الإصلاحية والتحديثية يبدو مدخلها الرئيس متمثلا في التصدي لقانون المكانة/ القوة/ الفساد في المدن والأرياف حيث تسود البلطجة والعنف, وفرض قانون الأمر الواقع بالسيطرة علي الشوارع والحواري ونهر الطريق, وانتهاك السكينة العامة... إلخ. القانون والأمن والاستقرار_ قيم وقواعد عامة وكلية_ يبدأ بالتفاصيل علي أرض الواقع, ومن خلال هيبة القانون لا مظاهر القمع, والردع_ وهو حالة نفسية/ اجتماعية_ لكل من يمارس العنف والبلطجة لفرض قانون القوة والفساد من هنا نبدأ!