عنوان هذا المقال من وحى مصطلحين: «الانتحار النووى» و«الإرهاب النووى».. مصطلح الانتحار النووى صكه الفيلسوف الأمريكى جون سومرفيل (1905 - 1994) فى أبريل 1982 بعنوان «حقوق الإنسان فى الأخلاق والحرب النووية»، والذى دفعه إلى صك ذلك المصطلح هو الفارق الجوهرى الذى ارتآه بين الحرب التقليدية والحرب النووية. الحرب التقليدية فى تاريخ البشرية تعنى صراعاً فيزيقياً بين مجموعات من البشر يفضى إلى منتصر ومهزوم، وإلى أن المستقبل للمنتصر. أما الحرب النووية فإنها تفضى إلى حذف أى إمكانية فى مستقبل ما. وقد فطن سومرفيل إلى هذا الفارق الجوهرى بسبب استعمال القنبلة الذرية فى المرحلة النهائية من الحرب العالمية الثانية، ومن ثم قيل عن هذه الحرب إنها حرب نووية. إلا أن مصطلح «حرب نووية»، فى هذه الحالة، هو مصطلح مضلل فى رأى سومرفيل لأن الأسلحة النووية، فى حالة تطويرها لن تقف عند حد تدمير مدينتين بل ستمتد إلى حد تدمير كل المدن بلا استثناء، أى قتل البشر برمتهم بفعل بعض البشر. وعندما التقانى فى المؤتمر العالمى السابع عشر للفلسفة الذى انعقد فى مونتريال بكندا فى أغسطس عام 1983، أى بعد نشر مقاله المذكور آنفاً، أثار علىّ مسألة «الانتحار النووى» وما يلزم عنها من ضرورة تكوين تجمع من فلاسفة دوليين لمنع هذا الانتحار. وقد كان، إذ عقدنا أول مؤتمر تحت عنوان «فلاسفة دوليون لمنع الانتحار النووى» فى سانت لويس بأمريكا فى مايو 1986. وإثر انتهاء المؤتمر أسسنا لجنة دولية منظمة لأعمال هذا التجمع، وكانت تضم كبار الفلاسفة من أمريكا والاتحاد السوفيتى، من أجل ممارسة حوار فلسفى بين المعسكرين الرأسمالى والشيوعى، تكون غايته منع الانتحار النووى. وكان رأيى، فى ذلك المؤتمر، أن الأصوليات الدينية لن تسمح بممارسة ذلك الحوار لأن هذه الأصوليات ضد كل من الرأسمالية والشيوعية، بدعوة أن الأولى قيمها منحلة والثانية ملحدة. أما السبب الحقيقى فهو القضاء على «العقلانية» الكامنة فى كل منهما، فتبدأ بتدمير الاتحاد السوفيتى ثم تنفرد بعد ذلك بتدمير أمريكا، وبعد ذلك تعود البشرية إلى حالة ما قبل «إعمال العقل»، أى إلى حالة «اللاعقل» حيث تسود الأسطورة والخرافة، وبذلك تصاب البشرية ب«الكسل العقلى» وينعم الكل بفردوس النعيم. وإثر إبداء رأيى هذا ارتأى سومرفيل أن هذا الرأى جدير بحوار يتجاوز المدة المقررة له فى برنامج المؤتمر. وقد كان، إلا أن الحوار، فى نهاية المطاف، أفضى إلى القول بأن رأيى تغلب عليه نبرة التشاؤم. والمفارقة هنا أنه فى عام 1989، انهار سور برلين الذى كان يفصل بين ألمانياالشرقية الشيوعية وألمانياالغربية الرأسمالية. وبعد انهيار ذلك السور انهارت الكتلة الشيوعية واستغرق انهيارها ثلاث سنوات من 1989 إلى 1991، وبقيت الكتلة الرأسمالية فى مواجهة الأصوليات الدينية. وقد بدأت هذه المواجهة فى 11 سبتمبر 2001، وهو اليوم الدامى والمأساوى الذى دمر فيه مركز التجارة العالمى الذى يعتبر أعلى مراحل الثورة العلمية والتكنولوجية، التى هى بدورها أعلى مراحل الحضارة الإنسانية. وجاء ذلك التدمير بفعل الأصولية الإسلامية. ومع صعود الأصوليات الدينية وتراكم الأحداث الإرهابية لم تكن مقاومتهما بالأمر الميسور. وسبب ذلك مردود إلى العلاقة العضوية بين الأصوليات الدينية وما أطلقت عليه فى السبعينيات من القرن الماضى اسم «الرأسمالية الطفيلية» التى تنمو نمواً سرطانياً بفضل تعاملها مع كل ما هو غير مشروع. وقد كشف بيان «قمة باريس» فى عام 1986 عن وجود علاقة عضوية بين مافيا غسل الأموال والتنظيمات الأصولية الإرهابية. وفى 13 أبريل من هذا العام صدر عن «قمة الأمن النووى» بيان بإجماع 47 دولة على ضرورة مكافحة «الإرهاب النووى»، إذ إن كمية صغيرة من البلوتونيوم فى حجم التفاحة كفيلة بقتل مئات الآلاف من الأبرياء. وفى حالة حصول الشبكات الإرهابية - مثل «القاعدة» - على تلك المواد، فإن الأمن الكوكبى ينهار بالضربة القاضية. والسؤال بعد ذلك: ماذا يبقى بعد ذلك؟ لا شىء سوى ذكرى مزدوجة: ذكرى عن بشر كانت حرفتهم «إعمال العقل»، فانقض عليهم أصوليون طفيليون، حرفتهم «إبطال إعمال العقل». وذكرى عن ذلك البيان الذى صدر عن «قمة الأمن النووى»، وجاء خالياً من عبارة حضارية جوهرية هى كيفية «منع إبطال إعمال العقل».