تعرض الجنيه المصري لضغوط كبيرة خلال الشهر الماضي أدت الي تدهور قيمته تجاه الدولار الأمريكي بما يقرب من12%. وبينما صرح محافظ البنك المركزي الجديد بأن البنك يملك من الأدوات ما يمكنه من علاج هذا التدهور ومقاومة المضاربات علي الجنيه, يتوقع خبراء آخرون استمرار انخفاضه, ربما إلي5,7 جنيه للدولار. وسنحاول في هذا المقال أن نعرض لأسباب انخفاض الجنيه, وسياسات سعر الصرف الملائمة لهذه المرحلة من التنمية في مصر. مما لاشك فيه أن سعر الصرف يعكس الحالة الاقتصادية داخل البلاد ومدي طلب المصريين علي العملات الأجنبية وطلب الأجانب علي الجنيه. وكما يقول أستاذنا الدكتور سلطان أبو علي, وزير الاقتصاد الأسبق, أننا يجب ألا نشكو من انخفاض الجنيه إذا كانت أحوالنا الاقتصادية الداخلية, وموقف ميزان المدفوعات سيئا. والواقع أن ثبات سعر الصرف لفترة طويلة, وحتي في ظروف ما بعد ثورة25 يناير كان استثنائيا وليس طبيعيا. ذلك أن الميزان التجاري المصري يعاني العجز منذ أوائل الستينيات, وفي الأعوام الأخيرة كنا نستورد ضعف ما نصدر من السلع, وبلغت الفجوة في العام المالي2011/2010( أي قبل الثورة) ما يقرب من25 مليار دولار( حيث بلغت الواردات48 مليارا, والصادرات فقط23 مليار دولار). فإذا أضفنا الي ذلك تراجع السياحة وصادرات الخدمات الي جانب توقف الاستثمارات الأجنبية المباشرة بسبب القلق علي الوضع الاقتصادي والسياسي داخل البلاد, لكان من الطبيعي إذن أن تنخفض قيمة الجنيه. وتوضح بيانات وزارة المالية أن الفجوة في الميزان التجاري قد بلغت317 مليار دولار في العام المالي2011/.2012 ولقد بذل البنك المركزي المصري جهودا هائلة للحفاظ علي قيمة الجنيه, وكان هذا علي حساب الاحتياطيات من النقد الأجنبي. كذلك استجاب المصريون العاملون في الخارج الذين بدأوا في المشاركة في الحياة السياسية المصرية, بزيادة تحويلاتهم الدولارية حتي وصلت إلي نحو18 مليار دولار. كذلك زادت التحويلات الرسمية من الدول الصديقة, وإن كانت هذه التدفقات أقل مما نتوقع. ما العمل إذن؟ بداية لا بد من أن نقر بأن تمتع مصر بسعر صرف ثابت لفترة طويلة هو هدف غالي التكلفة. ونحن نري عملات الدول الكبري تتمتع بالمرونة في الصعود والهبوط. فاليورو انخفض انخفاضا كبيرا أمام الدولار بسبب ديون اليونان والأزمة المالية في إسبانيا وأيرلندا. وها هو يستعيد عافيته خلال أشهر قليلة. كذلك شهد الين الياباني تقلبات كبيرة عبر السنوات العشر الأخيرة. وفي الماضي تعرض الجنيه المصري لضغوط مشابهة. ففي عام1981 الذي شهد استشهاد الرئيس السادات انخفض سعر السوق الحر للجنيه بنسبة تقترب من15%, وفي الأعوام السبعة الأولي من حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك انخفض الجنيه الي ثلث قيمته!( من76 الي309 قروش للدولار). وكذلك قام الدكتور عاطف عبيد بتخفيض قيمة الجنيه إلي النصف تقريبا في ليلة واحدة عام2003, ثم استعاد الجنيه بعضا من قيمته المفقودة بعد ذلك. وقد يري الخبراء فوائد في انخفاض قيمة الجنيه. فمن ناحية يؤدي الانخفاض الي زيادة طلب الأجانب علي الصادرات المصرية والسياحة. كذلك يؤدي الي إحجام المصريين عن الاستيراد والسفر الي الخارج. وتتبع بعض الدول سياسة تخفيض العملة الوطنية لمعالجة العجز في ميزان المدفوعات. مع ذلك هناك بالطبع آثار سلبية تتمثل في ارتفاع أسعار الواردات والتضخم المحلي. ومصر دولة تعتمد علي استيراد الغذاء والسلع الرأسمالية من الخارج. هذا بالإضافة الي زيادة عبء الدين الخارجي. وليس من الممكن في المدي القصير مقاومة انخفاض الجنيه دون التضحية بجزء كبير من الاحتياطي الدولاري, وهو قليل. أما في الأمد المتوسط والطويل فيجب العمل علي زيادة الصادرات المصرية عن طريق زيادة تنافسية الاقتصاد المصري, ليس فقط بتخفيض تكلفة الإنتاج, بل أيضا برفع مستوي الجودة وتحسين مستوي التعليم والتدريب. ولقد احتلت مصر مركزا متأخرا جدا في مقاييس التنافسية العالمية بسبب قيود سوق العمل, وانخفاض مستوي قوة العمل, ناهيك عن ارتفاع الأمية التي تعتبر العار الأكبر لحكم مبارك. ولقد تضمن الدستور الجديد مواد مبتكرة خاصة بجودة التعليم, وألزم الحكومة بالقضاء علي البطالة خلال عشر سنوات. كذلك يلزم العمل علي تخفيض الاستيراد الترفي والسفر الي الخارج فليس من المعقول أن نحاول أن نحقق تنمية بينما تنشغل الطبقات القادرة باستيراد طعام الكلاب والقطط من الخارج, وتقضي إجازاتها في ربوع أوروبا وآسيا. والمحصلة أنه من الواقعية أن يتبع البنك المركزي في الأجل القصير سياسة سعر صرف واقعي ومرن. مع ذلك عليه مقاومة المضاربات الضارة, وأن يعمل علي تطمين الجمهور العام علي مستقبل الجهاز المصرفي, وحصانة ودائعه الدولارية. وفي النهاية نؤكد أن البنك المركزي وحده لا يستطيع حماية الجنيه المصري, فهذه مهمة القيادة السياسية التي يجب أن تعمل علي تشجيع الصادرات, وحث الحكومة علي ترشيد الاستيراد, وفوق هذا وذاك العمل علي تحقيق وفاق وطني يهدئ النفوس, ويعطي العالم الخارجي ثقة أكبر في الاستثمار في مصر. المزيد من مقالات د. علي عبد العزيز سليمان