مقدمة : صلب الحركة الثورية وجوهرها اجتماع الكل على مطلب وحيد هو التغيير الجذري لنظام حكم قائم حيث لا ينشغل كل من يشارك في الفعل الثوري بغير هذا الهدف وبلا هذه الوحدة الغائية لا سبيل إلي إنجاز الثورة . دوما الحركة الثورية تتكون من عدد من الفئات المجتمعية المتمايزة في ما بينها من حيث الخلفيات الفكرية وبالتالي تحمل عدد من التصورات المختلفة فيما بينها لذا اجتماع الكل علي مطلب واحد لا ينفي وجود مطالب أخرى ثاوية في خلفيات كل وحده مجتمعية شاركت في الثورة بما تحمله من أفكار وتصورات . وعندما تنتهي الحالة الثورية وتتفكك هذه الوحدة الغائية تبدأ مرحلة ما بعد الثورة والتي تتسم بقدر كبير من التوتر وذلك لبروز المطالب الخاصة بكل فصيل شارك في الفعل الثوري بعدما كانت مختبئة خلف مطلب التغيير وأهم مما يميز هذا التوتر المجتمعي في واقع ما بعد الثورات تشكل حاله أقرب ما تكون بصراع على هوية البلاد التي قامت فيها الثورات وقد بدا هذا الصراع جليا في حالة الربيع العربي فما تلبث الثورة أن تنجز ويزول النظام القائم حتى تبدأ حلقات هذا الصراع . أولا : الهوية المفهوم والضرورة ساحة العلوم النفسية والاجتماعية هي محل دراسة مسألة الهوية ولا ينفي هذا تناوله من زاوية فلسفية أيضا ومفهوم الهوية يمكن التعبير عنه كالآتي ( هوية الشيء هي مجموع الخصائص الجوهرية التي يتسم بها وتميزه عن غيره ) فهوية الشخص هي ما يحمله من خصائص تميزه عن غيرة من الأشخاص وينسحب المفهوم من ساحة الأشخاص إلي ساحات أكثر اتساعا كالبلاد والأمم فكل بلد تحمل تاريخ معين وثقافة معينه تجعلها متميزة عن غيرها من البلاد وبالمثل تحمل كل أمه حضارة متمايزة عن حضارات غيرها من الأمم . يمثل غياب الإحساس بالهوية أزمة عميقة على مستوى الفرد والوطن والأمة ؛فبدون الهوية يفقد المرء قيمته ودورة في الحياة كما تتأخر البلد في طريق تقدمها وإثبات وجودها بين سواها من البلاد إذا غاب عن حكامها الوعي بهويتها وكذا تتعثر الأمم في سعيها نحو صناعة الحضارة الإنسانية لو كانت غير واعية بهويتها وتتحرك من خلالها ثانيا : الصراع على الهوية (مصر أنموذج ) أ-الهوية ...ما وراء المواقف والاختيارات لم تلبث الثورة المصرية أن تنجز حتى بدأت ملامح صراع محموم على هويتها تظهر على ساحتها الاجتماعية ففي ظل النظام السابق كانت مسألة الهوية مغيبة على كل المستويات العامة والنخبوية الثقافية منها والسياسية ولما زال النظام بدأ الكل يبحث عن هوية للبلد ؛وفي سياق هذا البحث يمكن تمييز طريقين متناقضين تم سلوكهما من أجل تحصيل هوية للبلد الطريق الأول : البحث عن هوية إسلامية لمصر الطريق الثاني : البحث عن هوية علمانية لمصر سلك الطريق الأول التيار الإسلامي المنبعث من تحت ركام النظام السابق حيث لم يكن له الحق في أي ظهور مجتمعي في ظله على مدار الثلاثة عقود الأخيرة وانتهج الطريق الثاني القوى النخبوية العلمانية الحاضر في ظل النظام السابق في مستويات مختلفة ويفسر هذا الصراع على الهوية الكثير من المظاهر والتفاعلات والمواقف التي اتخذها كل فريق منذ سقوط النظام ؛إذ تعد الكثير من هذه المواقف تمظهر لصراع خفي على الهوية فكل فريق يتبني المواقف التي تخدم الهوية التي يسعي نحو تثبيتها في مصر ما بعد الثورة ويمكن التمثيل على هذا الطرح بالآتي : 1-التصويت على الاستفتاء الدستوري في 19 مارس حيث راح التيار الإسلامي يؤيد الاستفتاء لما رأي فيه حماية للمادة الثانية من الدستور وعلى الجانب الآخر وقف العلمانيون بشده أمام تمرير هذا الاستفتاء وتجلت هنا حالة الاستقطاب الحاد في المجتمع المصري 2-الدعوة إلي إنجاز دستور جديد للبلاد قبل الانتخابات تشكلت مواقف كل طرف هنا أيضا علي أساس واحد هو الهوية التي يريد صبغ مصر بها فالتيارات العلمانية وجدت في هذا السبيل ما يخدم طموحها في إرساء هوية علمانية لمصر لذا راحت تلح علي هذا المطلب وبالتالي وقف التيار الإسلامي بصلابة أمام هذا المطلب 3-الدعوة إلي وضع مبادئ فوق دستورية هنا تجلى موقف القوي العلمانية صريحا حيث لا محمل لهذه الدعوة غير ضمان عدم سير مصر في اتجاه غير طريق الهوية العلمانية وكالعادة وقفت القوى الإسلامية بحزم لهذه الدعوي وقابلت هذه الدعوى بمليونية تدعوا صراحة لحفظ هوية مصر الإسلامية ب- الهوية ...وصراع أكثر صراحة إذا كان الصراع فيما مضى من أمثلة كان مستترا خلف المواقف والاختيارات السياسية فقد كانت هناك نوعية أكثر صراحة ومثلت الساحة الإعلامية ميدان لهذا الصراع حيث راح كل فريق يتصيد أخطاء الآخر ويتربص به وصارت هناك نوبات من الهجوم المستمر من كل فريق على الآخر في محاولة لكسب الرأي العام في معركة البحث عن الهوية . ثالثا :- الهوية... مقومات أكثر منها إرادة الهوية لا تصبغ علي بلد معين لمجرد رغبة شريحة مجتمعية لها وإنما كل هوية تحتاج إلي مقومات تدعمها وتمكنها من الوجود وبالنسبة لهوية البلاد والتي تمثل الإطار العام الحاكم لثقافتها والذي يبتني عليه نمط الحياة فيها والمواقف التي تتبناها فهي لا تصنع صناعة إنما مقومات وخصائص هذا البلد هي التي تحدد الهوية التي يمكنها تقلدها فالهوية تنبع من داخل البلد ولا تزرع فيها زرعا وتتمثل أهم هذه المقومات في عناصر اللغة والتاريخ والثقافة وعلى أساس هذه العناصر تتشكل هوية البلد فهوية البلد تنبع من خلال هذه المقومات وبالنظر إلي البلاد التي مر فيها الربيع العربي نجد أن طبيعتها الثقافية وتاريخها يحملها في اتجاه الهوية الإسلامية وبالتالي من الخطأ السعي لفرض هوية علمانية ؛إذ ليس هناك من مقوم يدعم تشكلها في الواقع العربي وقد باءت كل محاولة لزرع العلمانية في الوعي العربي بالفشل فهلا يعتبر علمانيو الربيع العربي ؟!