في الاحتفالات التي أقامها الغرب بمناسبة مرور عشرين عاما علي سقوط حائط برلين, الحدث الذي شكل عام1989 العلامة الفاصلة في الصراع بين الرأسمالية المنتصرة والاشتراكية المنهزمة. قال المعلقون السياسيون الغربيون' كانت البداية في جادنسك' ميناء صناعة السفن البولندي الذي شهد قيام حركة التضامن العمالية المستقلة عن التنظيم النقابي والحزب الشيوعي البولنديين. أي أن بداية النهاية, لهذه الصفحة الاشتراكية من تاريخ الإنسانية, كانت علي يد سلسلة الإضرابات و الإعتصامات التي خرجت من رحم النقابات البولندية' الرسمية' كما أطلق عليها المحللون السياسيون الغربيون. تاريخيا, هذا صحيح مائة في المائة, بالرغم من اختلاف البعض منا معه سياسيا. ولكن نستطيع القول إن النقابات حتي ذلك التاريخ أو حوله بعدد من السنوات, سواء كانت قبلا أو بعدا, كانت تلعب دورا اجتماعيا هائلا في حياة الأجراء القائمين علي العملية الإنتاجية,لأنها كمنظمة مجتمعية كانت تنظم وتضم الملايين من هؤلاء الأجراء العاملين في كل فروع وقطاعات الإنتاج والخدمات والتجارة في كل وطن. كانت غالبية هذه العضوية من المواطنين المستقلين سياسيا, لذلك كان عدد عضوية النقابات يفوق دائما عدد كل أعضاء الأحزاب السياسية مجتمعة في أي مجتمع ليبرالي أو اشتراكي. في الإتحاد السوفيتي مثلا كانوا يقولون أن الحزب الشيوعي السوفيتي يضم عشرة أو عشرين مليون( حسب المصدر) عضو, أما اتحاد نقابات عمال عموم الاتحاد السوفيتي فكان يضم في عضويته99 مليون عامل وعاملة! وفي المملكة المتحدة ضم مؤتمر النقابات في إنجلترا' اسم التنظيم النقابي في المملكة المتحدة' حتي بدايات العقد الثمانيني من القرن الماضي12,5 مليون عضو. مثل هذا الرقم, حينذاك, ثلاثة أضعاف عضوية حزب العمال البريطاني. فعلي طول سنوات العقود السبعة الأولي للقرن العشرين كانت النقابات تنتقل من مرحلة تطور التنظيمي والكمي إلي درجة أعلي منها في التطور التنظيمي والكمي. ولم يعود ذلك لنضال رجالها ونسائها الأشداء فحسب بقدر ما عاد في نفس الوقت لتطور الرأسمالية ذاتها ولخلقها فنونا وقطاعات ووحدات وخطوط إنتاج كبيرة ضخمة تنتشر في كل مكان. وحتي علي الجانب الآخر من العالم حيث كانت الاشتراكية, فقد قدمت خططها التنموية فنونا وقطاعات ووحدات وخطوط إنتاج لم يكن لشعوبها أن تتعرف عليها أو تتقنها علي هذا الوجه من السرعة والاختزال الزمني إلا من خلال هذا التخطيط. ساعد كل ذلك النقابات العمالية علي أن تؤكد وجودها كمنظمات مجتمعية هامة لها عضويتها وجماهيرها الواسعة ونمطها التنظيمي الذي لم يكن لينتعش إلا في إطار علاقات ديمقراطية داخلية تولد كوادر قادرة علي الحركة والتفاوض علي الأجور والعلاوات والإنتاج والمعاشات, وعقد اتفاقيات العمل المشتركة ثم وهذا هو الأهم خلق حياة نشطة جماهيرية عامة أصبحت مع السنوات صمام أمان اجتماعي وسياسي لا يمكن تجاهله. وباتت النقابات العمالية كالخلية الحية التي تصد الأخطار عن الوطن من خلال صد الأخطار عن أجرائه من النساء ومن الذكور, وإحاطتهم بسياج من الأمان الاجتماعي. وتحولت النقابات مع مرور العقود السبع الأولي من القرن العشرين إلي منظمات تبني قلاعها التنظيمية الإقليمية والعالمية وتلعب دورا كبيرا في وضع مستويات ومعايير تشريعات العمل الدولية التي باتت سندا لكل الأجراء في كافة البلدان حتي بات الانخفاض عن مستوياتها الدنيا سببا لإحراج الحكومة غير الملتزمة بها. كما أن هذه النقابات التي ضمت الأجراء في كل بلد علي حده هي التي صاغت فكرة التضامن ومساندة الآخرين في المحن والصعاب الاجتماعية. فدائما ما كانت النقابات الأقوي والأكبر تساند النقابات الأضعف والأصغر في حركتها من أجل تحسين شروط وظروف العمل أو في حالات التحفظ علي النقابيين أو اعتقالهم بغض النظر عن الموقف الرسمي لحكوماتها. وقد نما هذا التوجه في الحياة النقابية كرد فعل لتضامن أصحاب الأعمال وتوحدهم من أجل تحديد الأجور وساعات العمل والتأثير في التشريعات التي تنظم العلاقات الإنتاجية. وربما باتت مظاهر هذه القدرات النقابية واضحة خلال العقد السبعيني من القرن الماضي عندما كانت اتفاقيات العمل الجماعية الموقعة بين النقابات والإدارات تسهم في تحديد الأجور والمعاشات والعلاوات والإجازات بناء علي قدر مساهمة العمال والعاملات في زيادة الإنتاج, وتحقيق الأرباح في الولاياتالمتحدةالأمريكية وبلدان أوروبا الغربية. وكان للنقابات جهازها المحاسبي الذي امتلك القدرة علي دراسة ميزانيات وحداتها وظروف إنتاجها وتقديم الاقتراحات اللازمة لتطوير العملية الإنتاجية بكاملها. لذلك خرجت من صفوف هذه النقابات الكبيرة العديد من القيادات العامة التي لعبت أدوارا هامة في الحياة العامة لمجتمعاتها. ولنا أن نذكر علي سبيل المثال كلا من الرئيس سيلفا دي لولا رئيس البرازيل وجاكوب زوما رئيس دولة جنوب إفريقيا. كلاهما خرجا من رحم النقابات في بلديهما. وإذا كانت النقابات قد اشتهرت بتنظيمها الاعتصامات والإضرابات والاحتجاجات المصنعية التي تؤثر سلبا علي الإنتاج, فكان ذلك حقها الذي انتزعته وقننته واستخدمته دفاعا عن مصالح أعضائها. وكانت دائما الإضرابات التي تنظمها النقابات وتقودها هي الأكثر انتظاما والأقل عنفا. كما كانت تمثل السلاح الأخير للنقابات أمام الإدارة. فالإضراب لم يكن أبدا سلاح النقابات الأول الذي تستخدمه بعفوية. لأنها في حالة تنظيم الإضراب تكون مسئولة عن إعاشة العمال وعائلاتهم. لذلك فامتلاك النقابات لحق تنظيم الإضراب يمثل خطوة لا يمكن أن تكتمل إلا بامتلاك النقابات لحق إنشاء صندوق لتمويل الإضراب. وفي حالات حدوث الإضرابات من خارج عباءة النقابات وبدون تنظيم منها فإن ذلك يعني باللغة النقابية' انفصال القيادة عن حركة زملائها الأعضاء'. هنا قد تنشأ العشوائية والعنف. في تقديري أن هذه الأوضاع استمرت حتي بداية العقد الثمانيني للقرن العشرين. بعد عام1980 تغيرت أمور كثيرة, فقد جرت مياه جديدة في النهر. لم ينحصر هذا الجديد في نقابة التضامن في جادنسك, ولكنه كان جديدا عميقا للغاية. فالرأسمالية التي كنا نعرفها والتي كانت تتشكل النقابات في مناخ علاقاتها, باتت نوعا جديدا من الرأسمالية التي أوجدت صناعات وخطوط إنتاج وعلاقات جديدة أثرت في كل العالم, وكان تأثيرها واضحا علي النقابات العمالية.