تمر الأحداث وتتراكم لتبرز قيمة أفكار حتي ترفعها الي مقام واجب الوقت وحال الضرورة, نمر بها مع الحدث وقد لانقف عندها بالعمل لها أوعليها, ويحين الوقت ليمثل أحد أهم العوامل الدافعة لضرورات التعامل مع الفكرة لا بمنطق الوصف والتشخيص بل بمنطق الآليات والتفعيل, بمنطق بلاغة الفعل والعمل والتمكين لا بمنطق بلاغة الكلام والأقوال, تذكرت كل ذلك وأنا أعلن استقالتي من كوني عضوا في الهيئة الاستشارية لرئاسة الجمهورية احتجاجا علي دماء سالت, وطرائق في التعامل السياسي صارت في حكم الموروثات عمت وسادت, دارت حول مواقف مغلقة وسياسات الجدار المسدود نصل إليها كل مرة من أقرب طريق, تبدو هذه المواقف العقيمة والسياسات القديمة حالة مستعصية, عصية علي التعامل فضلا عن التنازل. وفي كل مرة لم تكن هذه المواقف أوتلك السياسات ليست إلا حركة الفعل ورد الفعل تسير في إطار التعقيد وخلو من مسار الترشيد, لا تتكافأ بحال مع سعة الوطن واتساعه, ولا مع المجتمع ومقتضيات اجتماعه, ولا مع الثورة وحقائق قيمها الأساسية والمسار الثوري ونهوضه وارتقائه, وطن يصرخ ومجتمع يئن ونخبة تمن علي ناسها وشعبها, وصارت النخب بعد أن تمكن منها فيروس الاستقطاب, تؤزم المواقف وتسد كل باب, حتي لو أدي كل ذلك الي مجتمع علي حافة الاحتراب ومسيرة الخراب, وكأني أضيف الي قوانين ابن خلدون بخراب العمران, أن الاستقطاب والانقسام يؤذنان بخراب العمران والإنسان والأوطان. قامت ثورة25 يناير بعنفوان شبابها وفتوة أبنائها, وجذب الشباب بقية مجتمعه وشعبه الي كل قيم تؤكد التماسك ولحمة الاجتماع في مشهد شهد له القاصي والداني, بقيم تحركت في ميدان التحرير وكل ميدان, حتي هبطت عليه النخبة في فترة انتقالية سيرها العسكر فيما أسمي بالإدارة بالكوارث,وأتت فترة أخري لرئاسة منتخبة تدير مرحلة انتقالية أخيرة تدير انتقالا مؤسسيا وسياسيا يمكن تسمية إدارتها مع نخبة رافقتها بإدارة الفرص الضائعة والقرارات والمواقف الفاجعة. التفكير المرة تلو المرة سار في طرائق النخبة القديمة والعقيمة, تحركت بنوازع المصالح الآنية وتصفية الحسابات الماضية, وعقلية المغانم مادية كانت أو معنوية, حتي لو تدثر كل ذلك بمطالب الثورة والتفوه بشعاراتها, إنها ياسادة النخب المحنطة في الشكل وفي الجوهر, في المبني وفي المعني, في القول وفي الفعل,محنطة الخطاب, ومحنطة المسالك والآليات, نخبة وكأنها أتت من زمن مضي, أسيرة له ولكلماته, وكأن الثورة لا تفرض رؤي جديدة وآليات جديدة وعملا جديدا, وهي بالضرورة وبالقطع كذلك بحكم التعريف وبحكم الأدوار الجديدة والتوظيف. يتحدثون عن ثورة بلغة الماضي ومفردات النظام القديم, ويتحدثون عن حماية الثورة وينقضون ذلك, وترك لنا النظام القديم نخبة محنطة عقيمة, وحقل ألغام كبيرا, وممارسة لمرحلة انتقالية كرست الفرقة والانقسام, والاستقطاب والفوضي,وجاء بعد ذلك من جاء أسيرا لكل ذلك مرتهنا للغة ومسالك الماضي, ليؤزم المواقف ويضيع الفرص, وصار المشهد والثورة والوطن فريسة لمحدثي سياسة من بعض السلفيين ومحدثي سلطة من بعض جماعة الإخوان ومشتاقي سلطة ورئاسة من قوي تدثرت بغطاء المدنية رأت أنها الأحق بالرئاسة والسلطان ونخبة محنطة أتت من جوف زمن مضي, وجنب الجميع دون استثناء الشباب وشبابهم الذين حملوا عبء الثورة وأطلقوا شرارتها, وحولوهم لأدوات في أتون الصراع السياسي بين فرقة طالتهم, ومتمرسين في السياسة وظفتهم, بين لغة الولاء والسمع والطاعة, وبين لغة تسليم القياد لرموز وطنية اختلطت لغة المصالح عندهم بلغة التوظيف, لا أقول ذلك تجنيا ولا تزيدا ولكن أقوله مؤكدا ومتأكدا بقرائن من الأحداث الأخيرة أمام قصر الاتحادية, كل دفع أولاده وبمصالح ضيقة الي اقتتال وقتل وإصابات, قتل شهداء وسالت دماء, وظلت النخبة المحنطة بعضها يحكم, وبعضها يريد أن يحكم, وشباب الثورة علي الجانبين يسقط ويزهق. إخواني من النخب المحنطة التي تمكنت من كل فريق منهم شهوة السلطة, ليجعلوا جميعا شباب الثورة لهذا التوظيف المريب, ولهذا الإقصاء العجيب, والتحاشي لتمكين شباب أكيد, ماجعل الشباب لهذا, وإنما جعل الشباب ليمكنوا ويقودوا, جعل الشباب بفتوتهم وجرأة أفكارهم ليشتبكوا مع قضايا مجتمعهم بعد أن سكت الجميع عن إقصائهم مرة عن بطالتهم, ومرة بالإقصاء المتعمد لفعاليتهم وحركتهم, ماعاد هذا الموقف يصلح, ستسلمنا النخبة العقيمة المرة تلو المرة لأزمة يمكن أن تتحول الي كارثة علي الوطن, سيصرفوننا عن أهداف ثورة, وسيتحكمون فينا بقواعدهم القديمةونوازعهم المصلحية العقيمة بشهوة السلطة والسلطان, ستضيع ثورة بذل فيها الغالي والرخيص, سيعود النظام القديم بشخوصه وتحالفاته ومصالحه القديمة بدولتهم العميقة, سيموت الشباب بتوظيف رخيص من نخبة محنطة. إن ثورة الشباب الجديدة لصناعة نخبة جديدة تتطلب منهم أن يخرجوا من وعلي مربعي الاستقطاب المتحرك بفعل النخبة العقيمة بنوازعها المصلحية, نريد تأسيس مربع ثالث تتحرك فيه قوي الوسط لا القوي التي تغلق الأبواب وتتصلب في المواقف, إن بناء مجتمع تستأهله الثورة ونهوض وطن إنما يتحقق بتمكين شباب في نخبة جديدة حقيقية لا تقوم علي حسابات المصلحية ولا تصفية حسابات قديمة. هذه النخبة الجديدة يقودها الشباب, وبكوادر ناضجة فاعلة تشتبك مع قضايا الناس وتحقق آمالهم في ثورة عظيمة, تتعرف علي الدواعي الحقيقية الدافعة لتأسيس نخبة جديدة والعوامل المانعة لتتغلب عليها, وسمات حاسمة لهذه النخبة لتمكن لها بآليات فاعلة, هذه النخبة الجديدة لابد وأن يجمعها مشروع جامع قادر علي تفجير طاقاتهم الثورية واستثمارها في العمل السياسي والمجتمعي, نخبة تعرف أن مرجعيتها في نظامها العام وهويتها الوسطية ومواطنيتها الحقيقية, وتجعل من مداخل شرعيتها القدرة علي حماية هذه الثورة واستئناف مسيرتها, وتؤكد مداخل المشاركة والجامعية فيها لا تفرق, ولا تنفي, ولا تستبعد, ولا تستأثر, ولا تستكفي, ولا تستغني, ولا تستعلي, إن مداخل الجامعية تلك هي التي توفر لهذه النخبة الجديدة مناط تماسكها وقدرات تفاعلها, ومن مداخل الجامعية تولد عناصر الدافعية, دافعية بعمل تستكمل به هذه الثورة مرحلة بناء حقيقية تعم علي الجميع وللجميع, وهي بكل هذا إذ تجمع بين مداخل المرجعية الحقيقية وشرعية الرضا والتراضي, وجامعية المشاركة والتماسك, ودافعية المشروع والأهداف, هذه جميعا تؤسس لمداخل فاعلية علي الأرض. هذا وحده هو الكفيل بنا أن نفكر كما علمتنا ثورة25 يناير خارج الصندوق, خارج صندوق النخب المحنطة والعقليات الضيقة والمصالح الأنانية والآنية التي ستوصلنا كل مرة إلي جدار مسدود ومواقف مغلقة. الوطن لم يعد يحتمل أو يتحمل نخبة تدخله في مآزق وتصنع الأزمات, وأصبح في حاجة إلي نخبة شبابية فاعلة تفك ارتباطها بالنخبة العقيمة المحنطة, وتؤسس وتؤصل لنخبة جديدة تكون جزءا من الحل لا جزءا من المشكلة, نخبة تلتحم بالناس لا تنتفع منهم في مناسبات انتخابية, أو تترفع عنهم في مطالب وحاجات ضرورية, تنادي بحقوقهم وتلتحم بقضاياهم الأساسية ومشاكلهم الحقيقية. من جديد أطالب الشباب بالخروج من دائرة الاستقطاب إلي دائرة نخبة جديدة ومربع ثالث يبني الوطن ويحمي الثورة, فدماء شبابنا ليست رخيصة. المزيد من مقالات د.سيف الدين عبد الفتاح