معركة مصر الكبري في التاريخ الحديث والمعاصر معركتان. الأولي ضد الاستبداد والفساد والقهر الذي استوطن هذه البلاد طويلا. والأخري هي معركة البحث عن هوية سياسية بديلة ورشيدة تحقق للمصريين شيئا من الاجماع ثم الاستقرار اللازم لصعود تلال التنمية. وهو بكل المعايير صعود مروع. كل الدلائل تؤكد أنه إذا انتصرت مصر في هاتين المعركتين فلن يمنعها مانع من أن تنطلق لتلحق بركب الدول القويمة والانعتاق من الفقر وتوابعه من مظاهر التخلف. ورغم أن المعركتين تتكاملان في تحقيق النهضة المصرية, إلا أنهما مختلفتان في كل شيء تقريبا وهما معا لاتحتلان المكانة اللائقة في الوعي السياسي المصري. المعركة الأولي يمكن أن تحسم في جيل واحد. قد تأتي نتائجها سريعا. وقد تنتهي إلي إعادة إنتاج نظام سلطوي في ثوب جديد ما لم تتحقق معها نتائج ملموسة في المعركة الثانية التي هي مجهدة ومؤلمة وممتدة عبر الزمن ونرجو ألا تكون باهظة التكلفة. فرسان المعركة الأولي ليسوا بالضرورة هم أفضل من يقود الجهود في الثانية. وأسلحة المعركة الأولي هي الأسوأ في المعركة الثانية. قد تكون المعركة الأولي ضد الاستبداد غير مسبوقة في التاريخ المصري أما الصراع علي الهوية السياسية فله نظائر وأشباه في حياة المصريين المحدثين. فقد سبق أن نشب في أعقاب رحيل الحملة الفرنسية علي مصر. حينها استفاق المصريون من وهمين شائعين. فهم ليسوا أفضل البشر لأنهم فقط مسلمون. فقد رأوا في الكفار الفرنسيس من يفوقهم علما ونظاما وحضارة وقوة. وأدركوا أيضا أنهم في حمي خليفة المسلمين سلطان العثمانيين ليسوا بمأمن من غزو الكافرين. استمر الصراع طويلا حتي أصبحت الغلبة لجماعات الإسلام السياسي في نهايات ثلاثينيات القرن الماضي قبل أن تحسمه جزئيا حركة الضباط الأحرار في يوليو1952 حين أخرجت الفريقين المتصارعين من حلبة الحياة السياسية. ثمانية عشر يوما بالغضب والقهر والإحباط الذي تراكم اقتلعت نظام مبارك العتيد.ورغم مضي نحو عامين علي ذلك الانتصار فإن توزيع الغنائم حول شركاء الأمس إلي فرقاء اليوم. لم يدرك هؤلاء أن المعركة القادمة مختلفة ولن تحسم في جيل واحد وهي ليست بحاجة إلي سياسيين ثوريين وليست بحاجة إلي قهر وإحباط ومظاهرات واحتجاجات وخطب سياسية تعبوية بقدر ما هي بحاجة إلي رشاد وعقلانية تقتفي خطي مصلحين ومفكرين وسياسيين راشدين قادرين علي تجسير الفجوة بين الأطراف المتناحرة في الحياة السياسية المصرية. فالتناحر القائم في مصر هو في حقيقته تناحر بين تصورات ومرجعيات متناقضة ومتطرفة علي الجانبين. جانب يري الحياة كلها شأنا من شئون البشر يدبرونها في ظلال الواقع والمصلحة الراهنة دون أي مرجعيات دينية. وفريق آخر يري الحياة في كل جوانبها تحكمها المرجعيات المقدسة حسب فهمهم مع التوسع النسبي في تلك المرجعيات حتي وإن بدا بعضها مناقضا للواقع ومتنكرا لمفهوم الزمن. هذا التطرف علي الجانبين سوف يطيل أمد المعركة التاريخية المصرية الراهنة. وليس صراع الدستور الراهن سوي إحدي تجليات المعركة الكبري حول تلك الهوية. لم يولد علي أرض مصر بعد من يستطيع أن يصرخ في المصريين فينتظموا في صفوف متراصة منتجة ومبدعة. تنهي صرخته خلافهم واختلافاتهم وصراعاتهم. ولو أن الرئيس مرسي ألغي الدستور والاستفتاء وأعاد النائب العام وفعل كل ما يطالبون به لما تغير في الأمر شيء. فقد بدأت معركة البحث عن الهوية السياسية. من حسن الحظ أن الطبقة الوسطي في مصر أعرض كثيرا مما كانت عليه تلك الطبقة في التجربة شبه الليبرالية في مصر قبل ثورة1952 التي لم تخرج أبدا لتدافع عن الحرية التي عصف بها الضباط الأحرار. فقد كانت الحرية ترفا نعمت به طبقة رقيقة جدا طفت علي سطح الحياة المصرية آنذاك. أما الطبقة الوسطي الراهنة في مصر بحجمها ومستويات الوعي لديها وتكنولوجيا الاتصال التي تستخدمها فهي تظل أكبر ضمان ألا نعود لعهود الاستبداد مرة أخري. ربما تفتقر هذه الطبقة الآن إلي من يأخذ بيدها ليعبر بها أزمة الهوية ولكنها لاتزال قادرة علي التفاعل النشط حتي تصل إلي تلك الهوية. من المؤسف أن فرسان البحث عن هوية سياسية مصرية في الوقت الراهن سجناء. وكما يقول سارتر السجون تبرز أسوأ ما في الإنسان. هم سجناء آرائهم متعصبون وغير راغبين في تدبر فقه الواقع الاجتماعي والثقافي المصري ولك أن تتوقع منهم ما هو أسوأ. الواقع المصري يرفض أن يعاد إنتاج الليبرالية الغربية في أرضه ويرفض علي الجانب الآخر إنكار مفهوم الزمن ومقتضيات حياة تجري في القرن الحادي والعشرين. هؤلاء السجناء علي الجانبين سبق وأن رفضوا آراء الإمام محمد عبده قبل أكثر من مائة عام. وهي التي تمثل بقعة الضوء الباقية في معركة البحث عن هوية سياسية. فقد تجاوزه الليبراليون ورفضه المحافظون الدينيون وكان يمكن لآرائه أن تقدم الكثير من العون في معركة البحث عن الهوية السياسية المصرية. ربما كانت آراء الإمام محمد عبده صالحة في مساعينا الراهنة وربما كان نشرها عونا في هذا الطريق. حسنا فعل الصديق الدكتور صابر عرب وزير الثقافة حين دعا نخبة من المثقفين للنظر في أمر وضع استراتيجية وطنية للثقافة المصرية غير أن غياب وزارتي التعليم وأجهزة الدعوة والأزهر ووسائل الإعلام عن مثل هذا الجهد قد يعيدنا إلي المفهوم الضيق للثقافة المصرية وهو مفهوم أقل كثيرا من أن يساعد مصر في البحث عن نفسها. المزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين