فطنت أيضا في عام1976 إلي أن الشرق الأوسط في طريقه إلي مسار جديد بعد ثلاث سنوات من حرب أكتوبر.1973 فقد دعيت للمشاركة في مؤتمر فلسفي دولي بنيويورك في أبريل من ذلك العام. وكانت الغاية منه إجراء حوار بين الفلاسفة حول قضيتين: الوجود والعلية. ولكن الذي لفت انتباهي أنه في اليوم الخامس من المؤتمر تسلم الفلاسفة منشورا ممهورا بإمضاءات لفلاسفة من جامعة: هارفارد وواشنطن وشيكاغو وكولومبيا وبنسلفانيا ونيويورك ويوجه نقدا حادا إلي إمبراطور ايران باعتباره طاغية يعذب معارضيه ويعطي رشوة لفلاسفة أمريكان لتدعيم دكتاتوريته. والمفارقة هنا أن المنشور يعلن أن مؤتمر نيويورك ممول من الشاه, ومع ذلك فان وفدا ايرانيا مكونا من سبعة مفكرين ألقوا بحوثا تعبر عن رؤية كونية أصولية تعزل الإنسان عن قيم الحضارة الغربية وتحرضه علي العودة إلي ماض سحيق حيث القيم الروحية في نقائها الأصيل, وحيث الانسان يعي أنه موجود لا قيمة له إزاء عظمة الله. ومغزي هذه المفارقة أن الشاه المنفتح علي الغرب يستعين بمستشارين معادين للغرب. والنتيجة الحتمية لهذه المفارقة عزل الشاه وطرده من ايران في مقابل استيلاء الأصوليين علي الحكم بقيادة خوميني في يناير.1978 وإثر انتهاء مؤتمر نيويورك ذهبت إلي بوسطن لإجراء حوار مع فلاسفة جامعة هارفارد بدعوة من إدارتها علي غرار ما قمت به مع فلاسفة جامعة موسكو في عام.1968 وخلاصة الحوار مسألتان: المسألة الأولي خاصة بتغيير النظام الاقتصادي في مصر, والمسألة الثانية خاصة بدور اليهود في إقصاء الاتحاد السوفيتي. عن المسألة الأولي كان رأيي قبل الذهاب إلي بوسطن أن ثمة بزوغا لظاهرتين هما: الأصولية الدينية والرأسمالية الطفيلية ابتداء من النصف الثاني من السبعينيات من القرن العشرين. وقد دارت في ذهني هذه العلاقة بسبب تأسيس شركات توظيف الأموال التي كانت مكونة من طفيليين يتاجرون في غير المشروع وفقهاء يدعمونهم بالفتاوي. وقد جاء الحوار مؤيدا لهذه العلاقة بدعوي أن من شأنها القضاء علي القطاع العام من أجل تأسيس قطاع خاص يجهز علي القطاع العام ثم يقود قطار التنمية. وقد تأيدت أيضا هذه المسألة مع تأسيس شركات توظيف الأموال المكونة من طفيليين وأصوليين. هذا عن المسألة الأولي, فماذا عن المسألة الثانية؟ دار الحوار عن المسألة الثانية مع جيدو جولدمان أستاذ العلوم السياسية وابن نعوم جولدمان رئيس المؤتمر اليهودي العالمي سابقا. وعندما سألته عن الفارق بينه وبين والده أجاب بأنه كان يتشكك في نيات الاتحاد السوفيتي تجاه تدمير اسرائيل, أما هو فعلي يقين من هذه النيات وهي أنها تنطوي علي تدمير اسرائيل. ومن أجل منع الاتحاد السوفيتي من ذلك التدمير ارتأي نفر من يهود أمريكا أن ثمة نماذج خمسة مطروحة لاختيار أحدها. انسحاب القوتين العظميين من منطقة الشرق الأوسط. المحافظة علي التنافس المحكوم منهما. تقسيم المنطقة. تحقيق الإرادة المشتركة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي من أجل التحكم في المنطقة. استبعاد إحدي القوتين للأخري. استبعد هذا النفر من يهود أمريكا النموذج الأول والخامس لأن كلا منهما ليس في الإمكان تحقيقه. والنموذج الثالث مرغوب من الاتحاد السوفيتي, ولكن مع توافر شرطين. الشرط الأول أن تكون مصر ضمن منطقة نفوذه, والشرط أن يكون نظام مصر الاجتماعي علي نمط الديمقراطيات الشعبية. إلا أن هذا النموذج مرفوض من قبل أمريكا لأنه يعني عودة النفوذ السوفيتي إلي مصر. وهو مرفوض كذلك من قبل مصر لأنه يمنعها من المناورة وحرية الحركة, ويحرمها من زعامة العالم العربي. والنموذج الرابع مرفوض من قبل السوفيت لأنه يمنع الاتحاد السوفيتي من استثمار الصراع العربي الإسرائيلي لنشر نفوذه. يبقي النموذج الثالث وهو مقبول من كل من الاتحاد السوفيتي وأمريكا لأنه يسمح لكل طرف بزيادة نفوذه السياسي والعسكري, ثم هو يسمح بالإفادة من الايجابيات الكامنة في النموذج الرابع وهو تحقيق الارادة المشتركة. ومع ذلك فقد كان من رأيي أن ثمة نموذجا سادسا ينشد تدمير الاتحاد السوفيتي وليس مجرد استبعاده علي نحو ما ورد في النموذج الخامس. وقد أعلنت هذا النموذج في مؤتمر دولي فلسفي في سانت لويس بأمريكا في عام1986, وتفصيله في مقال قادم. المزيد من مقالات مراد وهبة