ليس صحيحا أن المخالفات في عزبة الهجانة ترجع المسئولية عنها إلي شخص بذاته, فهي محصلة عوامل وقوي اجتماعية منها الهجرة من الريف إلي المدينة, والفقر, وغياب القانون, وانتشار الرشاوي والفساد في المحليات. ومصالح رجال الأعمال الذين يرغبون في الاستفادة من كل شيء, وحاجة ابناء الطبقة الوسطي الذين تجبرهم ظروفهم علي الاقامة في أي مكان, علي أمل أن تتحسن الأوضاع في المستقبل. (1) القضية إذن أكبر بكثير من قرار يتخذه محافظ. وإلا لكانت عملية القضاء علي الأحياء العشوائية في مصر مسألة بسيطة. فإذا وجدنا أن المحافظ مثلا يقول إنه لاتصالح مع المخالفين وأنه لابد من إزالة العقارات المخالفة, فهو في النهاية يتحدث عن عدد محدود من العقارات, وبالتالي عن عدد يسهل التعامل معه من المخالفين, وليس معقولا أن يكون الأمر علي خلاف ذلك, فهو يوافق علي كل ما هو عشوائي غير مخالف ولأجل هذا لم نجد أحدا يقول إن كل المنازل أو الابراج والعقارات السكنية التي أقيمت في عزبة الهجانة هي عقارات مخالفة, ويعني هذا أنها جميعها حصلت علي تصاريح, وتراخيص بناء وجري استخراج أذون رسمية بتزويدها بالمياه والكهرباء والصرف الصحي, واتخذت الإجراءات اللازمة لصرف الكميات اللازمة لها من الاسمنت وحديد التسليح, ونظر مهندسو الاحياء أو اعتمدوا رسومات هندسية لهذه المساكن وتحتفظ سجلات الاحياء والمدن بصور طبق الاصل لهذه الرسومات ويتم اللجوء لها عند قيام أي نزاع قانوني. وعلاوة علي كل هذا فهناك طرق مرصوفة أو معبدة وشبكات نقل عام وخاص ومدارس ومستشفيات لنقل الأهالي وخدمتهم وتوفير كل احتياجاتهم.. المعني من كل هذا أن هناك أجهزة من الدولة قد اتخذت عدتها كاملة وكانت علي دراية تامة بما يجري, ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل وصل إلي إقامة اقسام للشرطة لضبط الأمن بها واستقر تقسيمها الإداري حتي أصبح لها تبعيات قضائية محددة أمام المحاكم, بل صار لها أعضاء في المجالس المحلية والشعبية ومجلسي الشعب والشوري. (2) نحن إذن عندما نتحدث عن أحياء عشوائية لا نقصد المعني المقصود بالضبط من العشوائية, فقد تم اتباع كل الإجراءات الإدارية, والقانونية, والهندسية عند إقامة أي منزل في هذا الحي, أو عند تطوره وصار منطقة سكنية, بمعني أن سكان المنطقة لم يجدوا انفسهم بين يوم وليلة في هذه المنطقة أو تلك, بل الصحيح أن العملية استغرقت فترة زمنية تقدر ب عشرات السنين, وإذا تحدثنا عن عزبة الهجانة فعمرها لا يقل أبدا عن عمر مدينة نصر ذاتها, تماما كما أن عمر مدينة السلام لايقل عن عمر مصر الجديدة, وبولاق الدكرور عن عمر الدقي والعجوزة.. الخ. كل المسألة أنها ضاحية لفقراء من الناس ولأنهم فقراء فليس لهم نفوذ ولذلك من الطبيعي ألا يكون لهم صوت فلا يهتم أحد بأين يسكنون, وهذا التجاهل يمتد إلي الشوارع والمدارس والمستشفيات وحتي أقسام الشرطة والمحاكم التي تتبعها هذه الاحياء فأهم وأمهر الاطباء والمهندسين والمستشارين وضباط الشرطة والمدرسين يجري وضعهم في الاحياء الممتازة, أما هذه الاحياء الفقيرة فتذهب إليها ايضا الكفاءات الفقيرة. ولأن السكان في غالبيتهم العظمي من الفقراء ذوي التعليم المحدود ولهم أصول ريفية قريبة العهد وممن يداومون علي الانتقال أو السفر كل بضعة أشهر إلي قراهم التي جاءوا منها, فهم يتصرفون كأنهم في قرية فالمعتاد أن يلقي الواحد منهم بأي فضلات حيثما اتفق وأن يقضي حاجته في أي مكان كأنه غيط, وصوته عال إذا تحدث, وإذا اختلف مع شخص سبه وشتمه, لكنه في ذات الوقت شديد التمسك بالدين وبالقيم الاجتماعية التي جاء بها من القرية, وبرغم أنه يحاول قدر الإمكان إخضاعها لمنطقه هو بما يحقق فائدته إلا أنه إذا وجد هذه القيم ضد مصلحته أنكرها ولم يلتزم بها. (3) إذا اصبحت مصر دولة قوية من الناحية الاقتصادية عندها صناعة مزدهرة وزراعة لها شأن وتجارة محلية أو عالمية واسعة, إذا تحقق هذا لمصر فإنه سوف يعني أن فرص العمل القادرة علي توليد دخول عالية أصبحت متوافرة, وبذلك ترتفع مستويات المعيشة وتتحسن أحوال التعليم والثقافة والسياسة في البلاد. وهكذا تتحسن السلوكيات البشرية وأهم ما في هذه العملية أن قدرة المجتمع علي محاسبة المسئولين تزداد وتصبح القاعدة أن ينتخب الناس كل من يتصدي لشأن يعنيهم. بذلك تصبح الحكومة والمحافظون من اختيار المواطنين في الانتخابات, ولهذا نجدهم يضعون اهتمامات المواطنين نصب أعينهم وإلا تم اعفاؤهم من مناصبهم وهكذا نجد أنه عند توزيع بنود الميزانية لا يتم التحيز ضد منطقة أو مناطق, لحساب منطقة أو ضاحية مهما تكن وبالتالي تطول يد التطوير كل المناطق وفقا لخطط حقيقية يتوافر لها تمويل, ويجري تنفيذها بجداول زمنية محددة والأهم من كل هذا أن المواطن العادي يملك القدرة علي محاسبة أي مسئول أخلف وعده ويجري استبعاده وتختفي الخطط الوهمية. الخطط التي لا تتوافر لها اعتمادات مالية ولا يتم تنفيذها أبدا. وهذه هي آفتنا في مصر, التي تتمثل في كثرة الخطط والقوانين والبرامج والأهداف التي لانطبقها أبدا.. لماذا؟ لأن أحدا لا يحاسب أحدا. وبذلك تختفي العشوائية من السياسة, ومعها يبدأ اختفاء العشوائية من حياتنا. [email protected]