بحمد الله, انتهت الجمعية التأسيسية, بالرغم من الصعوبات الكثيرة والاستقطاب الحزبي والسياسي . ومن الواجب علينا وكافة أصحاب الرأي والمتخصصين أن نقدم للمواطن, في الأيام القادمة, تحليلا لبنود الدستور المقترح, ونقيم مدي إستجابته لآمال الجماهير. لقد نسينا في خضم الجدل حول تشكيل الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور, وما أثير من مخاوف حول صياغة البنود المتعلقة بالحقوق السياسية والثقافية والمدنية, الجانب الإقتصادي في تنظيم المجتمع في الدستور, بالرغم من اهمية القضايا الإقتصادية في حياة المواطن, وتتعلق الجوانب الإقتصادية بما يخص فلسفة الدولة فيما يخص ملكية أدوات الإنتاج, وكيفية تشغيلها, وتنمية الناتج القومي, والتشغيل, وكذلك قضايا توزيع الناتج القومي وتوفير الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وبيئة نظيفة, واخيرا المساهمة في أعباء الخدمات العامة. بينما تعرض دستور1971 لفلسفة الدولة الإقتصادية وذكر ان الإشتراكية هي الركن الأساسي في المجال الاقتصادي, لم يتعرض الدستور الجديد الي الفلسفة الإقتصادية للحكم. وبعكس توقعات البعض من أن حزب الحرية والعدالة وحلفاءه من الأحزاب الدينية سوف يتبني منهج الإقتصاد الحر أو أن يدعو الي صور مختلفة من صور الإقتصاد الإسلامي, جاءت مسودة الدستور الجديد خالية من أي إنحياز صريح لأي فلسفة إقتصادية محددة. وكان إتحاد الغرف التجارية قد دعي الي التبني الواضح والصريح لمباديء الاقتصاد الحر واقتصاد السوق المهذب والمراقب من قبل ادارة قوية حازمة قادرة علي ضبط الايقاع الإقتصادي.( أنظر الأهرام في16 يناير2012). وعموما تبني الدستور بعض مظاهر الإقتصاد الليبرالي حيث تكلمت ديباجيته عن الإيمان بحرية المواطن في كل جوانب حياته, ليس فقط في الفكر والإبداع والرأي, ولكن أيضا في التملك, وفي التصرف في أمواله واستغلالها, بإعتبارها حقوقا سماوية تسبق الدساتير والقوانين الوضعية. وفي الفصل الثالث من الباب الأول الخاص بالدولة والمجتمع, أشار الدستور الي أن الدولة تكفل الملكية المشروعة بأنواعها العامة والتعاونية والخاصة والوقف( م.21), وأن الملكية الخاصة مصونة,( طالما) تؤدي وظيفتها في خدمة الإقتصاد الوطني دون إنحراف أو إحتكار( م.24). وهكذا يبدو أن الدستور الجديد يأخذ بمبدأ الحيادية في التعامل مع أشكال الملكية المختلفة. والإستثناء الوحيد هو ما يبديه من ضيق بالإحتكار, وبالفساد( الذي أنشأ له هيئة متخصصة بمكافحة الفساد). ولم يشر الدستور إلي دور الدولة في تشجيع القطاع الخاص أو الإستثمار أو في خلق فرص العمل بشكل مباشر, وإن أشار الي إلتزام الدولة بتنمية الريف والبادية( م.16), وشدد علي أن الدولة ترعي الصناعات الصغيرة والحرفية( م.17). من المثير للإنتباه أن الدستور المقترح قد إشار الي دور الدولة في تحقيق التنمية الإقتصادية, ورفاهية المواطن, بصورة إنشائية وعامة ولا تتناول آليات محددة. فالمادة24 في الفصل الثالث من الباب الثاني, الخاصة بالمبادئ الإقتصادية, تنص علي أن يهدف الاقتصاد الوطني إلي تحقيق التنمية المطردة الشاملة, ورفع مستوي المعيشة وتحقيق الرفاه, والقضاء علي الفقر والبطالة, وزيادة فرص العمل, وزيادة الإنتاج والدخل القومي. ولم تذكر وثيقة الدستور عما إذا كانت هذه الأهداف ستحقق بذاتها أم انها مسئولية القطاع الخاص أو الحكومة أم الإثنين معا.. وإذا كان القطاع الخاص سيقوم بالدور الرئيسي في هذا المجال فما هي آليات تشجيعه؟ وإمتد الغموض ليشمل دور الخطط الإقتصادية التي تناولته نفس المادة, فذكرت وتعمل خطة التنمية علي إقامة العدالة الاجتماعية والتكافل, وضمان عدالة التوزيع, وحماية حقوق المستهلك, والمحافظة علي حقوق العاملين, والمشاركة بين رأس المال والعمل في تحمل تكاليف التنمية,والاقتسام العادل لعوائدها. أي أن خطة الدولة لن تعني بالتنمية وزيادة الإنتاج, بل ستعمل علي تحسين توزيع الدخل وإقامة العدالة الإجتماعية, وهي أهداف عادة ماتترك للموازنة العامة ووزارة المالية. لعل أحد إيجابيات الدستور الجديد إقراره لمجموعة جديدة وأكثر تفصيلا من الحقوق الإقتصادية ومنها حق المواطن في تعليم عالي الجودة, والمجاني( م.58), وإلتزام الدولة بوضع خطة لمحو الأمية في عشر سنوات( م.61), وكذلك توفير الرعاية الصحية وتخصص الدولة له نسبة كافية من الناتج القومي( م.62). وكذلك الإشارة الي أن المسكن الملائم والماء النظيف والغذاء الصحي حقوق مكفولة( م.67). ولعل أحدا لتحديات الكبري لمسئولي السياسة المالية في المرحلة القادمة هي كيفية تمويل هذه الزيادة الكبيرة في تكلفة الحقوق الأساسية والإقتصادية للمواطنين. ولا مفر من أن تعمل الدولة علي تحقيق زيادة كبيرة في إيراداتها السيادية, وفي الضرائب. ويشير الدستور, في هذا المجال, الي دور العدالة الإجتماعية والتكافل بين الطبقات, وتشجيع الوقف الخيري. وكل هذا هي صياغات جديدة تعكس بحق روح ثورة25 يناير ومطالب الشعب. وفي النهاية, وإذ نرحب بهذه المبادئ الدستورية الجيدة الإعداد, يجب التنويه الي أنها لا تكفي بذاتها لتحقيق حياة كريمة وعادلة, بل يلزم لتحقيقها وجود حياة نيابية سليمة, ورقابة شعبية نشطة, وإعلام وطني حر يعي حقوق المواطن ويدافع عنها. المزيد من مقالات د. علي عبد العزيز سليمان