يكاد العالم المتحضر أن يجمع علي أن اختيارات الشعب تكون عبر صناديق الانتخاب, ذلك أمر مستقر في الأحوال الطبيعية والنظم المستقرة, وفي الوقت نفسه يمارس الشعب حرية إبداء الرأي والتعبير عن طلباته بوسائل شتي. فنجد وسائل الإعلام تمتلئ بآراء متباينة بل متعارضة, وقد يصل الأمر إلي تظاهرات سلمية كبيرة أو صغيرة من أجل التعبير عن الآراء فيما تتخذه الحكومات من قرارات, ولا ينسي العالم المسيرات الحاشدة التي امتلأت بها شوارع بعض العواصمالغربية الكبري مثل لندن وباريس اعتراضا علي غزو العراق في حرب الخليج الثانية, التي اتخذت عنوانا لها تحرير الكويت من الاحتلال العراقي, لكن في جوهرها كانت إسقاطا للنظام الحاكم في العراق آن ذاك. حدث ذلك كله في مظاهرات سلمية حاشدة, وفي الوقت نفسه ناقشت المجالس البرلمانية تلك المشكلة, وأعطت الضوء الأخضر لحكوماتها أن تتحرك في المسار الذي تعارضه الجموع المحتشدة في الشوارع والميادين, وظهر وقتها تعبيران للديمقراطية أحدهما في الميادين والشوارع, والآخر داخل المجالس النيابية المنتخبة من خلال صناديق معبرة, لا تعرف تزييفا ولا تزويرا. والمقارنة بين وجهي الديمقراطية المذكورين وأقصد بهما ديمقراطية ابداء الرأي في الشوارع والميادين وأخذ القرار داخل البرلمانات توضح أن أحدهما لا يستطيع أن يلغي الأخر. أعلم جيدا أن بلادنا في طور صناعة ديمقراطية حديثة, وأدرك أن الجزء الأسهل هو احتشاد الجماهير تأييدا أو رفضا في الشوارع والميادين, وهو أيضا عمل مؤقت وإن طالت مدته, إذ لا يعقل أن تبقي الجماهير علي الدوام في الميادين تؤيد أو تعارض, لكن الجزء الدائم من الديمقراطية هو قيام مؤسساتها ورسم طريقها, وهذا يتحقق عن طريق اللجوء إلي صناديق الاقتراع, وحينما يحدث ذلك فلا يوجد فائز دائما أو خاسر دائما لأن صناديق الاقتراع تستقبل بطاقات الرأي كل فترة زمنية محددة قد يتحول الفائز فيها إلي خاسر والعكس بالعكس. وإذا طبقنا هذه الرؤية علي الأزمة السياسية الحالية بمصر فإننا نستطيع أن نرصد عدة دلالات منها تساعد السائرين في طريق ديمقراطية وليدة علي فهم أدق يمتد ليشمل بعدا زمنيا أكبر من اللحظة الحالية, وكذلك يساعد علي اتساع الأفق ليشتمل علي حقائق إضافية تزيد علي الحقيقة الواحدة التي تغلف المشهد السياسي الحالي. وعندما يتناول المصريون أمر الاستفتاء, فإن لهم أن يختاروا واحدا من احتمالات أربعة. فقد يختار البعض عدم الذهاب إلي صناديق الاقتراع وهؤلاء بالطبع لا يمكن وصفهم بالمؤيدين أو المعارضين بل هم في الحقيقة متفرجون قد يصفهم البعض بأنهم غير مكترثين بما يحدث, وأتمني أن يكون عدد هؤلاء قليلا إذ متي يتحرك المواطن إن لم تحركه الأحداث الجارية حاليا, وهناك من سيذهب ويبطل صوته اعتراضا وامتعاضا مما يحدث, ولهؤلاء أقول لقد بذلت الوقت والجهد فلماذا إذن لا تشارك في صناعة القرار لأن إبطال الصوت لا يصب في مصلحة نعم أو في مصلحة لا. وهناك ملايين سوف تذهب لتقول نعم, وهم أحرار في اختيارهم, ويرون أن الدستور يعبر عن المصلحة الوطنية, وأن إقراره سيكون بداية لاستكمال بنية الدولة الدستورية والقانونية والتشريعية حتي تتمكن الدولة بهذه الوسائل أن تخطو إلي الأمام بدلا من تلك الحلقة المفرغة التي احتوتنا طوال عامين كاملين منذ قيام الثورة. وهؤلاء الذين سيقولون نعم قد يكونون الأغلبية, لكنهم لا يستطيعون القول إنهم قد قهروا الأقلية, لأن الأقلية أمامها أن تستمر علي طريق النضال السياسي السلمي كي تحقق مآربها إن لم يكن اليوم ففي الغد القريب أو البعيد. وسوف تخرج ملايين أخري لتقول لا وهي تعرف معناها وتوابعها, ومن توابع لا الذهاب مرة أخري خلال ثلاثة أشهر لاختيار جمعية تأسيسية جديدة قد تحقق التوازن الذي يطلبه المصوتون بلا, وقد تأتي جمعية تأسيسية أخري لا تكون علي هوي من قالوا لا, فهو إذن طريق له احتمالان, ويتبعه بالضرورة كتابة مشروع دستور جديد يذهب الشعب مرة ثالثة للاستفتاء عليه( المرة الأولي يوم السبت القادم والثانية حينما يختار الشعب جمعية تأسيسية جديدة بالانتخاب المباشر والثالثة استفتاء علي مشروع الدستور). هذه طرق كلها متاحة أمام كل مواطن ومواطنة, ولكل أن يختار ما يشاء, لكن أمرا أساسيا يجب ألا يفوت أحدا من المواطنين وهو أن يقرأ مواد الدستور المعروض للاستفتاء يوم السبت القادم فإن كان أميا وجب علي القارئين الفاهمين أن يوضحوا له مواد الدستور, وفي يقيني أن الشعب كله قد تحدث ولا يزال يتحدث عن أمر الدستور, ولعلها المرة الأولي في التاريخ المصري أن يكتب دستور وتناقش مواده ويستفتي عليه تحت سمع وبصر كل المصريين مؤيدين أو معارضين, وإنها لثمرة غالية للثورة المصرية لا يقلل من شأنها أبدا إنقسام الرأي حول الدستور لأننا في أول طريق الديمقراطية, وأمامنا فيه مراحل كثيرة يجب أن نستعد لها بكل رجاحة عقل ورحابة صدر. من هذه المراحل الدخول إلي انتخابات برلمانية تحدد شكل مجلسي النواب والشوري, ولا عذر الآن لأي قوة سياسية فقد اتسعت صفحات الجرائد وقنوات البث التليفزيوني بل وميادين مصر وشوارعها لكي يعرض كل فصيل رؤيته للمسيرة الوطنية, وإنني أرجو أن يأتي المجلسان( النواب والشوري) معبرين عن طموحات هذا الشعب الصابر الذي لا يزال في انتظار تحسن أحواله المعيشية. هذا بالطبع إن كانت الأغلبية ستقول نعم وأمام المجلسين في هذه الحالة أن يصوغا القوانين اللازمة كي تتحول مواد الدستور إلي جسد تشريعي سليم ومعافي من كل الأمراض التشريعية التي ملأت حياة مصر في العقود الماضية. وإن كانت الأغلبية ستقول لا فأمامنا مراحل أطول واختبارات أصعب, وعلي كل حال الشعب قادر بإذن الله علي تجاوز هذه أو تلك. وخلاصة القول إن نعم أو لا ليست نهاية المطاف. المزيد من مقالات د.حلمى الجزار